أبو العباس القلانسي من أبرز من تولّى الذبّ عن عقائد أهل السنة في مرحلة مبكرة قبل أن يبرز أبو الحسن الأشعري نفسه

يُعدّ أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي من أوائل متكلّمي أهل السّنة في القرن الثالث الهجري، ومن أبرز من تولّى الذبّ عن عقائد أهل السنة في مرحلة مبكرة، قبل أن يبرز أبو الحسن الأشعري نفسه.
بلغت مؤلفاته أكثر من مائة وخمسين مصنَّفًا، من بينها رسائل في الردِّ على النظّام المعتزلي، غير أنّ هذه المؤلفات قد فُقِدت ولم يصل منها شيء، وهو ما أسهم في قلة المادة الترجميّة عنه مقارنةً بغيره مثل ابن كُلّاب و الحارث المحاسبي.
وقد نبّه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري إلى خطأ نسبة القلانسي إلى تلامذة الأشعري، فقال: “«أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي، من معاصري أبي الحسن رحمه الله، لا من تلامذته كما قال الأهوازي، وهو من العلماء الكبار الأثبات، واعتقاده موافق لاعتقاد أبي الحسن في الإثبات». انتهى
وبذلك يتبيّن أنّ أبا العباس القلانسي ليس هو إبراهيم بن عبد الله القلانسي ولا أحمد بن إبراهيم القلانسي، وهما من طبقة ابن فورك، أي من الجيل الثاني من الأشاعرة بعد الأشعري.
1- كلامه عنن الاستواء
نقل أبو منصور عبد القاهر البغدادي في أصول الدين أنّ القلانسي فسّر الاستواء بقوله: «معناه: كونه فوق العرش بلا مماسة». انتهى
ونقل ابن تيمية هذا القول في درء تعارض العقل والنقل مثبّتًا أنّ هذا المذهب كان مشتركًا بين عدد من كبار متكلّمي القرن الثالث، فقال: ” فيقال: الناس لهم في هذا المقام أقوال: منهم من يقول: هو نفسه فوق العرش غير مماس، ولا بينه وبين العرش فرجة، وهذا قول ابن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، والأشعري، وابن الباقلاني، وغير واحد من هؤلاء، وقد وافقهم على ذلك طوائف كثيرة من أصناف العلماء، ومن أتباع الأئمة الأربعة، وأهل الحديث والصوفية، وغيرهم”. انتهى
يُفهم من ذلك أن إثبات العلو كان عندهم علوًّا منزّهًا عن التحيُّز والمماسة.
2- تنزيه الله عن المكان والجهة
كان القلانسي ممّن يصرّح بنفي التحيز والحلول والمكان عن الله سبحانه. غير أنّ بعض المتأخرين نسبوا إليه عبارة « الله في مكان دون مكان»، وهي نسبة تحتاج إلى التمحيص، إذ لم يذكرها عنه عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429 هجري، بل ذكرها بعض من جاء بعده.
ويُجاب عن ذلك من ثلاثة وجوه:
أ- انقطاع النقل: إذ لا يوجد مصنَّف مسند للقلانسي يثبت هذا القول عنه، لأن كتبه مفقودة، وما ورد إنما هو روايات متأخرة.
ب- الالزام في سياق المناظرة: نقل أبو القاسم الأنصاري في شرح الإرشاد ما نصه: ” وأجمع أصحابنا على نفي التحيز والتمكن في الجهات على الإله سبحانه، إلا أن متقدمي أصحابنا أطلقوا ألفاظًا، من جهة الخبر والسمع، فقالوا: إنه سبحانه فوق العالم وفوق كل شيء، مع اعتقادهم نفي التحيز والتمكن. وهذا قول عبد الله بن سعيد وغيره، وكان يرد على القائلين بالجهة والتحيز، إلا أنه أطلق ذلك شرعًا. وقال أبو العباس القلانسي: ” إنه سبحانه بمكان دون مكان” وقصد بهذا الرد على القائلين من المعتزلة بأنه بكل مكان، وقال:”كل ما أطلقه الشرع فواجب إطلاقه” وصرح بنفي التحيز والتمكن”. وقال شيخنا أبو الحسن: إنه سبحانه فوق العرش وفوق خلقه فوقية الرتبة لا فوقية المكان والجهة”. انتهى
فالقلانسي قال هذه العبارة على سبيل الإلزام للمعتزلة الذين قالوا إن الله «في كل مكان»، فألزمهم بأن النصوص الشرعية تذكر العلو والفوقيّة، فإذا تمسكوا بظواهر آيات المعية، لزمهم التمسك بظواهر آيات العلو أيضًا، وإلا فهذا تحكم في النصوص.
ثم إن الجهمية كانوا يقولون بأن الله حال في كل الأمكنة و محيط بالكرة الأرضية وبالعالم من كل الجهات وهذا يلزم منه أن العالم كله داخل الله والله محيط به من كل الجهات إحاطة حسية، تعالى الله عن ذلك، وبالتالي هم أنفسهم لا يقولون بعلو الله علوا حسيا وإنما بإحاطة الله للكون، ويزعمون أن هذه الإحاطة تسمى علوا.
فالظاهر أن بعض النقلة اختلط عليه مثل هذا التفصيل فجعل الزام القلانسي للمعتزلة قولا له.
ج- احتمال التحريف النصي في النقل المتأخر:
الأقرب أن كلام القلانسي تم تحريفه من قبل بعض النساخ بعد زمن عبد القاهر البغدادي، فتناقل بعض العلماء ذلك التحريف و أودعوه كتبهم ومنهم.

  • أبو بكر بن عربي، حيث قال في كتابه “المتوسط في الاعتقاد والرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد ” ما نصه: “وقد قال القلانسي من شيوخنا: “نطلق أن البارئ في مكان دون مكان (و في السماء، لما) ورد بذلك الشرع”، قصد مخالفة المعتزلة حيث قالوا إنه في كل مكان”. انتهى
    والذي نميل إليه أن أن القلانسي في معرض مناظرته للمعتزلة قال تنزلا: “نطلق أن البارئ في مكان دون مكان، لو ورد بذلك الشرع” و إلا ففي الشرع لم يرد وصف الله بأنه ” في مكان دون مكان” بل هذا اللفظ نهى عن إطلاقه العلماء كالنسفي و غيره.
  • أبو المظفر الإسفاراييني المتوفى سنة 471 هجري: أورد عبدالله التوراتي محقق كتاب المتوسط نصاً نقله من مخطوطة كتاب الأوسط لأبي المظفر الإسفاراييني، حيث ذكر في هامش الصحيفة 165 ، أن القلانسي قال: “إن الباري تعالى في مكان دون مكان؛ وأطلقه من حيث الشرع ؛ فقال: أَطْلَقَهُ الشَّرْعٌ فوجب إطلاقه » وإنما أراد به مخالفة المعتزلة في قولها: إنه بكل مكان» وقد صرّح بأن قال: “إني لا أريد به التحيز والتمكن ” وقال: أقول: إنه في السماء لقوله تعالى: “آمنتم من في السماء”» ولإطلاق السلف من الأمة لذلك» ونّصّ في كتبه على أن معنى قولنا: إنه في السماء؛ أنه فوقه؛ كقوله تعالى : ” ولأصلبنكم في جذوع النخل”، وليس الفوق على مذهبه محمولا على الجهة بحال من الأحوال”. انتهى
  • ابن بزيزة التونسي المتوفى سنة 673 هجري في الاسعاد في شرح الارشاد حيث قال: “ثم يجب بعد ذلك التنبيه على مغلطة: ذهب القلانسي من مشايخ الأشعرية إلى إطلاق القول بأن الله تعالى في مكان دون مكان، وأنه في السماء تمسكاً بظاهر ما ورد في الشرع، ومذهب المحدثين أنه في كل مكان. ذهب إليه البخاري وغيره من المتقدمين والمتأخرين. ومنع الأشعري من هذا الإطلاق. والحق أنه إن أريد به النسبة العلمية فإطلاقه واجب، وإن أريد به غير ذلك من لوازم الأجسام فهو مستحيل”. انتهى
    وهذا النقل الأخير لم يرضاه الإمام البرزلي المالكي المتوفى سنة 844 هـجري، فقد ذكر ابن حجر في الفتاوى الحديثية نقلا عن البرزلي أنه قال: ” وحكاه ابن بزيزة في شرح الارشاد عن القلانسي من مشايخ الأشعرية وعن البخاري وغيره ، غير أن هذا محدث “. انتهى
    فالبرزلي اعتبر النقل مُحدَثًا غير مُعتمد.
    3- كلامه عن صفة اليد
    ذكر أبو منصور البغدادي في أصول الدين أن القلانسي قال عن ” اليدين” أن التثنية ترجع الى اللفظ لا الى الصفة ونص عبارته :”وزعم بعض أصحابنا أن اليدين صفتان لله سبحانه وتعالى، وقال القلانسي هما صفة واحدة “. انتهى
    ونقله عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى