الرَّدُّ على أهل الفتنة في مسألة التَّشهُّد في الصَّلاة

الرَّدُّ على أهل الفتنة

في مسألة التَّشهُّد في الصَّلاة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ يُذكِّرُني أهل الفتنة بقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وبقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وبقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وذلك أنَّ حال أهل الفتنة تُشبه أحوال المُنافقين حيث خالفت أقوالُهُم أفعالهُم وحيث إنَّهُم ردُّوا الحقَّ المُبين بشُبُهات وتُرَّهات واهية.

وأهل الفتنة يطعنون بمشايخنا بما يُؤكِّد مِن حيث لم ينتبهُوا أنَّ مشايخنا حفظهُمُ الله تعالى مُتواضعون ينقادون للحقِّ وأنَّهُم متى وجدوا خطأً لا يسكُتُون عنه ولو كان صادرًا مِن بعضهم لأنَّهم ولله الحمد والمنَّة ليسوا أهلَ جهل وتكبُّر وعناد كحال أهل الفتنة الَّذين يصدُقُ فيهم قول الله في بعض الملاعين: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.

وقد تكلَّم بعض أهل الفتنة أصلحه الله فيما أسماه “فتنة مسألة التَّشهُّد في الصَّلاة” فكان أكثر كلامه ثرثرة لا معنى لها وميلًا في الحُكم إلى الجَور فاكتفى بالخَوض في دين الله بغير هُدًى وردَّ الأحكام الشَّرعيَّة في هذه المسألة الخطيرة دون أنْ يرجع إلى كتاب الله وسُنَّة نبيِّه المُصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام بل ولم يرجع إلى قول عالِم حُجَّة مُعتبَر والعياذ بالله.

والأصل أنَّ مَن كان جاهلًا فنطق بكلمة كُفريَّة ثُمَّ تعلَّم وعرَف أنَّها كُفر ولم يتذكَّر أنَّه قالها لكنَّه كان لو تذكَّر لتشهَّد لأنَّه عقد قلبه على كراهية الكُفر كُلِّه ولا يُريد أنْ يكون على الكُفر: فهذا لو تشهَّد على سبيل العادة ينفعُه للعودة إلى الإسلام والبراءة مِن الكُفر. ومعنى أنَّه تشهَّد على سبيل العادة أي نطق بالشَّهادتَين لكن ليس بنيَّة التَّقرُّبِ إلى اللهِ بالتلفُّظِ بهما.

وفرق بين أنْ يأتيَ -المذكور- بالتَّشهُّد على سبيل العادة وبَين أنْ يأتيَ به على وجه العبادة؛ لأنَّ عبادات الكافر لا ينبني عليها ما ينبني على التَّشهُّد الَّذي يكون لمُجرَّد العادة، فتشهُّد المُرتدِّ في صلاة أو أذان لا يُعتدُّ به لكونه جُزءًا مِن عبادة فاسدة غير مُعتبَرة ولأجل ذلك نصَّ الماورديُّ وغيرُه أنَّ الدُّخول في الإسلام لا يكون بالصَّلاة مع أنَّها تتضمَّن الشَّهادتين.

قال ربُّنا تبارك وتعالى في سُورة إبراهيم: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} وقال الله تعالى في سُورة النُّور: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} وقال تعالى في سُورة مُحمَّد: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}.

فمَن تجرَّأ بعد ذلك وزعم أنَّ ما يقوم به الكافر مِن أعمال فاسدة تنفعُه في الدُّخول في دين الإسلام فقد كذَّب القُرآن الكريم؛ ولو كان النُّطق بالشَّهادتَين في عبادة فاسدة -كصلاة أو أذان- مُجزِءًا للمُرتدِّ للدُّخول في الإسلام والتَّبرُّؤ مِن الكُفر لَمَا نصَّ عُلماء المُسلمين على أنَّه لا يصحُّ للدُّخول في الإسلام مُجرَّد إقامة الصَّلاة وأدائها مع أنَّها تتضمَّن التَّلفُّظ بالشَّهادتين.

وكُلُّ هذا يُعلَم بالرُّجوع إلى قواعد الدِّين لا بالاستماع إلى ملفَّات إلكترونيَّة وتسجيلات صوتيَّة تحتمل اللَّبس ولا تسمح بتحرير المادَّة وعرضها على المُلقِّن بعد سماعها منه بحيث يُؤْمَنُ وُقوع الخطأ ويُحَلُّ كُلُّ إشكال وقد رُوِي عن عُروةَ بن الزُّبَير رضي الله عنهُمَا أنَّه قال لابنه هشام: “كتبتَ” قال: “نعم” قال: “عرضتَ كتابَك” قال: “لا” قال: “لم تكتُب” انتهى.

فما كان مِن نحو ما سبق الكلام فيه فإنَّه لا يرُدُّ القواعدَ الشَّرعيَّة ولا يرُدُّ ما تلقَّاه عن العالِم العامل بالتَّلقِّي الثَّابت الكثيرون مِن مُريديه وطُلَّابه ولا يرُدُّ ما كرَّره مولانا الشَّيخ في مجالسه كثيرًا ولا ما سمعناه منه في الحقيقة مرَّات كثيرة وهذه التَّسجيلات لا ضمان فيها أنَّ المسؤول سمع كامل كلام السَّائل غير منقوص فالآخذ بها في مثل هذه الأُمور الخطيرة مُغامر بدينه.

وأنا بإذن الله تعالى أُبيِّن لكُم ما قد يلتبس في الفيديو الَّذي نشره أهل الفتنة وفرحوا به لتعلُّق قُلوبهم بردِّ ما لا يُوافق أهواءهم مِن أحكام الدِّين في الأُصول والفُروع والعياذ بالله وهُم في احتجاجهم بما لا يُؤيِّد دعاويهمُ الباطلة يكشفون أنَّهم جَهَلَة على التَّحقيق وأنَّه لا عزم لهُم وأنَّهم إلى أهل العزم مِن العُلماء والأولياء لا يرجعون وكفاك دليلًا أنَّ كلامهُم خلا مِن كُلِّ نقل وحُجَّة.

فأمَّا الفيديو فقد تناول مسألة التَّشهُّد في الصَّلاة وقد ذكرتُها آنفًا بتفاصيلها وبيَّنتُ أنَّ الكافر لا يدخُل في الإسلام بمُجرَّد التَّشهد في عبادة فاسدة مِن صلاة أو أذان لأنَّ تلك العبادة لمَّا وقعَت فاسدة باطلة لم يصحَّ ما اشتملت عليه مِن تشهُّد وغيره بدليل ما ذكرتُ مِن الآيات القُرآنيَّة، وكذلك المُرتدُّ عبادتُه فاسدة طالمَا لا زال على الكُفر فلا تصحُّ ولا تصحُّ أجزاؤُها.

أمَّا فيديو أهل الفتنة فغير واضح؛ وقد اعترفوا أنَّهُم حذفوا منه بعض أجزائه! وبكُلِّ حال فما ظهر لي مِن القدر الَّذي أظهروه أنَّ المسألة الأُولى عن رجُل ذاكر لصُدور الكُفر منه وإنَّما نسي التَّشهُّد بنيَّة التَّبرُّؤ مِن الكُفر فلم يتذكَّر أنَّه لم يتشهَّد إلَّا بعد أنْ توضَّأ ودخل في صورة الصَّلاة فهذا -لأنَّه تذكَّر- يعلم كُلُّ أحد أنَّه لا يكفيه إلَّا التَّشهُّد بنيَّة العودة إلى الإسلام.

ولهذا قال شيخُنا: <زال بمُجرَّد تغيير الاعتقاد مع الشَّهادة> إلخ.. لأنَّه رحمه الله حَسِبَ أنَّ السُّؤال عن رجُل تشهَّد بنيَّة العودة إلى الإسلام وليس أداءً لتلك العبادة الفاسدة الَّتي كان دخل فيها؛ لأنَّ الرَّجُل لمَّا تذكَّر أنَّه كَفَر وأنَّه لم يتشهَّد بعد ذلك لا جزمًا ولا احتياطًا ولا على سبيل العادة: صار لا يكفيه إلَّا التَّشهُّد جزمًا بنيَّة التَّبرُّؤ مِن الكُفر والعودة إلى الإسلام.

نعم؛ قد يتوهَّم مُتوهِّم كما توهَّم أهل الفتنة أنَّه جواب عمَّن تشهَّد في عبادة فاسدة يعتقد صحَّتها، وهذا باطل؛ وإنَّما يدخُل هذا الوهم على مَن لم يفطُن أنَّ الرَّجُل لمَّا تذكَّر حاله لزمه التَّشهُّد لا على سبيل العادة ولا الاحتياط بل على الجزم بنيَّة العودة إلى الإسلام لأنَّه لا ينفعه غير ذلك بعد تذكُّره، ولأنَّ أهل الفتنة بعيدون عن التَّحقيق توهَّمُوا الغلط وفرحوا به والعياذ بالله.

وقد يقول أهل الفتنة إنَّ السَّائل قال: (تشهَّد وهُو في الصَّلاة) فلماذَا تُؤوِّل؟ والجواب أنَّ العبارة المذكورة إنْ قيلت في حقِّ مَن تذكَّر أنَّه كَفَر ولم يتشهَّد يكون معناها أنَّه تشهَّد جزمًا لا على أنَّه جزء مِن تلك العبادة لأنَّه عَلِمَ -بمُجرِّد تذكُّره- أنَّها عبادة فاسدة. فإنْ قالوا إنَّ السَّائل لم يقُل إنَّ الرَّجُل تذكَّر أنَّه ما تشهَّد: فالجواب أنَّه لو لم يتذكَّر لم يُوجد السُّؤال أصلًا.

فإنْ قيل إنَّه تذكَّر بعد صُورة الصَّلاة؟ فالجواب أنَّ ذلك تقوُّل لم يرد في السُّؤال؛ وينبغي أنْ لا يُؤخذ جواب الشَّيخ مِن كلام غيره؛ والسَّائل لم يقُل إنَّ مُراده بالتَّشهُّد في الصَّلاة مع اعتقاده صحَّتها والشَّيخ لم يأتِ على ذكر التَّشهُّد على سبيل العادة فيُحمَل التَّشهُّد المذكور في كلام الشَّيخ على التَّشهُّد جزمًا بنيَّة الدُّخول في الإسلام لأنَّ هذا ما يجب في حقِّ مَن تذكَّر.

وممَّا يُؤكِّد هذا؛ أنَّه جاء في المسألة الثَّانية في الفيديو أنَّ الرَّجُل بعد أنْ دخل في الصَّلاة لم يعتبر أنَّ صلاته صحيحة فقال شيخُنا رحمه الله: <ثُمَّ جلس؛ قال الآن أدخُل في الإسلام؛ ما اعتبر صلاته صحيحة؛ هذا أسلم> إلخ.. فكلامُه مُوافق للقواعد الَّتي تلقيناها عنه وإنَّما يخلِط أهل الفتنة بَين المسائل المُختلفة وهذا أمر عهدناه في أغبيائهم فنسأل الله السَّلامة.

وخُلاصة الكلام في المسألتَين المذكورتين: أنَّ مَن دخل في صُورة الصَّلاة ثُمَّ تذكَّر أنَّه كان صدر منه كُفر ما تبرَّأ منه بعد وُقوعه فيه فهذا يكون عَلِمَ بذلك أنَّه ليس داخلًا في صلاة صحيحة؛ فجلس ثُمَّ تشهَّد بنيَّة التَّبرُّؤ مِن الكُفر فلا شكَّ أنَّ دُخُوله في الإسلام صحيح، وليس في الفيديو الَّذي فرح به مُتفحِّشو أهل الفتنة ما هُو صريح في مُخالفة هذه القاعدة الشَّرعيَّة.

هذا والفيديو غير واضح ولعلَّ المجلس اشتمل على كلمات لا تُسمع في التَّسجيل. والفطن يُخرِّج كلام الشَّيخ على ما سمع منه ممَّا يُوافق القواعد الشَّرعيَّة. ولو كان أهل الفتنة مُنصفون لَمَا تركوا ما قاله الشَّيخ رحمه الله في الحقيقة مرارًا وكرَّره كثيرًا على مسامع الثِّقات في مجالس كثيرة ولَمَا تمسَّكوا بتسجيل مُشكل مُلتبس على أمثالهم؛ ولكنهُم حقًّا أهل الفتنة.

وفي الأثر عن الصَّحابيِّ الجليل ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه قال: <يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ، وَلَا تَذْهَبُوا فَتَقُولُوا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ> إلخ.. وقال العينيُّ في [عُمدة القاري]: <قوله: “اسمعوا” إسماع ضبط وإتقان> إلى <قوله: “ولا تذهبوا” أي: قبل أن تضبطوا فتقولوا قال ابن عبَّاس بلا ضبط ولا إتقان> إلخ..

فهذا ابن عبَّاس يوصي مَن يسمع منه أنْ يُسمعه ما يقول كي لا يُؤدِّي ذلك إلى فهم مغلوط للأحكام الَّتي يُلقيها عليهم ومِن هذا الباب قدَّم البعض الكُتُب المُحرَّرة للعالِم على فتاويه الشَّفهيَّة لِمَا قد يعتريها مِن سبق لسان وسوء سُؤال بعض النَّاس والخطإ في السَّماع وغير ذلك وقد أشرتُ آنفًا إلى قول العُلماء إنَّ مَن كَتَب ولم يعرض كتابه كأنَّه ما كتب شيئًا.

أمَّا الجاهل الَّذي أنكر الكلام عن الفرق بين التَّشهُّد على سبيل العادة وبين التَّشهُّد على سبيل العبادة فليعلم أنَّ هذا ليس شيئًا انفرد به شيخُنا الهرريُّ رحمه الله بل ذكره العُلماء في كُتُبهم ومُصنَّفاتهم ومنهُم ابن حَجَر الهَيتميُّ في [الإعلام بقواطع الإسلام] فلينظُره فيه مَن شاء، وقد عُلم أنَّهُم يُريدون بالتَّشهُّد على سبيل العادة ما لم يكُن معه نيَّة عبادة وتقرُّب.

والمسائل المُشكلة ينبغي تحريرها على الشَّيخ الثِّقة فإنْ كان السَّامع ضعيف الفهم صاحب غرض خبيث كأهل الفتنة فهذا أَولى بأنْ لا يُلتفَت إلى كلامه وتشويشه على المُسلمين؛ وهُو أَولى بالتُّهمة مِن العالِم العامل بكُلِّ حال. وغاية ما عمله أهل الفتنة أنْ كشفوا عن غبائهم فكأنَّ فيهم قال الشَّاعر:

لكُلِّ داء دواء يُستطبُّ بهِ * إلَّا الحماقة أعيت مَن يُداويها

انتهى