ذكر بعض خيانات ابن تيميَّة وتلاميذه في نقل عقيدة قُدَماء الأشعريَّة
(أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ- كمثال- )
اعتمد ابنُ تيميَّة، نُصرةً لمذهبه الفاسد في اثبات الاستواء بمعنى الجهة والعلو الحسي، على نصوص تنسب لبعض الأئمة وادَّعى أنَّهم قائلون أيضا بعقيدة الجِهةِ في حقِّه تعالى. من ذلك ما نقله عن أَبي الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ المتوفى سنة 380 هـجري بطريقته المعهودة في التَّلبيس و بتر الكلام من سياقه، في حين ان الرَّجل كان مصرحا بنفي البينونة الحِسِّيَّة في حقِّه عز وجلَّ.
وهذا الصَّنيع مِن ابن تيميَّة يعدُّ من الخيانة العلميَّة الَّتي لا يغسلها ماء البحر.
فقد قال ابنُ تيميَّة في دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ” “انَّ الْعِرَاقِيِّينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مَنْ أَتْبَاعِ ابْنِ كُلَّابٍ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ، أَقْرُبُ إِلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَعُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ؛ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ الْمَائِلِينَ إِلَى طَرِيقَةِ ابْنِ كُلَّابِ”.انتهى
وعليه، فقد كان الإمامُ أبو الحسنِ بنُ مهديٍّ الطَّبريُّ على عقيدة كُلَّابيَّة أهل العراق، وهؤلاء أقرب – بحسب زعم هذا الحراني- إلى السُّنَّة مِن كُلَّابيَّة وأشاعرة أهل خُراسان، وإنَّما قال “أقرب إلى السُّنَّة” لأنَّه لا يعتبرهم مِن خُلَّص أهلِ السُّنَّة.
وقال ابنُ تيميَّة أيضاً في “بَيَان تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ” مُعبِّراً عن رأيه في كتاب “تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَالْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ” للإمام ابنِ مهديٍّ الطَّبَريِّ: “وَأَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ جَمَعَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَأْوِيلَاتِ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ مَا يُنَاسِبُ كِتَابَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُمَاثِلِينَ لِبِشْرٍ، بَلْ هُوَ يُثْبِتُ مِنَ الصِّفَاتِ مَا لَا يُثْبِتُهُ بِشْرٌ، وَكَانَ قَدْ سَبَقَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ إِلَى كِتَابٍ لَطِيفٍ فِي التَّأْوِيلِ، وَطَرِيقَتُهُ أَجْوَدُ مِنْ طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ ” .انتهى
ويُستفاد مما تقدم أنَّ ابن تيمية كان على إلمام تام بمادة هذه الكتب، وإلَّا لما تجرَّأ للمقارنة بينها.
أما تلميذُه ابنُ القيِّم فقد قال في الصَّواعقُ المُرسلة: “وأمَّا المُعْتَزِلَةُ والجَهْمِيَّةُ وَغَيرُهُم مِن فِرَقِ المُتَكَلِّمينَ فَمُرَادُهُم بالتَّأْويلِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَن ظاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ وَمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ…وهذَا التَّأْوِيلُ هُو الَّذِي صُنِّفَ فِي تَسْويغِهِ وَإبْطَالِهِ مِنَ الجَانِبَيْنِ، فصَنَّفَ جَمَاعَةٌ فِي تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَخْبَارِهَا، كأَبِي بَكْرٍ بْنِ فُورَكَ وابْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَارَضَهُم آخَرُونَ فَصَنَّفُوا فِي إِبْطَالِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ، كَالقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ ابْنِ قُدَامَةَ. وَهُو الَّذِي حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى عَدَمِ القَوْلِ بِهِ”. انتهى
إذن، وبحسب كلام ابن الزفيل الزرعي، فالإمامُ أبُو الحسنِ بن مَهديٍّ الطَّبريُّ قد خالف إجماع السَّلف بتصنيفه كتاب “تَأْوِيل الْأَحَادِيثِ وَالْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ”.
و كلام ابنِ تيميَّةَ في كتبه صريح ان الإمامَ ابنَ مَهديٍّ الطَّبَرِيَّ، كان على عقيدةِ الجِهَوِيَّة:
فقد قال ابنُ تيميَّة في دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ: “فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيِّ الطَّبَرِيُّ، وَعَامَّةُ قُدَمَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَيَرُدُّونَ عَلَى النُّفَاةِ غَايَةَ الرَّدِّ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ”. انتهى
وقال ابنُ تيميَّةَ في بيانُ تلبيسه رادًّا على الإمام الفخر الرَّازي في تنزيه الله عنِ الجِهةِ والمكان وغيرها مِن معاني الجِسميَّة، ما نصُّه: “فَلَا رَيْبَ أَنَّ الكُتُبَ المَوجُودَةَ بِأَيْدِي النَّاسِ، تَشْهَد بِأنَّ جَميعَ السَّلَفِ مِنَ القُرُونِ الثَّلَاثَةِ كانُوا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكرَهُ – اي الرَّازيُّ- ، وأَنَّ الأَئِمَّةَ المَتْبُوعِينَ عِندَ النَّاسِ والمَشَايِخَ المُقتَدَى بِهِم، كَانُوا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ، وَهَذِهِ أَئِمَّةُ المَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، والحَنَفِيَّةِ، وأَهْلِ الحَدِيثِ، وَالصُّوفِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، بَل أَئِمَّةُ الصِّفَاتِيَّةِ مِنَ الكُلَّابِيَّةِ وَالكَرَّامِيَّةِ وَالأَشْعَرِيَّةِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ، فَهَذِهِ كُتُبُ ابْنِ كُلَّابٍ إِمَامِ طَائِفَتِهِ، ثُمَّ الحَارِثِ المُحَاسِبِيِّ ونَحْوِهِ، ثُمَّ أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ مِثْل أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وأَبِي الحَسَنِ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ، وَغَيْرِهِ…وَالقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ البَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ وَغَيْرِهِم، كُلُّهُم يَقُولُونَ: بِإِثْبَاتِ العُلُوِّ للهِ عَلَى العَرْشِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَيُضَلِّلُونَ مَنْ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِالاسْتِيلَاءِ وَالقَهْرِ وَنَحْوِهِ…فَكَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّ خُصُومَهُ إِنَّمَا هُمُ الْكَرَّامِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ! بَلْ لَمْ يُوَافِقْهُ إِلَّا فَرِيقٌ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. حَتَّى حُذَّاقُ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُمْ مِنْ خُصُومِهِ فِي هَذَا الْبَابِ”. انتهى
وَذكر ابنُ تيميَّة كلام الإمام عليِّ بنِ مهديٍّ الطَّبري في مسألة “الاستواء” والعُلُوِّ الحِسِّي بزعمه، فقال في بَيَانُ تَلبِيسِه: “وَلِشُهْرَةِ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ – الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ – فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي “مُشْكِلِ الْآيَاتِ” فِي بَابِ قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]: “اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – فِي السَّمَاءِ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، عَلَى عَرْشِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ. بِمَعْنَى: عَلَوْتُهُ. وَاسْتَوَى الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي. بِمَعْنَى: عَلَا فِي الْجَوِّ فَوُجِدَ فَوْقَ رَأْسِي. فَالْقَدِيمُ جَلَّ جَلَالُهُ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، قَوْلُهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الْمُلْكِ: 16] وَقَوْلُهُ: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 55] وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فَاطِرٍ: 10] وَقَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السَّجْدَةِ: 5]”. انتهى
بهذه الطَّريقة نقل ابن تيميَّة كلام الإمام علي بنِ مهديٍّ الطَّبريِّ في “الاستواء”، بحيثُ يُخيَّل للقارئ أنَّ الإمامَ جارٍ على عقيدة الجِهة الَّتي يُنافح عنها هذا الحرَّاني هو وأسلافه المجسِّمة.
وبتتبع كلام الإمام أبي الحسن علي بن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ ، كما جاء في كتابه الَّذي اقتطع منه ابن تيميَّة نقولاته السَّابق، والذي طُبِع بعنوان “تأويلُ الآياتِ المشكَّلةِ الموَضَّحةِ وبيانُها بالحُججِ والبُرهان”، نجد ما يلي:
قالَ الإمامُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيٌّ بنُ مهدِيٍّ الطَّبَرِيُّ: “اعْلَمْ – عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الزَّيْغِ بِرَحْمَتِهِ – أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ، كَمَا [تَقُولُ] الْعَرَبُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ، يَعْنِي: عَلَوْتُهُ. وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي. بِمَعْنَى: عَلَا فِي الْجَوِّ، فَوُجِدَ فَوْقَ رَأْسِي.
فَالْقَدِيمُ – جَلَّ جَلَالُهُ – عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ، وَلَا مُمَاسٌّ لَهُ وَلَا مُبَايَنٌ، وَالعَرْشُ: مَا تَعْقِلُهُ الْعَرَبُ، وَهُوَ السَّرِيرُ.
وَيَدُّلُّكَ عَلَى أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الْمُلْكِ: 16]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 55]. وَقَوْلُهُ: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النَّحل: 50]. وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فَاطِرٍ: 10]. وَقَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السَّجْدَةِ: 5]”. هذا نصُّه بحروفهِ.
وتأمَّل يا عبد الله التَّنزيه الصَّريح الَّذي حذفه ابن تيميَّة من سياق كلام الإمام، حتَّى يظهره على نقيض مُراده؛ وهو قوله: ” لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ، وَلَا مُمَاسٌّ لَهُ وَلَا مُبَايَنٌ” ، وهو كما ترى نصٌّ لا يقبل التَّأويل، صريحٌ في نفي المُماسَّة عنه تعالى بمعنى الاتِّصال بالعالَمِ، وصريحٌ أيضاً في نفي المباينة عنه تعالى بمعنى الانفصال عن الخلق بالمسافة، أي: نفي الدُّخول والخروج عنه جلَّ وعلا، وهو ما يكذِّب دعوى ابنِ تيميَّة الَّتي أطلقها في حقِّ الرَّجل، ويُثبت بمكان نوع الخيانة العلميَّة الَّتي تلبَّس بها هذا الحرَّاني.
وفي ما يلي بعض نصوص ابنِ تيميَّة الَّتي تبيِّن سَبب ركوبه هذا المنحى الخطير:
قال ابنُ تيميَّة في بيان تلبيسه : ” وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ – الأشاعرة-: الْمَوْجُودُ الْمُبَايِنُ لِلْعَالَمِ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ، أَوْ قَوْلُهُمُ: الْمَوْجُودُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ؛ مِثْلَ قَوْلِ إِخْوَانِهِمْ – الحُلُوليَّة-: أَنَّهُ فِي الْعَالَمِ لَيْسَ بِمُبَايِنٍ لِلْعَالَمِ وَلَا مُمَاسٍّ لَهُ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ؟ بَلْ قَوْلُهُمْ أَظْهَرُ فَسَادًا”. انتهى
إذن: عقيدة السَّادة الأشاعرة في أنَّه تعالى لا مُباينٌ للعالَم ولا مُماسٌّ له؛ أظهر فساداً في نظر ابن تيميَّة من عقيدة الحلوليَّة الكُفريَّة القائمة على أنَّه تعالى بذاته في العالَم بلا مُباينة للعالَم ولا مُماسَّة له.
وعلى هذا؛ فقول الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ السَّابق – والذي حذفه ابن تيميَّة – وهو قوله: “أنُّه تعالى لَا مُمَاسٌّ للعرشِ وَلَا مُبَايَنٌ لهُ” يكون أظهر فساداً – في نظر ابن تيميَّة – مِن قول هؤلاء الحلوليَّة الكفرة.
وإذا كانت الحلوليَّة كفَّارٌ كما هو معلوم؛ فما هو حُكم مَن يعتقد عقيدةً تكون أظهر فساداً من عقيدة هؤلاء الكفرة؟ أوليس في هذا تكفير مِن ابن تيميَّة لأهل السُّنَّة الأشاعرة باستعمال طَريق الأَوْلى؟! ماذا يُطلق على صنيع ابن تيميَّة هنا؟! وما عسى أن يُقال في أسلوبه الماكر هذا؟ نسأل السلامة من خبثه ومكره وجنايته على الدين.
فكلُّ هذه النُّصوص وغيرها؛ تُثبت نوع الخيانة العِلميَّة الخطيرة الَّتي استباحها ابن تيميَّة لنفسه، وهي تؤكِّد بمكان أنَّ عقيدة الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ في نفي المباينة والمُماسَّة عنه تعالى؛ ما هي في نظر ابن تيميَّة عندَ التَّحقيق: إلَّا عقيدة نفاةِ الرَّبِّ، لأجل هذا حذف هذا التَّنزيه مِن سياق كلام الرَّجل.
والعجيب اننا نجد الحافظُ الذَّهبيُّ قد مارس نفس التَّزوير الَّذي مارسه شيخه الحرَّاني، بل وبحذافيره، كما في كتابه العرش، وكذلك في كتابه الآخر العُلُوُّ للعليِّ الغفَّار.
وكذلك الحافظ ابنُ عبد الهادي المتعصِّب لشيخه ابن تيميَّة، فقد وقع هو الآخر في نفس الخيانة العلميَّة الَّتي مارسها شيخه في النَّقل هنا، كما نجد ذلك في رسالته “الكلام على مسألةِ الاستواء على العرشِ”.
هذا؛ وقد نقل ابنُ القيِّم في كتابه “تَهذيب سننِ أبي داود” عن الحافظ البيهقيِّ كلامَ الإمام عَلِيِّ بنِ مهدِيٍّ الطَّبَرِيِّ السَّابق في “الاستواء”، مُحتجًّا به في إثبات العُلُوِّ الحِسِّي، وهو في الحقيقة مُناقض لمذهبه ومذهب شيخه الحرَّاني بمائة وثمانين درجة، وبالتَّالي فهو عليه لا له.
ولكنَّ ابن القيِّم لَم ينقل شرح الحافظ البيهقي على كلام الإمام ابن مهديٍّ الطَّبريِّ، ونص كلام الحافظُ البيهقيُّ ي الأسماء والصفات: ” وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ: إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ؛ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ؛ كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ؛ بِمَعْنَى عَلَوْتُهُ، وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي؛ بِمَعْنَى عَلَا فِي الْجَوِّ فَوُجِدَ فَوْقَ رَأَسِي. فَالْقَدِيمُ سُبْحَانَهُ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ وَلَا مُمَاسٌّ وَلَا مُبَايَنٌ عَنِ الْعَرْشِ”. انتهى
ثمَّ شرحَ الحافظُ البيهقِيُّ كلامَ الإمام، فقال: “يُرِيدُ بِهِ: مُبَايَنَةَ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الِاعْتِزَالِ أَوِ التَّبَاعُدِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاسَّةَ وَالْمُبَايَنَةَ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا وَالْقِيَامَ وَالْقُعُودَ مِنْ أَوْصَافِ الْأَجْسَامِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْأَجْسَامِ.
وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ رَحِمَهُ اللهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: “اسْتَوَى بِمَعْنَى: عَلَا”، ثُمَّ قَالَ: “وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عُلُوًّا بِالْمَسَافَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُتَمَكِّنًا فِيهِ، وَلَكِنْ يُرِيدُ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: 16] أَيْ: مَنْ فَوْقَهَا، عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَحْوِيهِ طَبَقٌ، أَوْ يُحِيطُ بِهِ قُطْرٌ، وَوَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الْخَبَرِ، فَلَا نَتَعَدَّى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ”. قُلْتُ: وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَكَلِمَةُ “ثُمَّ” تَعَلَّقَتْ بِالْمُسْتَوى عَلَيْهِ، لَا بِالِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: 46] يَعْنِي: ثُمَّ يَكُونُ عَمَلُكُمْ فَيَشْهَدُهُ.
وَقَدْ أَشَارَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حِكَايَةً، فَقَالَ: “وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ، وَلَا يُقَالُ: لَمْ يَزَلْ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ قَدْ حَدَثَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَلَا يُقَالُ: لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِأَنْ قَدْ حَدَثَتْ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدُ”.
قَالَ: “وَجَوَابِي هُوَ الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْأَشْيَاءَ بَائِنٌ مِنْهَا؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَحُلُّهُ وَلَا يَحُلُّهَا، وَلَا يَمَسُّهَا وَلَا يُشْبِهُهَا، وَلَيْسَتِ الْبَيْنُونَةُ بِالْعُزْلَةِ، تَعَالَى اللَّهُ رَبُّنَا عَنِ الْحُلُولِ وَالْمُمَاسَّةِ عُلُوًّا كَبِيرًا”. انتهى
إذن: فمذهب الإمامِ أبي الحسنِ عليٍّ بن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ كما شرحه الحافظُ البيهقيُّ، هو أنَّه يُثبت الاستواء صفة ذات – لا فِعلٍ – على أحد القَولين عند السَّادة الأشاعرة، مع نفيه بينونة المسافة والعُزلَةِ والتَّباعد الحِسِّي، وبالتَّالي نفي عُلُوِّ المكان والتَّمكُّن في جِهةٍ، وغيره من لوازم الجِسميَّة.
لأجل هذا لم ينقل ابن القيِّم تعليق الحافظ البيهقي الَّذي يبيِّن معنى كلام الإمامِ ابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ في الاستواء، وكم له من مثل هذه الخرجات.
#منقول عن الباحث ياسين بن ربيع
رابط ذو علاقة:
شيخ الأشعرية أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ
https://www.facebook.com/share/rgWxTYMpVHhrayWw/
رابط تجميع البحوث عن ابن تيمية:
https://www.facebook.com/share/p/WakDmVkxDu6aMFgo/


