العلماء مراتب وطبقات

اعلم أن أعلى طبقة العلماء المجتهد المطلق ووظيفته استنباط الأحكام من
القرءان والحديث ويليه المجتهد في المذهب الذي قواعده وأصوله متوافقة في
غالبها مع مجتهد مشهور فينسب إليه كالمزني تلميذ الشافعي ثم المجتهد المقيد
ويقال له من أصحاب الوجوه وهو من يستنبط الأحكام من قواعد إمامه لأنه
تنقصه بعض الات الاجتهاد لكنه قادر على استنباط الأحكام من نصوص
إمامه، لا من القرءان والسنة ويقال له مجتهد في المذهب أيضًا كالجويني والبلقيني
والمتولي والقفال الكبير. وأما المرجح فيكون حافظا لنصوص إمامه ويكون قادرا
على ترجيح بعضها على بعض وقول على قول أو وجه على وجه ولا يكون مؤهلا
الاستنباط الأحكام كالنووي والرافعي، والمرجح إذا استنبط كلاما وهو ليس
أهلا للاستنباط فكلامه لا عبرة به لأن استنباط الأحكام ليس من وظيفته وهو
ليس مؤهلا لذلك.
ثم النقلة ووظيفتهم نقل نصوص الإمام فقط من غير ترجيح بعضها على
بعض كابن حجر الهيتمي ومزيتهم على الواحد منا أنهم يحفظون أكثر منا لكن
اليس عندهم القدرة على ترجيح قول على قول ولا على الاجتهاد فإذا أتوا بقول لم
يسبقوا إليه فكلامهم لا عبرة به لأنهم ليسوا مؤهلين للاستنباط وإن رجحوا قولا
على قول فكلامهم ليس هو الراجح لأنهم ليسوا مؤهلين للترجيح بل وظيفتهم
النقل فقط. كان العلماء في الماضي يعدون الناقل في مصاف العوام.

النّاس في عِلم الدّين درجاتٌ، و أعلى طبقة من طبقات العلماء هي المجتهد المطلق، كأمثال أبي حنيفة و مالك و الشّافعيّ و أحمد. أصحاب هذه الطّبقة اجتمعت فيهم خصال تجعل الواحد منهم قادرا على استنباط الأحكام الشّرعيّة من الكتاب و السّنّة، و ليس هذا لغيرهم، لأنّهم حصّلوا الآلة التي تُمكّنهم من إعمال فكرهم في الأدلّة الشّرعيّة و استخراج الحكم لمسألة لم يرد فيها نصّ صريح في القرءان أو الحديث. ثمّ يأتي بعدهم في الدّرجة طبقة مجتهد المذهب، و هي على قسمين: أصحاب الوجوه و أهل التّرجيح، و هؤلاء – مع علوّ مرتبتهم في العلم – ليس لهم شُغْلُ المجتهد المطلق، بل ليس لهم أن يخرجوا عن قواعد صاحب المذهب ثمّ ينسبوها له. بل يجتهدون في استخراج الحكم من كلام صاحب المذهب بناء على قواعد المذهب، فيقول اصحاب الوجوه مثالا: أراد الإمام كذا و كذا حين قال كذا، و يقول الآخر بل أراد كذا، و هكذا. ثمّ يأتي أهل التّرجيح فيرجّحون هذا القول على الآخر بناء على قواعد المذهب. و من أمثال أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي: الإمام البلقيني، و الإمام الجوينيّ، و من أهل التّرجيح: الإمام النّووي و الإمام الرّافعي. فالإمام النّوويّ – مع شهرته بين النّاس- إلاّ أنّ البلقينيّ أعلى منه درجة في المذهب. و من أصحاب الوجوه في المذهب المالكي: القاضي عبد الوهّاب البغدادي، و القاضي عياض اليحصبيّ، و من أهل الترجيح: أبو الحسن القابسي و الإمام اللّخمي.
ثمّ بعد ذلك تأتي طبقة النّقلة، فيدخل فيها كل من كان دون الطبقتين المذكورتين آنفا. و حتّى تعلم يا أخي المسلم و تعلمي يا أختي المسلمة أنّ الأمر ليس بالهيّن، انظرا إلى هذا المثال: الإمام الحافظ الكبير ابن حجر العسقلانيّ و ما أدراك من هو ابن حجر، شارح صحيح البخاري و هو من هو في علوم الحديث، و مَنْ مِن المسلمين لا يعرف هذا الرّجل أو لم يسمع به، أتعرف ما طبقته في المذهب الشّافعي؟ من النّقلة!! نعم كما قرأت، هو من النّقلة. هذا الرّجل و أمثاله ممّن يحفظون و يضبِطون مئات الآلاف من الأحاديث و المسائل، ليس لهم أن يجتهدوا. فما بالك بمن لا يحفظ عُشْرَ عُشرِ أعشار ما يحفظون؟ كيف لِمن لم يُحِط علمًا بمسائل بابٍ واحد من أبواب الفقه – فضلا عن أدلّتها- أن يعترض على مجتهد؟ هؤلاء إذا ذهبوا إلى الطبيب فقال لهم أصابكم كذا من الأمراض، لا يناقشونه -فضلا عن أن يخطّؤوه- فإذا أرادوا أن يتأكدوا سألوا طبيبا غيره – أي سألوا من في درجته- و لم يسألوا سبّاكًا أو نجّارا أو حتّى ممرضا.
بعد هذا إذا قيلَ لك: قال مالك أو الشّافعيّ أو أيّ إمام مجتهدٍ كذا و كذا في حكم مسألةٍ، لا تقل لي: سمِعتُ فلانا يقول أو إمام مسجد يحفظ الستّين حزبا يقول كذا، أو أنا أرى كذا، أو لعلّه أخطأ. (نعم المجتهد قد يُخطئ – هو ليس معصوما – لكن لا أنا و لا أنت أهلٌ لتخطئته، بل من في درجته هو من يناقِشه)