** ذكر موقف الإمام السنوسي من كتب الإمام الرازي **
يُعدّ الإمام محمد بن يوسف السنوسي أحد أعلام المدرسة الأشعرية في المغرب الإسلامي خلال القرن التاسع الهجري، ويتميّز مشروعه الكلامي بكونه تربويًا منهجيًا قبل أن يكون جدليًا نظريًا. فقد اهتم السنوسي بوضع متون مختصرة وضابطة في علم العقيدة تُقدّم للمبتدئين بصورة محكمة وبراهين واضحة، بعيدًا عن التعقيد الاصطلاحي والتجاذب الجدلي الذي لا يليق بمن لم يرسخ قدمه بعد في هذا العلم. ولهذا كان السنوسي شديد العناية بتمييز المراتب التعليمية، فقد فرّق بين المختصرات التي تُبنى عليها العقيدة السليمة، وبين المطوّلات التي تُنقل فيها الاعتراضات والشبه وطرق مناقشتها.
وفي هذا السياق وردت عبارته المشهورة التي حذّر فيها المبتدئين من مطالعة المؤلفات الكلامية الجدلية، وعلى رأسها مصنفات الإمام فخر الدين الرازي والبيضاوي التي يكثر فيها نقل مقالات الفلاسفة قبل تفنيدها، حيث قال السنوسي في شرح أمّ البراهين: «وليحذر المبتدأ جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حشيت بكلام الفلاسفة وأولع مؤلفوها بنقل هوسهم وما هو كفر صراح من عقائدهم التي ستروا نجاستها بما يَنْبَهِمُ على كثير من اصطلاحاتهم وعباراتهم التي أكثرها أسماء بلا مسميات وذلك ككتب الإمام الفخر في علم الكلام وطوالع البيضاوي ومن حذا حذوهما في ذلك، وقَلَّ أن يفلح من أولع بصحبة كلام الفلاسفة أو يكون له نور إيمان في قلبه أو لسانه، وكيف يفلح من والى مَنْ حادَّ الله ورسوله وحرق حجاب الهيبة ونبذ الشريعة وراء ظهره وقال في حق مولانا جلَّ وعزَّ وفي حق رسله عليهم الصلاة والسلام ما سوَّلت له نفسه الحمقاء ودعاه إليه وهمه المختل. ولقد خذل بعض الناس فتراه يُشَرِّف كلام الفلاسفة الملعونين ويشرِّف الكتب التي تعرضت لنقل كثير من حماقاتهم لما تمكن في نفسه الأمَّارَة بالسوء من حب الرياسة وحب الإغراب على الناس بما يَنْبَهِم على كثير منهم من عبارات واصطلاحات يوهمهم أن تحتها علوماً دقيقة نفيسة وليس تحتها إلا التخليط والهوس والكفر الذي لا يرضى أن يقوله عاقل. وربما يؤثر بعض الحمقى هوسهم على الاشتغال بما يعنيه من التفقه في أصول الدين وفروعه على طريق السلف الصالح والعمل بذلك، ويرى هذا الخبيث لانطماس بصيرته وطرده عن باب فضل الله تعالى إلى باب غضبه أن المشتغلين بالتفقه في دين الله تعالى العظيم الفوائد دنيا وأخرى بلداء الطبع ناقصوا الذكاء، فما أجهل هذا الخبيث وأقبح سريرته وأعمى قلبه حتى رأى الظلمة نوراً والنور ظلمة. {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم، سَمّاعون للكذب أكّالون للسحت} (المائدة: 41–42).». انتهى
يُفهَم من هذا النص أنّ السنوسي يوجّه تحذيره للمبتدئين خاصة، إذ إن مستوى إدراكهم لا يتيح لهم التمييز بين مواضع النقض ومواضع التقرير في كتب الرازي والبيضاوي، ولا إدراك مقاصد منهجيهما في سوق الشبهة قبل حلّها. فالرازي مثلًا لا يورد رأي الفلاسفة لتبنّيه، بل لإحكام الردّ عليه، غير أنّ تقديم الشبهة في صورة قوية قبل نقضها قد يوقع المبتدئ في اضطرابٍ لا طاقة له بدفعه. أما من رسخت قدمه في العقيدة فهو قادر على قراءة هذه المصنفات قراءة واعية نقدية، مدركًا لسياقها ومقاصدها.
وعليه، فكلام السنوسي لا يتضمّن طعنًا في مكانة الرازي العلمية ولا في أصله العقدي، بل هو توجيه منهجي يروم ضبط ترتيب التعلّم: البدء بإحكام الأصول اليقينية، ثم الانتقال بعد ذلك إلى ساحة الجدل وردّ الشبه. وإلا فالرازي في المسائل الخمسون مثلا قد نقل فيه ما يوافق مشهور عقيدة أهل السنة.
وقد نقل الدسوقي في حاشيته على السنوسية، عن البرهان اللَّقَّاني أنه لا ينبغي ذم مثل السنوسي والبيضاوي، والأرموي و السعد التَّفْتَازاني والعضد وابن عرفة، لأن هؤلاء كان قصدهم من ذِكْرِ بعض النصوص الفلسفية في كتبهم، الرد عليها ونقضها.
وتقع هنا مفارقة تكشف زيف دعاوى الوهابية ومن سار على طريقتهم؛ إذ يزعمون أن الأشاعرة يستمدون عقائدهم من الفلاسفة، ويستشهدون بكلام السنوسي هذا على سبيل التشنيع. لكن التأمل في النص يُبيّن أن السنوسي ينهى المبتدئين عن قراءة كتب تضم مقالات الفلاسفة من باب صيانة العقيدة عن الاضطراب، لا من باب أنّ الأشاعرة يتبنّون تلك المقالات. بل إنّ السنوسي صرّح بأنّ الاشتغال بأوهام الفلاسفة قد يورد الهلكة، وهذا وحده ينقض دعوى الوهابية ويكشف أنّ المدرسة الأشعرية لا تُدخل الفلسفة في أصل عقيدتها، بل تردّ عليها بمنهج عقلي منضبط.
ثم إنَّ كتُب الرازي والبيضاوي نفسها تقوم على تفنيد مقالات الفلاسفة وإبطالها، لا على إقرارها. فكيف يصحّ أن يُتّهم من يردّ الباطل بأنه يستمدّه؟ إنما هذا من الخلط وسوء الفهم، بل من العجز عن قراءة النصوص في سياقها العلمي والمنهجي. وقد شهد لهذا كبار العلماء، إذ قالوا إنّ من لم يعرف الشبهة لا يحسن ردّها، وإنّ الردّ لا يكون إلا بعد الإحاطة بحُجّة الخصم.
ومن ثمّ فموقـف السنوسي يثبت عكس ما تدّعيه الوهابية تمامًا: فالأشاعرة يبدأون بالمحكم المتيقّن، ثم يردّون الشبه بمنطق علمي رصين، لا بعقائد الفلاسفة، ولا بحشو المجسمة الذين يشبّهون الخالق بالمخلوق ولا يميزون القديم من الحادث


