الصفات الخبرية عند الإمام الباقلاني عقيدة الإمام الباقلاني 1

الصفات الخبرية عند الإمام الباقلاني

كان الإمام الباقلاني على طريقة الأشعري في إثبات الصفات الخبرية وتنزيه اللهﷻ بمنع حملها على معانيها اللغوية الظاهرة من ألفاظها وتفويض حقائقها الى اللهﷻ

فقد قال الباقلاني في الانصاف في معرض كلامه عن صفات الذات: “وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عز وجل ” كل شيء هالك إلا وجهه ” وقال: ” ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ” واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن، في قوله عز وجل: ” بل يداه مبسوطتان ” وقوله. ” ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ” وأنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عز وجل: ” ولتصنع على عيني ” و ” تجري بأعيننا ” وأن عينه ليست بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس”. انتهى

وقال في كتاب تمهيد الأوائل أن الباقلاني قال:‏ “صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه واليدان والعينان والغضب والرضا”. انتهى

وهذه النصوص المنقولة عن الباقلاني فيها اثبات الصفات الخبرية وهي : الوجه والعين واليد، من غير اثبات الجارحة، او الصورة أو الهيئة لله عز وجل.

لكن يلاحظ أن الباقلاني يذكر أحيانا صفة اليد والعين فيقول: اليدين والعينين.

والذي يقف على طريقة الباقلاني يعلم أنه أراد من وراء كلمة “اليدين” اثبات صفة واحدة وهي صفة اليد، بدليل قوله في الانصاف :” لأن قوله “بيديّ” يقتضي اثبات يدين هما صفة له”

وأراد من وراء كلمة ” العينين” اثبات صفة واحدة وهي صفة العين بدليل قوله في الانصاف ” وأن عينه ليست بحاسة من الحواس”. انتهى

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: “وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب الإبانة تصنيفه: “فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قيل له قوله: “وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ” -الرحمن:27- وقوله تعالى: “مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ” -ص:75- فأثبت لنفسه وجهاً ويداً.

فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟”. انتهى

ملاحظة: أقدم مخطوطات كتاب التمهيد يوجد في باريس وكتب بعد 70 سنة من وفاة الإمام الباقلاني.

الصفات الخبرية عند الأشعري والباقلاني والفخر الرازي

يُعَدّ مبحث الصفات الخبرية من أهم مباحث علم الكلام لما يتصل به من قضايا التنزيه وإثبات الصفات على وجهٍ يليق بجلال الله تعالى. وقد اختلفت مقالات أعلام المذهب الأشعري في قضايا فرعية تتعلق بهذا المبحث، وفي مقدمتهم أبو الحسن الأشعري، والقاضي الباقلاني، والفخر الرازي المتوفى سنة 606 هـجري ، كما يظهر من النصوص التي نقلها الأخير في كتبه.

قال الفخر الرازي في نهاية العقول: “واختلف الأصحاب أيضًا في الصفات الخبرية نحو اليد والوجه والعين، فزعم أبو الحسن أنها صفات قائمة بذات الله تعالى سوى الصفات الثمانية، والقاضي مال إلى نفيها. وزعم أبو الحسن أن الاستواء صفة قائمة بذات الله تعالى، وغيره نفاها”. انتهى

يُفهم من هذا النص أن الرازي قرر وجود اختلاف بين الأشاعرة في شأن الصفات الخبرية كاليد والوجه والعين. فنقل عن أبي الحسن الأشعري قوله بأن هذه الصفات صفات قائمة بذات الله تعالى، متميزة عن الصفات الثمانية التي تُثبت بالعقل والنقل. وقد أكد الرازي هذا المعنى في تفسيره الكبير، حيث قال: “وهَهُنا قَوْلٌ آخَرُ، وهو أنَّ أبا الحَسَنِ الأشْعَرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ زَعَمَ في بَعْضِ أقْوالِهِ أنَّ اليَدَ صِفَةٌ قائِمَةٌ بِذاتِ اللَّهِ تَعالى، وهي صِفَةٌ سِوى القُدْرَةِ مِن شَأْنِها التَّكْوِينُ عَلى سَبِيلِ الِاصْطِفاءِ”. انتهى

ثم نقل الرازي عن القاضي الباقلاني أنه “مال إلى نفيها”. والمقصود بالنفي هنا ، كما يتضح من سياق النقل، ليس إنكار أصل الصفات الخبرية، بل نفي أن تكون على معنى الجوارح والأعضاء. فالرازي نفسه نقل في موضع آخر أن الباقلاني يُثبت اليدين صفتين زائدتين على الذات المقدس، حيث قال في كتابه الإشارة: “فإن قيل: فبم تنكرون على شيخكم أبي الحسن والقاضي حيث أثبتا اليدين صفتين لا تدركان إلا سمعاً زائدتين على الذات وما عداهما من الصفات؟ واحتجا عليه بأن قالا: صرّحت الآية بإثبات اليدين متعلقتين بخلق آدم عليه السلام تشريفاً له وتمييزاً عن سائر المخلوقات في قوله تعالى: “مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ”، وقد وضح أنه لا يجوز حمله على الجارحتين، ولا يجوز أيضاً حمله على النعمة، لأن اليدين تنبئان عن شيئين، ونعمة الله تعالى لا تنحصر ولا تحصى على آدم بضربين ولأن الآية تقتضي إيجاد آدم بيدين، ولا يصح إيجاد الشيء بالنعمة، ولا يصح أيضاً حملهما على القدرة لأنه حينئذ تبطل فائدة التخصيص، فإن آدم وكافة المخلوقات في حكم تعلق القدرة سواء، ولأن الله تعالى ذكر اليدين على صيغة التثنية وقدرته واحدة، فلم يبق إلا حمله على صفتين زائدتين على القدرة.

قلنا: الأصح حمل اليدين على القدرة، وقولهما: “إن فيه إبطال فائدة التخصيص”، فنقول: التشريف يتحقق بتخصيص الله تعالى آدم بالذكر، كما شرّف عباده المخلَصين بإضافتهم إلى نفسه، وإن كانت الكفرة أيضاً عباد الله تعالى، وهذا سبيل تخصيص البيت والناقة وغيرهما من المشرفات بالإضافات، نحققه: وهو أنه تعالى ذكر قريباً من هذه الآية في قوله تعالى: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا” – يس:71- ، والمراد به القدرة إجماعاً. والتمسك بصيغة التثنية باطل، لأنه كما يُعبَّر باليد عن الاقتدار يعبر باليدين عن كمال الاقتدار، بدليل قوله تعالى: “بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ” -المائدة:64-، والمراد به القدرة إجماعاً، فبطل ما ذكروه”. انتهى

ويُلاحظ أن تفسير الفخر الرازي لليدين بمعنى القدرة لا إشكال فيه من جهة لغة العرب.

راجع الرابط التالي:

https://www.facebook.com/share/p/1BaMT99rpx/

غير أن الإشكال يتعلق بنسبة الرازي إلى الباقلاني أنه يُثبت اليدين كصفتين زائدتين على الذات، بينما الصواب أن الباقلاني يثبت اليَدَين صفة واحدة زائدة على الذات، وكذلك العينين، إذ هما عنده صفة واحدة زائدة على الذات.

راجع الرابط التالي:

https://www.facebook.com/share/p/1BzknuRJo1/

ونُنبَّه هنا إلى أن كتاب الإشارة من أوائل مؤلفات الرازي، وما نسبه فيه إلى الباقلاني لا يُعدّ دقيقًا تمامًا.

ومع ذلك، فإن الرازي نفسه لم يُنكر صفة اليد لله تعالى، بل كان يؤولها وفق مقتضى السياق، إذ قال في تفسيره: “أمّا جُمْهُورُ المُوَحِّدِينَ فَلَهم في لَفْظِ اليَدِ قَوْلانِ:

الأوَّلُ: قَوْلُ مَن يَقُولُ: القُرْآنُ لَمّا دَلَّ عَلى إثْباتِ اليَدِ لِلَّهِ تَعالى آمَنّا بِهِ، والعَقْلُ لَمّا دَلَّ عَلى أنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ يَدُ اللَّهِ عِبارَةً عَنْ جِسْمٍ مَخْصُوصٍ وعُضْوٍ مُرَكَّبٍ مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ آمَنّا بِهِ، فَأمّا أنَّ اليَدَ ما هي وما حَقِيقَتُها فَقَدْ فَوَّضْنا مَعْرِفَتَها إلى اللَّهِ تَعالى، وهَذا هو طَرِيقَةُ السَّلَفِ. وأمّا المُتَكَلِّمُونَ فَقالُوا: اليَدُ تُذْكَرُ في اللُّغَةِ عَلى وُجُوه…..

فذكر خمسة معاني، ثم قال: “إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: اليَدُ في حَقِّ اللَّهِ يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الجارِحَةِ، وأمّا سائِرُ المَعانِي فَكُلُّها حاصِلَةٌ”. انتهى

فهو لم يُنكر أصل الصفة، بل نفى كونها جارحة أو عضواً. وقد حاول رمضان علي حسن القرنشاوي بيان صحة هذا الرأي، فقال في كتابه التأويل بين فخر الدين الرازي وابن تيمية، دراسة مقارنة في الصفات الإلهية بقوله: “وجاء لفظ اليد عنده بمعنى القدرة، وهذا المعنى ليس فيه تعطيل للذات الإلهية عن صفة موصوف بها سبحانه وتعالى، وذلك لأن اليد بلا قدرة يد معطلة لا فائدة لها”. انتهى

كما نقل الرازي بعد ذلك عن الأشعري أن الاستواء صفة قائمة بذات الله تعالى، في حين نقل عن غيره نفي ذلك. وينبغي التنبيه إلى أن أتباع الإمام الأشعري لم يُنكروا صفة الاستواء كما قد يُظن، وإنما للأشعري قولان في المسألة:

– أحدهما: أن الاستواء صفة ذات، وهو الذي نقله الفخر الرازي.

– والثاني: أنه فعل فعله الله في العرش، كما نقله البيهقي في الأسماء والصفات.

أما الفخر الرازي نفسه، فقد تعددت أقواله في تفسير الاستواء. فقال مرة في مفاتيح الغيب: “قال الله تعالى “الرحمن على العرش استوى”؛ دل الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان، فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة، فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه، والفطرة الأصلية تشهد بصحته”. انتهى

وقال في موضع آخر: “فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ.” انتهــى

كما قال في أساس التقديس: “وإذا ثبت هذا ظهر أنه ليس المراد من الاستواء الاستقرار، فوجب أن يكون المراد هو الاستيلاء والقهر ونفاذ القدر وجريان الأحكام الإلهية”

وقال في دفع شبهة من قال الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز: ”إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية”. انتهـى

****

بيان وُقوع الدَّسِّ والتَّحريف والتَّصحيف في كُتُب الإمام الباقلَّانيِّ

كان القاضي أبو بكر الباقلانيُّ ألمعيًّا يُضرب المَثَل بفهمه وذكائه ويُلَقَّبُ بسيف السُّنَّة ولسان الأُمَّة.

على أنَّ كثيرًا مِن مُصنَّفات الباقلَّانيِّ ضاعت كما ضاعت كُتُب غيره مِن العُلماء فلم يصل منها إلَّا نُسَخ يسيرة وقع في بعضها التَّصحيف والتَّحريف على أيدي الزَّنادقة والمُشبِّهة فلم تكُن بخطِّ المُصنِّف ولا حُفظ لها سند موثوق ولا قُوبِلت على أُصول صحيحة.

فقد عاش الباقلانيُّ في القرن الرَّابع الهجريِّ وتُوُفِّيَ أوَّلَ الخامس، وفي ذلك الزَّمان كان الدَّسُّ كثيرًا جدًّا في كُتُب العُلماء بل وكان الدَّسُّ يقع أحيانًا في كتاب العالِم في حياته قبل موته فيراه بأُمِّ عينه كما حصل مع الإمام الغزاليِّ في نيسابور.

ففي “فضائل الأنام مِن رسائل حُجَّة الإسلام” صحيفة 45 أنَّ الغزاليَّ رحمه الله قال: “هاج حسد الحُسَّاد ولم يجدوا أيَّ طعن مقبول غير أنَّهُم لبَّسوا الحقَّ بالباطل وغيَّروا كلمات مِن كتاب “المُنقذ مِن الضَّلال” وكتاب “مشكاة الأنوار” وأدخلوا فيها كلماتِ كُفر”. إلخ..

وقال الكوثريُّ في هامش “التَّبيين”: “مِن عادة الحشويَّة أنْ يترصَّدوا الفُرَص لإفناء أمثال هذه الكُتُب إمَّا بحرقها عِلانًا يوم يكون لهم شوكة وسُلطان وإمَّا بسرقتها مِن دُور الكُتُب أو بوضع موادَّ مُتلِفة فيها وإمَّا بتشويهها بطرح ما يُخالف عقولهم منها عند نسخها أو الكشط والشَّطب في نُسخها الأصليَّة”. انتهَى.

فالتَّصحيف والتَّحريف هُمَا السَّبب في أنَّنا نرَى في كُتُب الباقلَّانيِّ مسائلَ أنكرها العُلماء، على أنَّ بعضَهُم يُرجِع سبب وُجودها في كُتُبه إلى الدَّسِّ وهذا أرجح الآراء لِمَا سنجد فيما يُنقل عنه مِن تناقُض لا يُتَصَوَّر وُقوعُه مِن ألمعيٍّ يتوقَّد ذكاء كالإمام الباقلَّانيِّ.

فالمُجسِّمة مثلا، قد نقل الإمام أبو منصور البغداديُّ المتـوفى سنة 429هـجري الإجماع على كُفرهم في كتابه “الفَرق بين الفِرق” ثُمَّ قال: “فإنَّا نُكفِّرُهُم كما يُكفِّرون أهل السُّنَّة ولا تجوز الصَّلاة عليهم عندنا ولا الصَّلاة خلفَهُم” انتهَى.

ولعل مسألة كُفر المُجسِّمة من أكثر المسائل التي نقل عليها اجماع، كما في الرابط التالي:

https://www.facebook.com/share/J6LGGJE5tZKSpdsh/?mibextid=xfxF2i

والإجماع ينعقد باتِّفاق مُجتهدي الأُمَّة في عصر مِن العُصور، ولا يُنتقَض بعد ذلك وإن خالفه مَن خالفه، فلا يجوز الاغترار بما في بعض كُتُب الباقلَّانيِّ مِن عدم تكفير المُجسِّمة مثل ما يوجد في كتاب “اكفار المتأولين” فإنَّه قول لا يثبُت عنه بل، وفي مواضع أُخرَى من كتبه يُصرِّح الباقلَّانيُّ بتكفير المُجسِّمة.

وقد ردَّ البعضُ على الباقلَّانيِّ على تقدير ثُبوت ذلك عنه فيقول الإمام أبو إسحق الصَّفَّار الحنفيُّ الماتُريديُّ المتـوفى سنة 534 هـجري في “تلخيص الأدلَّة”: “وقد أخطأ هذا القائل في هذا القول؛ وقول أبي حنيفة بخلافه؛ وجميعُ الأشعريَّة خالفوا هذا الأشعريَّ فيما قال”. انتهَى.

وأمَّا أهل التحقيق فيستدلون على براءة الباقلَّانيِّ مِن القول الفاسد بقوله في “الإنصاف”: “أفتقولون إنَّ الله جسم وجوهر وعرَض؟ فإن قالوا نعم فقد أقرُّوا بصريح الكُفر للتَّشبيه” انتهَى

وبقوله عنهُم في “التَّمهيد”: “فإن مرُّوا على ذلك تركُوا التَّوحيد”. انتهَى

يعني كفروا كُفرًا صريحًا.

وقد تمسَّك بعض أدعياء العلم في زماننا ممَّن يتمظهرون بالأشعريَّة زُورًا بما دُسَّ على الباقلَّانيِّ مِن ترك تكفير المُجسِّم والعياذ بالله، فكون الباقلَّانيِّ أشعريًّا فهو لا يُخالف الأشاعرةَ، والأشاعرةُ يحكُمون بكُفر المُجسِّمة قولا واحدا. قال الإمام العلَّامة فخر الدِّين أحمد بن حسن الجاربرديُّ التبريزيُّ المُتوفَّى سنة 746 هجريَّة في كتابه “السِّراج الوهَّاج” ما نصه: “المُجسِّمة كُفَّار عند الأشاعرة”. انتهَى.

وقد أخطأ بعض المُصنِّفين عندما قالوا إنَّ الأشاعرة لا يحكُمون بكُفر المُجسِّم، فردَّ عليهمُ الإمام الزَّركشيُّ في “تشنيف المسامع” بقوله: “ونُقِلَ عن الأشعريَّة أنَّه يَفسُقُ وهذا النَّقل عن الأشعريَّة ليس بصحيح”. انتهَى

أي أنَّ الصَّحيح أنَّ الأشاعرة يُكفِّرون المُجسِّمة.

و هذا هو مذهب الإمام الأشعريِّ، فقد ثبت أنَّه قال في النَّوادر: “مَن اعتقد أنَّ الله جسم فهُو غير عارف بربِّه وإنَّه كافر به”. انتهَى

والأشعريَّة كُلُّهم مع إمامهم في هذه القضيَّة ولا يثبُت عنه أنَّه تراجع عن تكفير المُجسِّمة كما يزعُم بعض المُنحرفين الجهلة.

والسَّلف مُجمعون على تكفير المُجسِّم كما عبَّر عنهُمُ الطَّحاويُّ في عقيدته الَّتي ذكر أنَّها بيان عقيدة أهل السُّنَّة فقال: “ومَن وصف الله بمعنًى مِن معاني البشر فقد كفر مَن أبصر هذا اعتبر وعن مثل قول الكُفَّار انزجر وعلم أنَّه بصفاته ليس كالبشر”. انتهَى.

وكذلك يُنسَب للباقلَّانيِّ مسائلُ أُخرَى فيها تكذيب للقُرآن الكريم هُو عند التحقيق بريء منها، فلا نُثبتُها عليه إن لم تُوجد البيِّنة الشَّرعيَّة فلا يجوز إثباتُها عليه لمُجرَّد أنَّنا قرأناها في كتاب مخطوط أو مطبوع منسوب لأحد مِن العُلماء.

فمن ذلك ما جاء في “اليواقيت والجواهر” للشَّعرانيِّ مِن أنَّ الإمام الباقلَّانيِّ قال: “قَبول إيمانه” – أي فرعون- هُو الأقوَى مِن حيث الاستدلال ولم يرد لنا نصٌّ صريح أنَّه مات على كُفره” انتهَى

ونقل الشَّعرانيُّ عنه هذا الكلام نزلة أُخرَى في “الأجوبة المرضيَّة”.

وهذا لا يوجد في كُتُب الباقلَّانيِّ؛ بل هذا مخالف لقوله تعالى: ” فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ”.

والا فإنَّ النُّسَخ الَّتي لم تكُن مُقابَلة بيد ثقة على نُسخة قابلها ثقة وهكذا إلى أصل المُؤلِّف الَّذي كتبه بخطِّه أو كتبه ثقة بإملاء المُؤلِّف فقابله على المُؤلِّف لا تُعتبَر نُسَخًا صحيحة بل هي نُسخ سقيمة.

بل في في بعض كُتُب الباقلَّانيِّ تجويز بعثة الكافر ومُرتكب الكبيرة والعياذ بالله، وهذا ظاهر الدسّ على الباقلَّانيِّ.

وفي بعض كُتُب الباقلَّانيِّ أنَّه قال: “فأثبتَ لنفسه في نصِّ كتابه‏:‏ الوجه والعينين” انتهَى

ومعلوم أنَّ لفظ التَّثنية غير وارد في القُرآن بخلاف الإفراد والجمع قال تعالَى: “وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي” وقال عزَّ وجلَّ: “وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا” أمَّا ذكر التَّثنية فبدعة وتحريف.

فإذا قرأنا لعالِم قولًا يُخالف الشَّرع فلا نُثبتُه عليه بلا بيِّنة فهذا المُؤرِّخ الصَّلاح الصَّفديُّ عندما وجد مسألة مُنكرة منسوبة للإمام الجُوينيِّ قال في الوافي بالوَفَيات: “أنا أُحاشي إمام الحرمَين عن القَول بهذه المسألة والَّذي أظنُّه أنَّها دُسَّت في كلامه”. إلخ..

وقد أشار القاضي عياض إلى عبارة أنكرها في بعض كُتُب الغزاليِّ، فقال ابن حجر الهيتميُّ: “وعبارتُه الَّتي أشار إليها القاضي “على تقدير كونها عبارتَه وإلَّا فقد دُسَّ عليه في كُتُبه عبارات حسَدًا”. إلخ.. فانظُر كيف لم يقطع أنَّها مِن كلامه رغم كونها في كتابه.

ملاحظة: في بيان مَن هُو المُجسِّم الحقيقيُّ

أ) إنَّ الكلام في تكفير المُجسِّم يُراد به الَّذي عرف معنَى الجسم ثُمَّ أضافه إلى الله تعالَى، فهذا الَّذي كفَّره الأشاعرة وكافَّة أهل الإسلام. وأمَّا مَن توهَّم لجهله أنَّ لفظ “الجسم” يعني مثلا “الموجود” وأضافه إلى الله تعالَى فهذا لا يُحكَم بكُفره لأنَّه لا يُدرك مدلول اللَّفظ.

ب) قال البغداديُّ في التَّبصرة البغداديَّة المُسمَّاة أُصول الدِّين: “وقد شاهدنا قومًا مِن الكرَّاميَّة لا يعرفون مِن الجسم إلَّا اسمه ولا يعرفون أنَّ خواصَّهم يقولون بحُدوث الحوادث في ذات الباري تعالَى فهؤُلاء يحِلُّ نكاحُهُم وذبائحُهُم والصَّلاة عليهم” انتهَى.

ج) وقال إمام الحرمين الجوينيُّ في الشَّامل: “اعلموا أرشدكُم الله أنَّ الخلاف في ذلك يدُور بيننا وبين فئتَين: إحداهُمَا تُخالف في اللَّفظ والإطلاق دون المعنى، والأُخرى تُخالف في المعنى. فأمَّا الَّذين خالفوا في الإطلاق دون المعنى فهُمُ الَّذين قالوا: المعنى بالجسم الوُجود أو القيام بالنَّفس” إلخ..

د) وقال البزدويُّ الحنفيُّ في أُصُول الدِّين له: “إلَّا أنَّ بعضهُم قالوا: نعني بالجسم الوُجود لا غير> انتهَى فهؤُلاء أي الَّذين لا يعرفون معنَى اللَّفظ ولا يُدركون مدلوله هُمُ الَّذين لا يحكُم الأشعريُّ بتكفيرهم”. انتهى

هـ) وعلى هذا يُحمَل توقُّف العُلماء أحيانًا في تكفير بعض مَن أضاف الجسم إلى الله ولذلك قال الكوثريُّ في مقالاته: “وإنَّ العزَّ بن عبد السَّلام يعذُر –في قواعده- مَن بَدَرَت منه كلمة مُوهِمة لكنَّه يُريد بذلك العاميَّ الَّذي تخفَى عليه مدلولات الألفاظ” إلخ.

روابط ذات علاقة:

الصفات الخبرية عند الامام الباقلاني

https://www.facebook.com/share/p/wxVMpLobZf8wsmP6/?mibextid=xfxF2i

حكم من نسب لله الحرف والصوت

https://www.facebook.com/share/b2ryQ9KmGoh33rkn/?mibextid=xfxF2i

بيان أن الاختلاف في بعض المسائل الفرعية المتعلقة بالصفات لا يلزم منه التكفير

واصل فخر الدين الرازي نقده لتعريف الكفر بأنه «الجهل بالله تعالى»، مبيّنًا أن هذا التعريف ناقص من جهة «الطرد»، أي من جهة ما يستلزمه من نتائج غير مقبولة. والمقصود بالطرد، أن التعريف إذا كان فاسدًا من هذه الجهة، فإنه يؤدي إلى إدخال ما ليس من المعرَّف في حدّه، أي يَشمل من لا يصحّ أن يُدرج تحته. فقد وضح الرازي أن القول بأن الكفر هو الجهل بالله تعالى، من غير تفصيل، يقتضي – لو التزمنا به – تكفير طائفة من العلماء المسلمين أنفسهم، وذلك لأنهم اختلفوا في كثير من التفاصيل المتعلقة بصفات الله عز وجل، ولا شكّ أن الحق في كل مسألة واحد لا يتعدد، ومن خالفه يكون مجانبا للصواب فيها. فإذا كان الجهل بالحق في فروع مسائل الصفات، مثلا، يعتبر كفرًا، لزم من ذلك أن يكون هؤلاء العلماء كلهم كفارًا، وهو لازم باطل لا يمكن قبوله.

ولكي يُبيّن وجه بطلان هذا اللازم، ساق الرازي أمثلة من الخلافات الكلامية التي وقعت بين أئمة المذهب الأشعري أنفسهم، مع أنهم جميعًا من متكلمي أهل السنة والجماعة.

فذكر أولًا أن الإمام أبا الحسن الأشعري رحمه الله قد اعتبر «البقاء» صفةً زائدة على ذات الله عز وجل، أي أنه أثبت البقاء كمعنى قائم بالله كالقدرة والعلم. أما القاضي أبو بكر الباقلاني، وهو من كبار أئمة الأشاعرة، فقد نفى أن يكون البقاء صفة زائدة، ورأى أنها صفة نفسية لازمة للذات.

و زيادة الصفة تعني اثبات معنى زائد على ذاته عز وجل ، لا من حيث الاتصال أو الانفصال.

أي أن الصفة ليست عين الذات من حيث المفهوم، بل هي معنى زائد عليه.

فالبقاء عند الأشعري هو صفة زائدة على الذات، أي أن الله تعالى باقٍ ببقاءٍ حقيقي قائمٍ بذاته،

كما أنه عليم بعلمٍ حقيقي، وقدير بقدرةٍ حقيقية.

فالبقاء عنده معنى زائد على الذات. وعند بعض الأشعرية البقاء عندهم من الصفات السلبية،

أي أنه ليس صفة زائدة على الذات، بل هي صفة تنفي عن الله عز وجل العدم ومعناها أن “الله لا يلحقه الفناء”، وبالتالي فإن البقاء ليس عندهم صفة زائدة، بل صفة سلب. وأما الباقلاني ومن تبعه فقد اعتبروا أن البقاء ليس صفة زائدة على الذات، بل هو صفة نفسية لازمة للذات المقدس.

والظاهر أن الفخر الرازي وافق الباقلاني في هذه المسألة فقال في كتابه أصول الدين ما نصه: ” المسألة التاسعة عشرة: أنه تعالى باق لذاته خلافاً للأشعري”. انتهى

جاء في تحفة المريد ما نصه: “والمراد بالصفة النفسية صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها، كأن يقال: الوجود صفة لله تعالى…. وقولنا: (ثبوتية) يخرج السلبية كالقدم والبقاء، وقولنا: (يدل الوصف بها على نفس الذات) معناه أنها لا تدل على شيء زائد على الذات، فقولنا: (دون معنى زائد عليها) تفسير مراد لقولنا (على نفس الذات) ويخرج بذلك المعاني لأنها تدل على معنى زائد على الذات، وكذلك المعنوية فإنها تستلزم المعاني فهي تدل على معنى زائد على الذات لاستلزامها المعاني”. انتهى

وراجع الرابط التالي عن معنى البقاء عند الباقلاني:

https://www.facebook.com/share/p/1BXYAhBc7c/

فلو كان الجهل بتقسيم صفات الله، أو اختلاف العبارات في الكلام عنها كفرا، للزم تكفير أحد هذين الإمامين أو كليهما، وهو باطل.

ثم واصل الرازي سوق الأمثلة، فذكر أن عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو من أوائل متكلمي أهل السنة، قد أثبت القدم كمعنى قائم بذات الله و قال إن «القدم» صفة زائدة على الذات، أي أن الله متصف بالقدم كما هو متصف بالقدرة و الإرادة والعلم. بينما ذهب أكثر الأشاعرة للقول بأن القدم ليس من صفات المعاني، بل هو صفة سلبية وليست زائدة على الذات، وأن القدم هو نفي الحدوث.

جاء في تحفة المريد على الجوهرة: “قوله: (والقدم) أي وواجب له القدم، فهو معطوف على الوجود، وهذا شروع في الصفات السلبية: أي التي دلت على سلب ما لا يليق به سبحانه تعالى، وليست منحصرة على الصحيح، وعد المصنف منها خمسة، لأن ما عداها من نفي الوالد والصاحبة والمعين وغير ذلك مما لا نهاية له راجع إليها ولو بالالتزام”. انتهى

وبالتالي فلو اعتبرنا الجهل بفروع مسألة الصفات كفرًا، لزم تكفير من أنكر هذا القول أو من أثبته، وهو ما لا يمكن التسليم به.

ثم ذكر الرازي مثالًا آخر ، وهو قول عبد الله بن سعيد أيضًا إن الله تعالى «رحيم برحمة، كريم بكرم، قادر بقدرة»، فعدّ هذه الصفات معاني حقيقية قائمة بالذات، في حين رأى غيره أن هذه الصفات راجعة في معناها إلى الإرادة أو إلى صفات الأفعال، أي إلى ما يفعله الله في خلقه من رحمة وإكرام.

وهذا الخلاف لا يمكن أن يُجعل سببًا في التكفير، لأنه اختلاف في الفهم والتعبير لا في أصل الاعتقاد بالله تعالى وصفاته.

وينبغي أن يُعلَم أن الحكم بالتكفير في باب الصفات إنما يتعلّق بمن أفضى به قوله أو اعتقاده إلى نسبة الحدوث أو التغيّر أو التعطيل إلى صفات الله تعالى، أو إلى إبطال معنى التنزيه، أو نفي كمال الألوهية عن ذاته سبحانه، إذ تمثل هذه المعاني إخلالًا بأصل التوحيد ومناقضةً لمقتضى الإيمان بالله على الوجه اللائق بجلاله.

ومن خلال هذا العرض المنهجي، أراد الإمام فخر الدين الرازي أن يبيّن أن الخلاف الواقع بين المنتسبين إلى المذهب الأشعري في تقسيم الصفات أو تصنيفها لا يُعدّ جهلاً بالله موجبًا للكفر، بل هو اختلاف في جهة البيان والمصطلح، لا في أصل الاعتقاد. فكل فريق من المتكلمين مؤمن بالله تعالى، مقرّ له بصفاته إجمالًا، وإن اختلف في بعض دقائق التفصيل أو طرائق التعبير. وعليه، فإن مجرد التغاير في أسلوب التقسيم أو في العبارة، ما لم يؤدِّ إلى نفي الصفات الواجبة لله تعالى لا يُعدّ كفرًا ولا مطعنًا في العقيدة.

*****

أولًا- مذهب المثبتين لصفة الإدراك:

ذهب فريق من العلماء إلى إثبات صفة الإدراك لله تعالى على الوجه اللائق بجلاله من غير اتصال بالأجرام ولا تكييف، وعدّوها صفةً قديمة قائمة بذاته سبحانه. ومن أبرز القائلين بذلك: القاضي الباقلاني وإمام الحرمين الجويني.

ويرى هؤلاء أن الله تعالى يدرك الملموسات والمشمومات والمذوقات إدراكًا يليق به، كالنعومة والخشونة، وحلاوة الطعم ومرارته، وطيب الرائحة وخبثها، دون أن يباشرها أو يتصل بها كما هو شأن المخلوقين.

قال الجويني في الإرشاد: «الإدراكات خمسة: أحدها البصر المتعلق بقبيل المرئيات، والثاني السمع المتعلق بالأصوات، والثالث الإدراك المتعلق بالروائح، والرابع الإدراك المتعلق بالطعوم، والخامس الإدراك المتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة». انتهى.

وقال أيضًا: «فإن قيل: قد قدمتم في الصفات الواجبة أن الرب تعالى سميع بصير، وأثبتم العلم بالسمع والبصر، فهل تثبتون للباري تعالى سائر الإدراكات؟ قلنا: الصحيح عندنا إثباتها، والدال على إثبات العلم بالسمع والبصر دالٌّ على جميع الإدراكات». انتهى.

ومن أوجه استدلال المثبتين، أن إدراك هذه المحسوسات يغاير الكشف عنها بالعلم، لأن الإدراك علم مخصوص بالمحسوسات. فكما ثبت أن لله تعالى صفة السمع والبصر، ينبغي أن تثبت له صفة تختص بالمحسوسات الأخرى، وهي صفة الإدراك.

قال الشهرستاني في نهاية الاقدام : يجب التفرقة بين محل العلم ومحل الإدراك ولأن الذي يدرك ببصره من المرئي هو الألوان والأشكال فيستدعي ذلك مقابلة ومواجهة فالذي يدرك بسمعه من المسموع هو الأصوات والحروف ولا يستدعي ذلك مقابلة وكذلك المشموم والمذوق والملموس يستدعي اتصال الأجسام ولا يستدعيه السمع والبصر فلذلك يجوز أن يوصف الباري تعالى بأنه سميع بصير ولا يجوز أن يوصف بأنه شام ذائق لامس “.انتهى .

قال ابن المقترح في شرح الإرشاد: ” لا خلاف بأنّ الاتّصالات المقارنة للشمّ والذوق واللمس مستحيلة على الله تعالى وليست هي الإدراكات”. انتهى

.

واثبات صفة الإدراك هو أيضًا مذهب أبي يعلى الحنبلي.

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: «مثبتة الصفات لهم في هذه الإدراكات ثلاثة أقوال معروفة: أحدها: إثبات هذه الإدراكات لله تعالى، كما يوصف بالسمع والبصر. وهذا قول القاضي أبي بكر وأبي المعالي، وأظنه قول الأشعري نفسه، بل هو قول المعتزلة البصريين الذين يصفونه بالإدراكات. وهؤلاء وغيرهم يقولون: تتعلق به الإدراكات الخمسة أيضاً كما تتعلق به الرؤية. وقد وافقهم على ذلك القاضي أبو يعلى في المعتمد وغيره». انتهى.

معنى نزول جبريل بكلام الله على أنبياءه

قال الله تعالى: “عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى” وهو جبريل عليه السلام.

و قال تعالى: ” إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ” – التكوير: 19 – 21 –

وعلى هذا المعنى قال الإمام الباقلاني: “والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر، هو قول جبريل عليه السلام، يدل على ذلك قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ الأيات: – الحاقة 38 – 43-، وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ … الآيات: – التكوير: 15 – 29- انتهى

وأما الحشوية فصاروا يشنعون على الباقلاني يزعمون أنه قال أن القرآن هو كلام جبريل وليس كلام الله. مع أن الباقلاني قال بعد ذلك: “هذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن”

ثم قال بعد ذلك: “فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات، لا يجوز أن تفارق الموصوف، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها، فافهم ذلك، فجاء من ذلك أن جبريل عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذي هو قراءته، وعلم هو القراءة”. انتهى

فيتبيّن مما تقدم أن القرآن الكريم ليس من تأليف جبريل عليه السلام، ولا من إنشاء النبيّ محمد ﷺ، وإنما هو كلام الله تعالى المنزل، الذي تَلقَّاه جبريل من ربّه، ثم بلّغه إلى رسوله على النحو الذي أُمِر به. فمن زعم أن القرآن مِن نظمِ وتأليف وترتيبِ جبريل مثلا أو أنّ جبريل يتكلّف ويتصرّف ويغيّر ويُنقِص ويزيد وهو الذي رتّب القرآن من عند نفسِه لا يكون مسلما من أصله.

*****

في نقد عقيدة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء

قال تعالى “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء” سورة الشورى

فقول بعض السلف أن الله تكلم بما شاء كيف شاء متعلق بالكلام المسند لله من باب المجاز، و هذا الكلام ليس هو كلام الله الذاتي و إنما هو كلام الملك الذي كان ينادي مخبرا عن الله عز و جل، فاسناد الكلام لله هنا هو من باب المجاز.

فيكون المعنى أن الله يتكلم كيف شاء” أي أن الله يُسمع كلامه لخلقه كما يشاء: وقد شاء أن يسمعه لآدم عن طريق ملك ينادي بصوت ويبلغه أمره سبحانه و تعالى.

قال علاء الدين المرداوي الحنبلي المتوفى سنة 885 هجري في التحبير شرح التحرير : ” قال القاضي: إذا شاء أن يسمعنا” . انتهى

وقال: ” وقال الإمام أحمد – أيضا -: لم يزل الله تعالى يأمر بما شاء ويحكم”. انتهى

و قال شيخ المجسمة ابن قيم الجوزية في كتابه ” مدارج السالكين” ما نصه: ” قال الفراء: العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل، ولكن لا تحقِّقُه بالمصدر ، فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام ” انتهى

و قال الإمام الباقلاني في الإنصاف: “تارة يسمع من شاء كلامه بغير واسطة لكن من وراء حجاب , ونعني بالحجاب للخلق لا للحق كموسى عليه السلام، أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن النظر إليه، وتارة يسمع كلامه من شاء بواسطة مع عدم النظر والرؤية أيضاً من ملك، أو رسول”. انتهى

و في الجملة نقول: إن كان اسناد الكلام لله تعالى على الحقيقة فإن المشيئة لا تعلّق لها به. و إن كان اسناد الكلام لله من باب المجاز فإن الله يُسمعه لخلقه كما شاء و متى شاء.

وهذا مذهب البخاري الذي أشار إليه ابن حجر في الفتح ” تحت فصل “باب قوله تعالى: “وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم” فقال ما نصه: ” قال ابن بطال غرض البخاري في هذا الباب إثبات السمع لله وأطال في تقرير ذلك، وقد تقدم في أوائل التوحيد في قوله “وكان الله سميعا بصيرا” والذي أقول إن غرضه في هذا الباب إثبات ما ذهب إليه أن الله يتكلم متى شاء. وهذا الحديث من أمثلة إنزال الآية بعد الآية على السبب الذي يقع في الأرض. وهذا ينفصل عنه من ذهب إلى أن الكلام صفة قائمة بذاته، وأن الإنزال بحسب الوقائع من اللوح المحفوظ أو من السماء الدنيا”. انتهى

فالله عز و جل قد بلغ القرآن لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم عن طريق واسطة وهو جبريل عليه السلام لا أنّه كلمه بكلامه الأزلي الذي هو صفة ذاته. فيكون اسناد الفعل – أي التبليغ- لله من باب المجاز ومعناه أن الله أسمع كلامه لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم كما شاء عن طريق الملك جبريل و في الوقت الذي شاءه على اثر حادثة اجتماع بعض الأشخاص عند البيت و الجدال الذي وقع بينهم المتعلق بموضوع؛ “هل أن الله يسمع كلامهم أو لا”.

فإن قيل أن معنى قوله : “يتكلم شيئاً بعد شيء” أن كلامه يتخلله سكوت بدليل حديث رَسُولِ اللَّه ﷺ : “إنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ فَرائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وحدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وحَرَّم أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وَسكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيانٍ فَلا تَبْحثُوا عَنْهَا”، فجوابه أن الله لا يتصف بالسكوت ثم الكلام ثم السكوت ثم الكلام كما يتوهم هؤلاء الجهلة، بل معناه كما بينه شهاب الدين الألوسي في تفسيره: “ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان، كما في الحديث، إذ معناه أن تكلّمه الأزلي لم يتعلق بِبيانها مع تحقق اتصافه أزلا بالتكلم النفسي، وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى”. انتهى

و قال الإمام الطبري المتوفى سنة 310 هـجري في التبصير: “لا يقال لأحد: إنه مؤمنٌ، إلا إذا عَلِمَ أنَّ الله تعالى هو المتكلم الذي لا يجوز عليه السكوتُ”. انتهى

وينبغي التنبيه أن بعض متأخري الحنابلة وغيرهم، قد تأثروا بهذا المعتقد الفاسد الذي روج له ابن تيمية، وزلّت بهم الأقدام في هذا الباب ومنهم:

– ابن أبي العز الحنفي المتوفى سنة 792 هجري، حيث قال في “شرح الطحاوية” ، ما نصه: ” أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة” انتهى.

– ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 هجري، حيث قال في فتح الباري ما نصه : “وهي تدل على ان الله تعالى يتكلم بمشيئته، واختيارهِ ، كما قال الامام احمد : لم يزل الله متكلماً اذا شاء” . انتهى

– أبو بكر الجراعي المقدسي الحنبلي – من ذرية الشيخ أحمد البدوي – المتوفى سنة 883 هجري في شرح مختصر أصول الفقه.

*****************

تفاق أهل الحديث والشيعة الإمامية على القول بالرؤية ونقل أحاديثها

قال الإمام أبو الحسن بن مهدي الطبري الأشعري في رده على الجبائي المعتزلي : ” .. إن هذا الخبر روته الثقات من جهات مختلفة ومنهم أنس بن مالك وجرير بن عبد الله البجلي وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وصهيب رضي الله عنهم وغيرهم ، ولو لم تجب الحجة بنقل ما ذكرنا من الصحابة ، ولم يقع بذلك علم لم تجب الحجة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها. ولا أنه رجم ماعزا ، فلما كان ناقلوا هذه السير دون من نقل الرؤية في العدد ، وكانت الرواية والنقل للطائفتين من هذه الأمة – وهم أهل الحديث والمتشيعة الإمامية – ووجدناهم لا يختلفون في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة ينظرون إلى الله تعالى ، فقد صح النظر إليه من طريق الخبر ، ووجدنا اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رؤية الله في الآخرة متفقين ، ولم يرد عن أحد منهم نفيها وإنكارها ، وروي عن كثير منهم إثباتها – كأن القول بالرؤية إجماعا منهم ، ولو اختلفوا في ذلك لنقل الخلاف ، كما نقل الاختلاف في رؤية الله في الدنيا ، فأنكرها بعضهم كنحو ما روي عن عائشة رضي الله عنها في ذلك وإنكارها على ابن عباس حيث ثبتها ، فلو كانوا في رؤيته الله بالأبصار في الآخرة مختلفين ، لنقل ذلك”. انتهى

ابو الحسن الطبري استدل بإتفاق أهل الحديث والشيعة الإمامية على نقل حديث الرؤية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و على صحة ذلك خبرا فلو كان القول بإنكار الرؤية في طبقته هو قول أغلبية الإمامية لما ساغ له هذا الإستدلال لينقض حجة الجبائي، وهذا يدل على أن الشائع بين الإمامية في عصره هو القول بالرؤية.

وقد اشار لذلك من جاء بعده ايضا فقد قال القاضي الباقلاني :” فإن أضافوا إنكار الرؤية إلى علي رضي الله عنه وابنه محمد بن الحنفية وولده أبي هاشم عبد الله بن محمد والصادق والباقر ، رضوان الله عليهم أجمعين ، فإنما يفعلون ذلك استبصارا بأغبياء الشيعة دون المخلصين منهم ، فإن أئمة الشيعة من أهل قم والكوفة والبصرة وأسلافهم يدينون بالبراءة من القدرية ويعتقدون صحة خبر وقيام الحجة به ويرون القول بخلق الأفعال ونفي خلق القرآن وإثبات صفات الله لذاته ، ومنهم من يزيد على إثبات الصفات ويرى القول بالتجسيم والتشبيه ويروي ذلك عن الأئمة من أولاد علي ، كرم الله وجهه ، فكلهم يكذبون القدرية ويرون البراءة من دين المعتزلة ولا يرتفعون بإنتمائهم إلى الشيعة واستبصارهم بهم ويعرفون مذهب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبي الهذيل العلاف في علي ومخالفيه ، ووقف بعضهم في عدالته وقدح آخرون فيها وفي عدالة عثمان ورأيهم في أهل الفتنة وما قد ذكرناه وشرحناه في كتب الإمامة وفي نقض الفتيا على الجاحظ ، فلا يجب الإكتراث بإضافتهم نفي الرؤية إلى الطبقة “. انته‍ى

**************

بيان أن القاضي أبا بكر الباقلاني أثبت أن البقاء صفة لله عز وجل

نقل أبو منصور البغدادي في أصول الدين عن الباقلاني أنه منع من كون البقاء معنی زائداً على وجود ذات الباقي، وتبعه في ذلك الفخر الرازي فقال في نهاية العقول ما نصه: ” إن أصحابنا اختلفوا في كثير من صفات الله تعالى؛ لأن أبا الحسن رحمه الله أثبت البقاء صفةً زائدة، والقاضي رحمه الله نفاها”. انتهى

والنفي هنا لا يتعلق بأصل الصفة، بل بزيادة المعنى على الذات، لأن الباقلاني قال في كتاب الانصاف ما نصه: “….. وأنه قديم بأسمائه وصفات ذاته، التي منها: الحياة التي بها بان من الموت والأموات، والقدرة التي أبدع بها الأجناس والذوات، والعلم الذي أحكم به جميع المصنوعات، وأحاط بجميع المعلومات، والإرادة التي صرف بها أصناف المخلوقات. والسمع والبصر اللذان أدرك بهما جميع المسموعات والمبصرات، والكلام الذي به فارق الخرس والسكوت وذوي الآفات، والبقاء الذي به سبق المكونات، ويبقى به بعد جميع الفانيات، كما أخبر سبحانه في قوله: “وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه” وقوله تعالى: “أنزله بعلمه” “وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه” وقوله: “أو لم يروا أن اللّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة” وقوله “ذو القوة المتين” فنص تعالى على إثبات أسمائه وصفات ذاته”. انتهى

و هذا النص – على طوله – يثبت أن القاضي يعتبر البقاء معنى قائم بذات الله، وأنه لا يخالف الأشعري في كون البقاء صفة زائدة على الذات في المعنى . وأنه تعالى باق ببقاء، وعلى ذلك يكون البغدادي قد أخطأ في النقل عن الباقلاني أو اطلع على مؤلف آخر للباقلاني أثبت فيه البقاء من غير زيادة معنى على الذات، فيكون له قولان في صفة البقاء.

على ان ما ذكره البغدادي قولاً للباقلاني لا يصمد أمام كثرة النقول عنه في عدّه البقاء صفة له، حتى أن زعيم المجسمة ابن تيمية نقل في مجموع الفتاوى، ما نصه: ” وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب “الإبانة” تصنيفه: “……صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والبقاء”. انتهى

وإن صح ما نقله البغدادي والرازي فمعناه أن الباقلاني لا ينكر البقاء كصفة، لكن يذهب إلى اعتبار صفة البقاء صفة نفسية، وتعريفها عنده: “صفة الوجود المستمر فيما لا يزال”، وأنها ليست من الصفات السلبية كما يرى غيره من الأشاعرة.

فالاختلاف حاصل بين الأشعرية من ناحية تقسيمهم لصفات الله تعالى من حيث الدلالة إلى أقسام، قصدهم من ذلك تسهيل الفهم، فهو تقسيم اصطلاحي بياني، وُضع لتمييز وجوه الدلالة على صفات الله تعالى، لا لتجزئة صفاته في ذاته سبحانه.

فالصفات النفسية عند جمهورهم هي الوجود.

أما الصفات السلبية، فدلالتها تكون بنفي ما لا يليق بالله تعالى نفياً مباشراً، كقولنا: ليس بجسم، وليس بعاجز، وليس بحادث.

وأما صفات المعاني فهي التي تدل على معانٍ قائمة بذات الله تعالى، كالعلم والقدرة والإرادة.

فبينما عدّ الباقلاني البقاء صفة نفسية لا تثبت معنى زائد – كما نقله عنه بعض الأشعرية- ، عدّ أبو الحسن الأشعري صفة البقاء من الصفات الزائدة، على الذات

في حين نجد أن الشهرستاني نقل أن الأشعري ” تارة يرى أن البقاء صفة نفسية “، وبالتالي يكون الأشعري في بعض أقواله موافقا للباقلاني في اعتبار البقاء من الصفات النفسية.