أبو عثمان الصابوني وكلامه عن النزول
قال اسماعيل التيمي الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة: “أخبرنا أبو بكر الصابوني، أنبأنا والدي إسماعيل الصابوني قال : “ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف، بل يثبتون له ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه، ويمرّون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله عز وجل.” انتهى
وهذا الأثر أيضا ذكره الصابوني في رسالته المسماة “عقيدة أصحاب الحديث”.
و معنى قوله “ويمرّون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره” أي امرار الأثر كما جاء بلا كيف بدليل قوله:” ولا تمثيل، ولا تكييف، بل يثبتون له ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه”. انتهى
ولعل ما قاله الشيخ الصابوني في وصيته التي نقلها التاج السبكي في طبقاته يوضح مراده حيث قال: “ويشهد أن الله تعالى موصوف بصفات العلى التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه لا ينفي شيئا منها ولا يعتقد شبها له بصفات خلقه بل يقول إن صفاته لا تشبه صفات المربوبين كما لا تشبه ذاته ذوات المحدثين تعالى الله عما يقول المعطلة والمشبهة علوا كبيرا. ويسلك في الآيات التي وردت في ذكر صفات البارىء جل جلاله والأخبار التي صحت عن رسول الله بابها كآيات مجيء الرب يوم القيامة وإتيان الله في ظلل من الغمام وخلق آدم بيده ، واستوائه على عرشه وكأخبار نزوله كل ليلة إلى سماء الدينا والضحك والنجوى ووضع الكنف على من يناجيه يوم القيامة وغيرها مسلك السلف الصالح وأئمة الدين من قبولها وروايتها على وجهها بعد صحة سندها وإيرادها على ظاهرها”. انتهى
معناه أنه يورد الآثار كما جاءت بلا تفسير أو تأويل و بلا اثبات كيف بدليل قوله بعد ذلك مباشرة: ” والتصديق بها والتسليم لها واتقاء اعتقاد التكييف والتشبيه فيها واجتناب ما يؤدي إلى القول بردها وترك قبولها أو تحريفها بتأويل يستنكر ولم ينزل الله به سلطانا ولم يجر به للصحابة والتابعين والسلف الصالحين لسان”. انتهى
فقوله: ” واتقاء اعتقاد التكييف والتشبيه” فيه هدم لمعتقد المجسمة الحشوية.
وليعلم أن الغالب على أهل الحديث اثبات النزول صفة لله بلا كيف وإلا فقد ثبت عن بعضهم اثبات النزول صفة فعل لله أي أنه فعل له عز و جل يحدثه في السماء وهذا ما كان عليه عبد الله بن المبارك و إسحاق بن راهويه و الفضيل بن عياض و غيرهم.
قال الاصبهاني في الحجة :” قال- أي الصابوني-: وحدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم العدل، حدثنا محبوب بن عبدالرحمن القاضي، حدثني جدي أبو بكر محمد بن أحمد بن محبوب، حدثنا أحمد بن حيّويه، حدثنا أبو عبد الرحمن العتكي، حدثنا محمد بن سلام، قال : سألت عبدالله بن المبارك عن نزوله ليلة النصف من شعبان، فقال عبد الله : يا ضعيف! ليلة النصف ينزل؟ في كل ليلةٍ ينزل، فقال : الرجل : يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان منه ؟ فقال عبد الله بن المبارك : كذ حذائي خويس كن، ينزل كيف يشاء” انتهى
وهو مذكور في رسالة عقيدة أصحاب الحديث للصابوني.
فابن المبارك أجاب ذلك الرجل الذي يعتقد التجسيم و التشبيه في حق الله بقوله : ” كذ حذائي خويس كن” وهو كلام بالفارسية ومعنى ذلك بالعربية : “ينزل كيف شاء” أي أن النزول فعل يحدثه الله عز و جل في السماء بمشيئته.
وجاء في عقيدة أصحاب الحديث أيضا: “قال أبو عبد الله بن أبي حفص البخاري أيضا في كتابه: ذكر إبراهيم عن الأشعث قال سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا قال لك الجهمي: إنا لا نؤمن برب ينزل عن مكانه. فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء”. انتهى
وبعض أهل الحديث يؤول الأثر الوارد في النزول بالتجلي فقد قال الشيخ أبو عثمان الصابوني في عقيدة أصحاب الحديث: ” سمعت الأستاذ أبا منصور على إثر هذا الحديث – أي حديث النزول – الذي أملاه علينا يقول سئل أبو حنيفة عنه فقال: “ينزل بلا كيف ” وقال بعضهم: “ينزل نزولا يليق بالربوبية بلا كيف، من غير أن يكون نزوله مثل نزول الخلق، بل بالتجلي والتملي، لأنه جل جلاله منزه أن تكون صفاته مثل صفات الخلق، كما كان منزها أن تكون ذاته مثل ذوات الخلق، فمجيئه وإتيانه ونزوله على حساب ما يليق بصفاته، من غير تشبيه وكيف. انتهى
والحاصل أن الشيخ الصابوني أكد على أن مذهب أهل الحديث هو مذهب التفويض دون التشبيه فقال في عقيدة أصحاب الحديث : ” وقرأت في رسالة الشيخ أبي بكر الإسماعيلي إلى أهل جيلان أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل: “هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام” وقال: “وجاء ربك والملك صفا صفا” ونؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف، فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك – أي حقيقة ذلك – فعل، فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه إذ كنا قد أمرنا به في قوله عز وجل: “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب”. انتهى
تنبيه أول:
ثبت عن الإمام الصابوني في عدة مواضع نفي الكيف عن الله. فذكره للكيفية في بعض المواضع من رسالته عقيدة أصحاب الحديث يريد بها الحقيقة و إلا لتضاربت أقواله و تدافعت، من ذلك قوله:
– فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل: أي لو شاء أن يبين لنا حقيقة ذلك فعل. وإلا فإن الشيخ الصابوني من أهل التفويض و لا يخوضون في المتشابه بدليل قوله بعد ذلك: “فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه”
– وقوله: “وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد الذي صنفه وسمعته من حامله أبي طاهر رحمه الله تعالى.باب ذكر أخبار ثابتة السند رواها علماء الحجاز والعراق في نزول الرب إلى السماء الدنيا كل ليلة من غير صفة كيفية النزول إثبات النزول : نشهد شهادة مقر بلسانه، مصدق بقلبه، متيقن بما في هذه الأخبار من ذكر النزول من غير أن نصف الكيفية، لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى السماء – الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل. انتهـى.
فالكيفية وردت في اللغة بمعنى الحقيقة، كما قال الشاعر:
كيفيةُ المرءِ ليسَ المرءُ يُدركها فكيف كيفيّةُ الجبارِ في القِدَمِ
ومما يدل على نصاعة معتقد الشيخ الصابوني و مخالفته للمجسمة قوله في عقيدة أصحاب الحديث: ” فلما صح خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيها له بنزول خلقه، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوا كبيرا، ولعنهم لعنا كثيرا”. انتهى
تنبيه ثان:
جاء في عقيدة أصحاب الحديث ما نصه: ” ولهذا الحديث طرق إلى أبي هريرة، رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة…..”
إلى أن قال: ” أخبرنا أبو محمد المجلدي أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر قال: أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أشهد عليهما أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول هبط إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مذنب؟ هل من مستغفر؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى تطلع الشمس”. انتهى
و أما قوله في موضع آخر: “أخبرنا أبو محمد المجلدي أنبانا أبو العباس يعني الثقفي حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا شبابة بن ثوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر قال: أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يمهل حتى إذا كان ثلث الليل هبط إلى هذه السماء، ثم أمر بأبواب السماء ففتحت فقال: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فاغفر له؟ هل من مضطر أكشف عنه ضره؟ هل من مستغيث أغيثه؟ فلا يزال ذلك مكانه حتى يطلع الفجر في كل ليلة من الدنيا”. انتهى
فهذا الأثر فيه:
– يونس بن أبي إسحاق وهو رجل صاحب غفلة و حديثه مضطرب مع كونه صدوق. قال الإمام أحمد عنه: “حديثه فيه زيادة علي حديث الناس”، ومرة قال: “حديثه مضطرب “.
– شبابة بن ثوار. قال أبو حاتم : صدوق ، ولا يحتج به. وروى أحمد بن أبي يحيى عن أحمد بن حنبل قال : تركته للإرجاء. وقال علي بن المديني : صدوق إلا أنه يرى الإرجاء ، ولا ينكر لمن سمع ألوفا أن يجيء بخبر غريب.
تنبيه ثالث
لقد كان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المشهور بابن راهويه أحد علماء السلف الذين يثبتون النزول صفة فعل لله تعالى و ليس صفة ذات أي أن النزول فعل له عز و جل يحدثه في السماء .
فقد قال الذهبي: “وورد عن إسحاق أن بعض المتكلمين قال له: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء. فقال: آمنت برب يفعل ما يشاء.” انتهـى
و قال اسماعيل التيمي الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة : “أخبرنا أبو بكر – أي الصابوني-، أنبأنا والدي، أنبأنا أبو بكر بن زكرياء الشيباني، قال : سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول : سمعت حمدان السلمي، وأبا دَاوُدَ الخفاف يقولان : سمعنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي – أي ابن راهويه- يقول : قال لي الأمير عبد الله بن طاهر : يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا” كيف ينزل؟ قال : قلت : أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب كيف؟ إنما ينزل بلا كيف”انتهـى
وهذا الأثر نفسه ذكره الصابوني في رسالته المسماة “عقيدة أصحاب الحديث”.
فالنزول عنده فعل لله عز و جل يحدثه في السماء.
و أما قاله أبو عثمان الصابوني في عقيدة أصحاب الحديث : “سمعت الحاكم أبا عبدالله الحافظ يقول سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول : سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول : سمعت أحمد بن سعيد بن إبراهيم أبا عبدالله الرباطي يقول : حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم، وحضر إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه، فسئل عن حديث النزول أصحيحٌ هو؟ قال : نعم، فقال له بعض قواد عبد الله : يا أبا يعقوب أتزعم أن الله تعالى ينزل كل ليلة؟ قال : نعم. قال : كيف ينزل؟ فقال له إسحاق أثبته فوق حتى أصف لك النزول. فقال الرجل : أثبتُّهُ فوق، فقال إسحاق : قال الله عز وجل : “وجاء ربك والملك صفاً صفاً” فقال الأمير عبدالله : يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة، فقال إسحاق : “ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم”؟” انتهـى
فهذه القصة هي متممة للقصة السابقة لأنها وقعت في نفس المجلس، فلما سأل الأمير عبد الله بن طاهر، ابن راهويه عن كيفية النزول أجابه بقوله: “لا يقال لأمر الرب كيف؟ إنما ينزل بلا كيف” أي لا يقال لأمر الله و فعله كيف إنما يجوز السؤال عن أثر فعله الذي يحدثه في السماء كالرحمة و المغفرة. فقال له بعض قواد الأمير : يا أبا يعقوب أتزعم أن الله تعالى ينزل كل ليلة؟ بمعنى أتزعم أنه ينزل الرحمة و المغفرة كل ليلة؟ فقال ابن راهويه : نعم. فقالوا : كيف ينزل؟ وهنا سؤالهم كان عن أثر فعله الذي يحدثه في السماء لأن ابن راهويه كان قد بين لهم سابقا أن النزول بلا كيف. فقال لهم ابن راهويه أثبتوه فوق حتى أصف لكم النزول. أي أثبتوا أن أثر الفعل يكون في جهة فوق، في السماء. فقال رجل منهم : أثبتُّهُ فوق.
فقال إسحاق : قال الله عز وجل : “وجاء ربك والملك صفاً صفاً”. و أراد بهذه الأية تذكيرهم بتفسير الآية، و معناها جاءَت آثار قُدرتُه كما ورد ذلك عن الإمام أحمدُ بنُ حَنبل، أي جاءت الأمورُ العِظام التي خلقَها الله تعالى ليَوم القيامة، هذه الأمور بقدرةِ الله تأتي، يوم القِيامة تَحضُر الملائكةُ صفُوفًا ويُحِيطُون بالإنس والجنّ ، فلا أحَدَ يستَطيعُ أن يخرجَ ويُفارِقَ هذا المكانَ لا مِنْ طَريق الجوّ ولا مِن طريقِ الأرض إلا بسُلطان أي إلا بإذنٍ منَ الله وحُجّةٍ.
فقال الأمير عبد الله : يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة، فقال إسحاق : “ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم. أي من يظهر آثار قدرته يوم القيامة من يمنعه أن يظهر آثار قدرته اليوم؟

فكرة واحدة على ”أبو عثمان الصابوني وكلامه عن النزول صفة لله بلا كيف و ثبت عن بعضهم اثبات النزول صفة فعل لله“
التعليقات مغلقة.