شبهة قصة التحكيم المشهورة بين معاوية وعلي بن أبي طالب
بعد أن قتل عمار بن ياسر الذي وردت فيه النصوص المبينة، أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن علياً كان على حق، وأن القتال معه كان واجباً، ولذا ندم ابن عمر وغيره من الصحابة عن تخلُّفهم، وما ذلك إلا لأنهم تركوا واجباً وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق.
وكان خزيمة بن ثابت قد حضر صفين وكان كافاً سلاحه، فلما رأى مقتل عمار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله ﷺ عن عمار: «تقتله الفئة الباغية» واستمر في القتال حتى قتل.
وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فقد جاء في رواية صحيحة: أن عمرو بن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار، وقد قال فيه رسول الله ﷺ: «تقتله الفئة الباغية». فقام عمرو بن العاص فزعاً يسترجع، حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار، قال: فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله ﷺ يقول له: «تقتلك الفئة الباغية» فقال له معاوية: أو نحن قتلناه؟! إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: بين سيوفنا.
وقد كاد الجيش العراقي بقيادة علي بن أبي طالب أن ينتصر على الجيش الشامي، فتفتق ذهن عمرو بن العاص لانهاء الحرب، وقد كان قتل عمار دافعاً له للسعي لإنهاءها. وقد قال: “وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة”. انتهى
فلجأ هو ومعاوية للتحكيم بين الفريقين.
1- بيان زيف القصة المشهورة في التحكيم
قصة التحكيم المشهورة بين معاوية وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما وقع بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري في معركة صفين، قد ثبت زيفها، وأنها من وضع الكذابين والقصاصين.
وبعض المغرضين يروونها ليظهروا أن أبا موسى كان متصفا بالبله والسذاجة، وأن عمرو بن العاص كان موسوما بالغدر والمكر.
وهذه الرواية لا تصح سندا، ففيها راويان ضعيفان وهما:
– أبو مخنف لوط بن يحيى.
– أبو جناب الكلبي.
راجع ترجمتهما تحت هذا الرابط:
https://www.facebook.com/share/p/197UWB3EaV/
وأما من ناحية المتن فإننا نلحظ أثر الكذب من وجهين:
• الأول: الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين عليّ ومعاوية حول مصير قتلة عثمان، وتوقيع القصاص منهم، بخلاف ما تدعية الرواية المكذوبة.
ثم إن الخلاف بين علي ومعاوية كان سببه رفض معاوية بيعة الإمام علي بتعلة أخذ القصاص من قتلة عثمان.
ولأجل ذلك أصبح معاوية ومن تبعه من أهل الشام في نظر الإمام علي في موقف الخارجين على الخلافة.
و إضافة لذلك فإن معاوية امتنع عن تنفيذ أوامر الإمام علي في أرض الشام، فقد كان متغلبا عليها بحكم الواقع لا بحكم الشرع، مستفيدا من طاعة الناس له بعد أن بقي واليا فيها زهاء عشرين سنة. فقد تولى معاوية حكم الشام نائبا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبقي في ولايته إلى أن مات عمر، وتولى عثمان رضي الله عنه أمر الخلافة فأقره في منصبه، ثم قُتل عثمان، وتولى علي رضي الله عنه الخلافة فلم يقر معاوية في عمله، حيث أصبح معزولا بعد انتهاء ولايته بمقتل الخليفة الذي ولاه.
فالإمام علي بيعته قد انعقدت برضا من حضرها من المهاجرين والأنصار وبقية الصحابة بالمدينة، ولزمت بذلك بقية المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية، ولذلك رأى أن معاوية ومن معه من أهل الشام بغاة خارجون عليه، فقرر أن يخضعهم ويردهم إلى حظيرة الجماعة ولو بالقوة.
وعليه فالتحكيم لم يكن متعلقا بالخلافة، لأنها ثابتة لعلي بمبايعة الصحابة له ولا تنتقل الخلافة بمجرد التحكيم.
ثم ان عزل أو تثبيت كل من علي ومعاوية من خلال الحكمين أمر مستبعد؛ إذ إن العزل في حق معاوية هنا لو وقع فهو في غير محله؛ فليس للحكمين أن يعزلا معاوية وهو ليس الخليفة الذي تمت بيعته. فعما يعزلانه؟
قال أبو الخطاب ابن دحية الكلبي في كتابه: “أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين”: قال الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري – الباقلاني – في “مناقب الأئمة”: “فما اتفق الحكمان قط على خلعه – علي بن أبي طالب -… وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع حتى يكون الكتاب والسنة المجتمع عليهما يوجبان خلعه أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما أو إلى أن يبينا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة، ونص كتاب علي – رضي الله عنه: اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله – عز وجل – من فاتحته إلى خاتمته لا يجاوزان ذلك ولا يحيدان عنه، ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما… والكتاب والسنة يثبتان إمامته، ويعظمانه ويثنيان عليه، ويشهدان بصدقه وعدالته، وإمامته وسابقته في الدين، وعظيم عنائه في جهاد المشركين، وقرابته من سيد المرسلين، وما خص به من القدم في العلم والمعرفة بالحكم، ووفور الحلم، وأنه حقيق بالإمامة، وأهل لحمل أعباء الخلافة…”. انتهى
•الثاني: ما يخص شخصية أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص.
فان أبا موسى الأشعري وصفته الرواية بأنه كان كالأبله، ضعيف الرأي، مخدوعا في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة؛ ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضية التحكيم. كما وصفت الرواية عمرو بن العاص بأنه كان صاحب مكر وخداع.
وليعلم أن أبا موسى الأشعري كان عالما راسخا في العلم، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم خيرا، وكان هو المعلم والمفتي والقاضي.
وأما تلك الرواية فهي تنافي الحقائق التاريخية الثابتة عن فضله وفطنته وفقهه ودينه، والتي تثبت له توليه بعض أعمال الحكم والقضاء في الدولة الإسلامية منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد بعثه النبي مع معاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، وقد استدل ابن حجر بذلك على أنه كان عالمـا فطنا، حيث قال في الفتح: تَنْبِيهٌ: كَانَ بَعْثُ أَبِي مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِأَنَّهُ شَهِدَ غَزْوَةَ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ عَالِمًا فَطِنًا حَاذِقًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُوَلِّهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِمَارَةَ وَلَوْ كَانَ فَوَّضَ الْحُكْمَ لِغَيْرِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْصِيَتِهِ بِمَا وَصَّاهُ بِهِ وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ فَطَعَنُوا فِيهِ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْفِطْنَةِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي التَّحْكِيمِ بِصِفِّينَ. وروى الزبير بن الخريت عن أبي عبيد قال: مَا كُنَّا نُشَبِّهُ كَلامُ أَبِي مُوسَى إِلا بِالْجَزَّارِ الَّذِي لا يُخْطِئُ الْمَفْصِلَ . انتهى
فهل يتصور أن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفاؤه من بعده برجل يمكن أن تجوز عليه مثل هذه الخدعة التي ترويها قصة التحكيم؟
هذا وقد شهد الصحابة وكثير من علماء التابعين لأبي موسى رضي الله عنه بالرسوخ في العلم، والكفاءة في الحكم، والفطنة والكياسة في القضاء، فقد استعمله عمر رضي الله عنه على البصرة وبقي واليا عليها إلى أن قتل عمر رضي الله عنه. وكذلك استعمله عثمان بن عفان رضي الله عنه على البصرة، ثم على الكوفة، وبقي واليا عليها إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه. فأقره علي رضي الله عنه.
فعن أنس قال: بَعَثَنِي الأَشْعَرِيُّ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ لِي عُمَرُ: كَيْفَ تَرَكْتَ الأَشْعَرِيَّ؟ فَقُلْتُ لَهُ: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْقُرْآنَ.
فَقَالَ: “أَمَا إِنَّهُ كَيِّسٌ وَلا تُسْمِعْهَا إِيَّاهُ “. انتهى
وقال الشعبي: كتب عُمَر فِي وصيته: أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة، واقروا الأشعري أربع سنين. انتهى
وقال الأسود بن يزيد: “لَمْ أَرَ بِالكُوْفَةِ أَعْلَمَ مِنْ عَلِيٍّ وَأَبِي مُوْسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا”.
وقال مسروق: “كَانَ القَضَاءُ فِي الصَّحَابَةِ إِلَى سِتَّةٍ: عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُوْدٍ، وَأُبَيٍّ وَزِيْدٍ، وأبي موسى”. انتهى
إضافة إلى كل ذلك فقد كان أبو موسى الأشعري محبوباً مؤتمناً من قبائل العراق فقد ولاه عمر البصرة والكوفة على التوالي. وعندما منع أهل الكوفة بقيادة الأشتر، سعيد بن العاص من دخولها وردوه إلى المدينة، ولّوا عليهم أبا موسى، فما كان من الخليفة عثمان رضي الله عنه، إلا أن أقره إرضاءاً لهم.
و مع أن أبا موسى كان قد أخذ البيعة للإمام علي من أهل الكوفة، لكنه كان ممن اعتزل القتال ولم يسع لحث الكوفيين على القتال في صف علي.
فأراد الإمام علي رضي الله عنه عزله، فسأله الأشتر أن يقر أبا موسى رضي على الكوفة فاستجاب له الإمام علي، ولعل ذلك بسبب كون أبي موسى محبوبا عند العراقيين.
بل إن المصادر المتقدمة تذكر أن علياً هو الذي اختار أبا موسى للتحكيم.
قال خليفة في تاريخه: “سنة سبع وَثَلَاثِينَ:
وقْعَة صفّين فِيهَا وقْعَة صفّين يَوْم الْأَرْبَعَاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَكَانَ الصُّلْح لَيْلَة السبت لعشر خلون من صفر وفيهَا قتل عمار بْن يَاسر وهَاشِم بْن عتبَة وفيهَا اجْتمع الحكمان أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ من قبل عَلِيّ وَعَمْرو بْن الْعَاصِ من قبل مُعَاوِيَة “. انتهى
وقال ابن سعد في طبقاته: “فَكَرِهَ النَّاسُ الْحَرْبَ وَتَدَاعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، وَحَكَّمُوا الْحَكَمَيْنِ، فَحَكَّمَ عَلِيٌّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَحَكَّمَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ”. انتهى
فالموقف الثابت تاريخياً أن علياً رضى الله عنه، قبِل التحكيم من تلقاء نفسه بعيداً عن أي ضغوط، وذلك تماشياً مع أحكام الإسلام التي تحث على إصلاح ذات البين والرحمة والرأفة والرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع والاختلاف.
2- ذكر الرواية الصحيحة
إن ذكر الرواية الصحيحة من الأهمية بمكان في هذه القضية، هي تدحض الرواية المكذوبة وتدحضها؛ فقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن حصين بن المنذر أنه جاء فضرب فسطاطه قريبا من فسطاط معاوية، فبلغ نبؤه معاوية، فأرسل إليه فقال: ” إنه بلغني عن هذا – عمرو بن العاص – الذي بلغني عنه فأتيته، فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟
قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما”. انتهى
ثم انتهى الأمر على هذا فرجع عمرو بن العاص إلى معاوية -رضي الله عنهما- بهذا الخبر، ورجع أبو موسى الأشعري إلى عليٍّ رضي الله عنهما.
رابط ذو علاقة:
تجميع المقالات عن الفتنة الكبرى
