بيان ما قاله السرهندي الفاروقي المتوفى سنة 1034 هجري عن الإمام الأشعري
تحتج المجسمة للطعن في الشيخ أبي الحسن الأشعري بما قاله الشيخ أحمد السرهندي الفاروقي الماتوريدي في مكاتباته حيث انتقد مذهب الأشعري في القدر واعتبر مذهبه داخلا في دائرة الجبر وأن كثيرا من ضعيفي الهمة المحتجون بالقدر الأشعري يميلون إلى مذهبه لهذا السبب.
والجواب على هذه الشبهة أن يقال أن السرهندي قد امتدح الشيخ أبا الحسن الأشعري ووصفه بأنه رئيس أهل السنة و الجماعة. فقد قال في مكاتباته – الجزء 2 صحيفة 184 تحت المكتوب السابع و الستون إلى خانجهان في بيان عقائد أهل السنة و الجماعة ما نصه: “قال رئيس أهل السنة الشيخ أبو الحسن الأشعري أن أفضلية الشيخين على باقي الأمة قطعية لا ينكرها إلا جاهل أو متعصب”. انتهى
أما في ما يتعلق بمسألة الكسب فإن الخلاف بين الماتريدية والأشاعرة هو خلاف فرعي و ليس أصلي, فإنهم متفقون على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وأنها كسب من العباد, بدليل ما قاله السرهندي في مكتوباته في الجزء 1 صحيفة 560 تحت المكتوب التاسع و الثمانون و المئتان في بيان أسرار القضاء و القدر و ما يناسب ذلك: ” قال أهل السنة ان الأفعال الاختيارية للعباد مقدورة الله تعالى من حيث الخلق و الإيجاد و مقدورة العباد على وجه آخر من تعلق يعبر عته بالاكتساب فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تعالى تسمى خلقا و باعتبار نسبتها إلى قدرة العبد كسبا له”. انتهى
وقوله ” قال أهل السنة” معناه أن الأشعري لا يخالف في هذه المسألة لأنه رئيس أهل السنة كما وصفه.
وقال السرهندي أيضا في الجزء 3 من مكاتباته في الصحيفة 32 ما نصه: ” ففعل العبد الاختياري واقع بمجموع كسب العبد و خلق الحق جل و علا فلو لم يكن لكسب العبد و اختياره مدخل في فعله يكون حكمه حكم فعل المرتعش و الفرق محسوس و مشاهد”. انتهى
أما قول السرهندي : ” غير أن الأشعري منهم – أي من أهل السنة و الجماعة – ذهب إلى أن لا مدخل لاختيار العباد في أفعالهم أصلا إلا أن الله سبحانه أوجد الأشياء عقيب اختيارهم بطريق جري العادة إذ لا تأثير للقدرة الحادثة عنده و هذا المذهب مائل إلى الجبر ولهذا يسمى بالجبر المتوسط”. انتهى
فجوابه أن العبرة بالبيان و الدليل و كلام السرهندي ليس صحيحا بهذا الاطلاق فقد قال الشيخ محمد بن الحسن بن فورك في كتابه “مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة” – تحقيق وضبط: أحمد عبد الرحيم السايح, مكتبة الثقافة الدينية الطبعة الثانية، 1427هـجري – في الصحيفة 93 ما نصه: ” وكان – أي الأشعري – يذهب في تحقيق معنى الكسب والعبارة عنه إلى أنه: ما وقع بقدرة محدثة، وكان لا يعدل عن هذه العبارة في كتبه، ولا يختار غيرها من العبارات عن ذلك، وكان يقول: إن عين الكسب وقع على الحقيقة بقدرة محدثة، ووقع على الحقيقة بقدرة قديمة، فيختلف معنى الوقوع، فيكون وقوعه من الله عز وجل بقدرته القديمة إحداثا، ووقوعه من المحدث بقدرته المحدثة اكتسابا ” انتهى
وقد استدرك السرهندي كلامه بعد ذلك و بين في الصحيفة 561 مذهب الأشعري فقال: ” إن القدرة – أي الحادثة – و إن لم يكن لها تأثير في الأفعال إلا أنه سبحانه جعلها مدارا لوجود الأفعال بأن يخلق الله تعالى الأفعال عقب صرف قدرتهم و اختيارهم إلى الأفعال بطريق جري العادة و كأن القدرة – أي الحادثة – علة عادية لوجود الأفعال فيكون للقدرة مدخل في صدور الأفعال عادة لأنها لم توجد بدونها عادة و إن لم يكن لها تأثير في الافعال فباعتبار العلة العادية تنسب إلى العباد أفعالهم حقيقة هذا هو النهاية في تصحيح مذهب الأشعري و الكلام بعد محل تأمل”. انتهى
و كذلك قول السرهندي أيضا: ” ومذهب الأشعري داخل في دائرة الجبر في الحقيقة إذ لا اختيار عنده حقيقة و لا تأثير للقدرة الحادثة عنده أصلا إلا أن الفعل الاختياري عند الجبرية لا ينسب إلى الفاعل حقيقة بل مجازا و عند الأشعري ينسب إلى الفاعل حقيقة و ان لم يكن الاختيار ثابتا له حقيقة “. انتهى
فقد نقض كلامه بنفسه لما قرر أن العبد له اختيار و إرادة وهو عين مذهب الأشعري حيث قال: “…فنقول في تحقيق هذا الكلام و الله سبحانه أعلم بحقيقة المرام أن الاختيار لو لم يكن ثابتا للعبد حقيقة كما هو مذهب الأشعري لما نسب الله تعالى الظلم إلى العباد”. انتهى
وهذا عين ما ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني الذي قام بنشر مذهب أبي الحسن الأشعري من بعده, حيث قال في الإنصاف – طبعة المكتبة الأزهرية للتراث- صحيفة 43 ما نصه: ” ويجب أن يُعلم: أن العبد له كسب، وليس مجبوراً، بل مكتسب لأفعاله من طاعة ومعصية، لأنه تعالى قال: “لها ما كسبت” – سورة البقرة آية 285- ، يعني من ثواب طاعة “وعليها ما اكتسبت” – سورة البقرة آية 285-، يعني من عقاب معصية، وقوله: “بما كسبت أيدي الناس” – سورة الروم آية 40- ، وقوله: “وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم” – سورة الشورى آية 28- ، وقوله: “ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى، فإذا جاء أجلهم، فإن اللّه كان بعباده بصيراً” -سورة فاطر آية 46 -. انتهى
وكذلك قول السرهندي في مكاتباته في الصحيفة 562: ” و اعلم أن كثيرا من الناس لضعف هممهم و قصور نياتهم يطلبون الاعتذار ودفع السؤال عن أنفسهم فيميلون إلى المذهب الأشعري بل إلى مذهب الجبري”. انتهى
ليس فيه أن قول الأشعري في مسألة الكسب يوافق مذهب الجبرية. بل معناه أن مذهبه في هذه المسألة هو الأسهل و الأقرب لفهم الناس على اختلاف أفهامهم وهو الحق و إن كان بعضهم يميل إلى الجبر وهو باطل. فعند الأشعري : العبد له الكسب الذي لا خلق فيه، والله له الخلق الذي لا يشاركه فيه أحد.
كتبه أبو عمر محمود الشيخ الأشعري – تونس المحروسة
أبو عبد الله محمد بن مجاهد الطائي البصري المتوفى ببغداد نحو سنة 370 هـجري
هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري، أحد أئمة المالكية في العراق، وشيخ القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني في الكلام.
قال أبو بكر الخطيب في تاريخه: “محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي المتكلم، أبو عبد الله، صاحب أبي الحسن الأشعري، ثمّ من أهل البصرة، وسكن بغداد وعليه درس القاضي أبو بكر الباقلاني الكلام، وله كتب حسان في الأصول، ذكر لنا غير واحد من شيوخنا أنه كان يحسن الستر، يحسن الزي، جميل الطريقة، وكان البرقاني يثني عليه ثناء حسناً وأدركه ببغداد فيما أحسب، وكان ابن مجاهد هذا مالكي المذهب إماماً فيه مقدماً، غلب عليه علم الكلام والأصول”. انتهى
تتلمذه ابن مجاهد على أبي الحسن الأشعري والقاضي التستري، وأبي زيد المروزي، و غيرهم.
فأما الأشعري فالغالب أنه أخذ عنه ببغداد، لأن شهرته كانت بها، ولأنه دخلها سنة 320 هـ في زمن شباب ابن مجاهد، ويؤكد هذا أن ابن السمعاني قال في ترجمته :”قدم بغداد ودرس بها الكلام”، ولم تكن دراسته إلا على أبي الحسن الأشعري.،
وكذلك أبو زيد المروزي المتوفى سنة 371 هـجري، ذكر في سيرته أنه دخل بغداد، ثم استقر بمكة؛ فالغالب أنه تتلمذ عليه هناك.
وأما التستري الفقيه؛ فالظاهر أنه أخذ عنه في البصرة؛ لأنّ مدّة مكوث التستري في بغداد لم تكن طويلة، فقد مات في السنة التي دخلها.
ومن هذا نخلص إلى أن ابن مجاهد قد تلقى تعليمه أولا في البصرة التي ولد بها وأمضى فيها شبابه، ثم واصله في بغداد التي استقر بها حتى مات فيها.
وهذا يدلنا ان ابن مجاهد أخذ الكلام عن الأشعري، وأخذ الفقه عن التستري، وعن ابن أبي زيد إجازة، وأخذ الحديث عن المروزي.
قال القاضي عياض عن ابن مجاهد:”سمع الصحيح من أبي زيد المروزي، ورأيت سماعه في كتاب الأصيلي بخطه”. انتهى
كما تتلمذ ابن مجاهد على ابن أبي زيد القيرواني، الذي أجازه في بعض كتبه الفقهية؛ مثل”مختصر المدونة” و”النوادر والزيادات”. وقد ذكر القاضي عياض نص مراسلة من أبي عبد الله بن مجاهد إلى ابن أبي زيد مؤرخة بسنة ثمان وستين؛ يثني فيها على كتاب “المختصر” الذي وصلته منه قطع؛ فطلب إرسال باقيه مع كتاب “النوادر” الذي بلغه خبره ولم يره، مع إجازته بكل ذلك، فأجابه ابن أبي زيد إلى طلبه وأرسل إليه بنسخة من “المختصر” وبعض “النوادر” لعدم تبييضه كاملا، وأثنى عليه بقوله: “وعندنا من أخبار الشيخ الطيبة، ما تعم مسرته، من نصرته هذا المذهب وذبه عنه، ومحاماته عليه”.
قال القاضي عياض في ترجمته : “وابن مجاهد هذا كان مالكي المذهب، إماما فيه مقدما، غلب عليه علم الكلام والأصول”. انتهى
وكان ابن مجاهد أيضا من المفتين المبرزين في بغداد المرجوع إليهم في باب العقائد، ومما يدلنا على ذلك ما حكاه أبو علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي المتوفى سنة 428 هـجري قال:” حضرت دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحرث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين، وأبو القسم الداركي شيخ الشافعيين، وأبو الحسن طاهر بن الحسن شيخ أصحاب الحديث وأبو الحسين ابن سمعون شيخ الوعاظ والزهاد وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة. قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدا منهم”. انتهى
والشاهد من قوله ” لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدا منهم”، التي تعني أن كل واحد منهم كان أعلم أهل بغداد في الفن المنسوب إليه، فابن مجاهد رغم كونه مالكيا إلا أنه لم يبلغ رتبة الأبهري في الفقه، ولكن في علم الكلام كان الأعلم والأشهر، والباقلاني في ذلك الوقت كان تلميذا له منسوبا إليه، ولأجل هذا الاختصاص بالكلام والشهرة به في بغداد وغيرها؛ اقتصر الخطيب في التعريف به، وبيان منزلته العلمية بقوله:” المتكلم صاحب أبي الحسن الأشعري”.
ومما يدلنا على تعظيم ابن مجاهد لعلم الكلام واعتزازه به: ما ذكره الخطيب من أنه كان ينشد لبعضهم :
أيها المغتدي ليطلب علماً … كل علم عبد لعلم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكماً … ثم أغفلت مُنزل الأحكام.
1- تلاميذه:
– أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة 403 هـجري: هو أشهر تلاميذه وأخصهم به، حتى أن الخطيب في تعريفه بابن مجاهد ذكر بأن الباقلاني درس عليه الكلام.
– أبو بكر إسماعيل بن إسحاق بن عزرة الأزدي القيرواني المالكي: هو ناقل رسالة أهل الثغر إلى المغرب وقد قرأها على تلاميذه بالمنستير، كما أنه هو من حمل بعض كتب ابن أبي زيد إلى ابن مجاهد.
قال القاضي عياض: «فقيه فاضل زاهد قيرواني من أصحاب أبي محمد بن أبي زيد القيرواني وطبقته، ورحل إلى المشرق فلقي ابن مجاهد الطائي المتكلم وأخذ عنه وأبا بكر الأبهري وأبا محمد بن أحمد البغدادي وسمع غيرهم، وكان الغالب عليه الزهد والعبادة، وقد سمع منه الناس روى عنه حاتم الطرابلسي وأبو مروان الطبني، وأثنى عليه ابن أبي زيد». انتهى
-أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المؤمن المكي المتكلم: هو مكي دخل العراق فأخذ عن ابن مجاهد والأبهري، ثم انتقل إلى القيروان فتتلمذ هناك على ابن أبي زيد وغيره واستقر بها، وعرف بالكلام والمناظرات.
2- مؤلفات ابن مجاهد
لقد ألف ابن مجاهد عددا من المؤلفات منها ما:
-رسالة في الاعتقادات أرسلها إلى ثغر باب الأبواب.
-كتاب في أصول الفقه على مذهب مالك: لم يعرف عنوانه، وذكر الخطيب أن له كتبا حسانا في الأصول، فلعل هذا الوصف يرجع إلى ما صنفه في أصول الفقه، وربما يشمل ما ألفه في أصول الدين؛ لأن مصطلح “الأصول” يحتمل المعنيين.
-كتاب تهدية المستبصر ومعونة المستنصر: ولا يعلم موضوعه تحديدا، والغالب أنه في علم الخلاف.
3- وفاة ابن مجاهد
لم يؤرخ الخطيب والقاضي عياض والذهبي وابن فرحون لوفاته، وقال محمد مخلوف :” لم أقف على وفاته”، ولكننا نجد في تاريخ ابن عساكر ما يدل على أنه كان حيا سنة 370 هـجري ولعل ذلك ما جعل ابن العماد واليافعي وصاحب هدية العارفين يؤرخون وفاته في سنة 370. وأما الصفدي فقال:” توفي في عشر السبعين والثلاث مائة تقريبا”.
وأما ما ذكره المراغي صاحب الفتح المبين من أنه توفي حوالي الأربعمائة، فمستبعد ولم يسبق إليه. ودفن ابن مجاهد ببغداد قرب قبر الأشعري ومن قبر أبي بكر ابن فورك رحمهم الله تعالى.
4- عقيدة ابن مجاهد
كانت العقيدة التي سطرها ابن مجاهد هي عين ما أخذه تلقيا عن الإمام الأشعري، فقد جاء في رسالة إلى أهل الثغر بعد ذكر صفات المعاني ومنها صفة الكلام:« على أن شيئا من هذه الصفات لا يصح أن يكون محدثا؛ إذ لو كان شيء منها محدثا لكان تعالى قبلها موصوفا بضدها، ولو كان ذلك لخرج عن الإلهية …إذ لا يجوز عليه الانتقال من حال إلى حال ». انتهى
فصرح رحمه هنا بنفي الحدوث عن الله، و يوضِّح ذلك قوله في موضع آخر:« وأجمعوا على أنَّ أمره عز وجل غير محدث ولا مخلوق »، وهذا عينه اعتقاد السلف.
فالأشعري وأتباعه متبعون للسلف وهم يقولون عن الكلام إنَّه صفة قديمة أزلية غير متعلقة بالمشيئة، لأنَّ التجدُّد يستلزم التغير، وهو من علامة المخلوق، وقد صرح بهذا المعنى الأشعري في الإبانة المحرف، إذ جعل السكوت آفة ينـزه عنها الإله، فالله تعالى عنده لم يزل متكلما، كما لم يزل عالما، والكلام نفسه يقال عن الإرادة والسمع والبصر؛ فإنَّ الأشعري وأتباعه يجعلونها معنى واحدا لا يتجدَّد أيضا.
وهو ما صرح به جمهور أهل السنة والجماعة. وهو بخلاف قول المجسمة وزعيمهم ابن تيمية أن هذه الصفات قديمة النوع متجدِّدة الأفراد، والعياذ بالله، حتى زعموا أن الله لم يزل متكلما إذا شاء، أي أن صفة الكلام عندهم متعلقة بمشيئة الله.
كما نقل ابن مجاهد في “رسالة أهل الثغر” إجماع السلف الصالح على استحالة كون الله تعالى جسما أو جوهرا محدوداً و نقل في الصحيفة 227 اتفاق السلف على تنزيه الله تعالى عن الحركة والسكون والزوال.
كلام الإمام الأشعري و الباقلاني في ما حدث بين الإمام علي و معاوية
بسم الله الرحمن الرحيم
ﺍﻹﻣﺎﻡ ﺃﺑﻮ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺍﻷﺷﻌﺮﻱ المتوفى سنة 342 هجري كان يرى أن اجتهاد معاوية و جماعته على ثلاث مراتب:
– المرتبة الأولى: حالة الاجتهاد الغير مقترن بالخروج على الخليفة وهذا يثاب عليه ولا يؤاخذ به. بمعنى أن اجتهاد معاوية للمطالبة بدم سيدنا عثمان قبل خروجه على الامام علي مأجور عليه. وعلى هذا يُحمل كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري حيث قال: “وقال – أي الأشعري – كل مجتهد مصيب وكلهم على الحق وإنهم لم يختلفوا في الأصول وإنما اختلفوا في الفروع فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى شيء فهو مصيب وله الأجر والثواب على ذلك”. انتهى
– المرتبة الثانية: حالة اقتران الاجتهاد بالعزم على الخروج على الخليفة, ولا نزاع في المؤاخذة به.
– المرتبة الثالثة: اقتران الاجتهاد بالخروج على الخليفة ,و قد عده الأشعري اثما وبغيا لكنه لا يصل بصاحبه إلى حد الفسق بخلاف بعض أهل السنة ممن عده فسقا عملا بقول سيدنا عمّار: “لا تقولوا كفر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا وظلموا”. ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق والحافظ البيهقي في سننه جزء 8/ 174 وابن أبي شيبة في مصنفه جزء 15/ /290
وقد ذكر الامام ﺍﺑﻦ ﻓﻮﺭﻙ ﻓﻲ كتابه ﻣﻘﺎﻻﺕ ﺍﻷﺷﻌﺮي:”ﻭﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ – ﻳﻌﻨﻲ ﺃﺑﺎ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺍﻷﺷﻌﺮﻱ – ﻓﻲ ﺣﺮﺏ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ : ﺇﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﺑﺎﺟﺘﻬﺎﺩ ﻣﻨﻪ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺧﻄﺄ ﻭﺑﺎﻃﻼ ﻭﻣﻨﻜﺮﺍ ﻭﺑﻐﻴﺎ، ﻋﻠﻰ ﻣﻌﻨﻰ ﺃﻧﻪ ﺧﺮﻭﺝ ﻋﻠﻰ ﺇﻣﺎﻡ ﻋﺎﺩﻝ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎﻥ ﺑﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩ ﻣﻤﻦ ﻟﻪ ﺃﻥ ﻳﺠﺘﻬﺪ فيما له الاجتهاد ﻓﻴﻪ ﻭﻟﻢ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻔﺴﻖ ﺃﻭ ﺍﻟﻜﻔﺮ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺠﺮﻱ ﺫﻟﻚ ﻣﺠﺮﻯ ﺍﺧﺘﻼﻑ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤَﻴﻦ ﺇﺫﺍ ﺍﺟﺘﻬﺪا فأخطأ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻭﺃﺻﺎﺏ ﺍﻵﺧﺮ. ﻓﺄﻣّﺎ ﺧﻄﺄ ﻃﻠﺤﺔ ﻭﺍﻟﺰﺑﻴﺮ ﻓﻜﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﺇﻧﻪ ﻭﻗﻊ ﻣﻐﻔﻮﺭًﺍ ﻟﻠﺨﺒﺮ ﺍﻟﺜﺎﺑﺖ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﺒﻲّ ﺃﻧﻪ ﺣﻜﻢ ﻟﻬﻤﺎ ﺑﺎﻟﺠﻨﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺭﻭﻱ ﻓﻲ ﺧﺒﺮ ﺑﺸﺎﺭﺓ ﻋﺸﺮﺓ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﺑﺎﻟﺠﻨّﺔ ﻓﺬﻛﺮ ﻓﻴﻬﻢ ﻃﻠﺤﺔ ﻭﺍﻟﺰﺑﻴﺮ, ﻭﺃﻣﺎ ﺧﻄﺄ ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﺒﺸﺮه ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﺎﻟﺠﻨﺔ ﻓﻲ ﺃﻣﺮه ﻓﺈﻧﻪ ﻣﺠﻮّﺯ ﻏﻔﺮﺍﻧﻪ ﻭﺍﻟﻌﻔﻮ ﻋﻨﻪ”. انتهى
و هذا نص صريح من شيخ أهل السنّة أبي الحسن الأشعري بأن كل مقاتلي علي عصوا، و أن طلحة و الزبير تابا من ذلك جزما، و أما الآخرون فهم تحت المشيئة يجوز أن يغفر الله لمن شاء منهم .
قال المقريزي في المواعظ في معرض كلامه عن معتقد ابي الحسن الاشعري: قال _ اي الاشعري _ولا أقول في عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلاّ أنهم رجعوا عن الخطأ وأقول أن طلحة والزبيرمن العشرة المبشرين بالجنة وأقول في معاوية وعمرو بن العاص أنهما بغيا على الإمام الحق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم فقاتلهم مقاتلة أهل البغي وأقول أن أهل النهروان الشراة هم المارقون عن الدين وأن عليًا رضي اللّه عنه كان على الحق في جميع أحواله والحق معه حيث دار. انتهى
فكيف يقال بعد ذلك ان معاوية و جيشه غيرُ ءاثمين مع الاعتراف بأنهم بغاة ، و أما من قال إنهم مأجورون فلم يفهم كلام الأشعري جملة و تفصيلا لأن ﻓﻲ ﺗﻌﺒﻴﺮ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﺍﻷﺷﻌﺮﻱ ﻋﻦ ﺣﺮﺏ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﺄﻧﻪ ﺑﺎﻃﻞ ﻭﻣﻨﻜﺮ ﻭﺑﻐﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺑﺄﻥ ﺫﻟﻚ معصية. وليس في قول ابن فورك “ﻭﻛﺎﻥ – أي الأشعري – ﻳُﺠﺮﻱ ﺫﻟﻚ ﻣﺠﺮﻯ ﺍﺧﺘﻼﻑ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤَﻴﻦ ﺇﺫﺍ ﺍﺟﺘﻬﺪا فأخطأ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻭﺃﺻﺎﺏ ﺍﻵﺧﺮ”. حجة لمن قال أن من خرج على علي مأجور, بل معنى ذلك أن أصل المسألة كان يجريها الأشعري وفق ﺣﺪﻳﺚ: “ﺇﺫﺍ ﺍﺟﺘﻬﺪ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﻓﺄﺻﺎﺏ ﻓﻠﻪ ﺃﺟﺮﺍﻥ, ﻭﺇﺫﺍ ﺍﺟﺘﻬﺪ ﻓﺄﺧﻄﺄ ﻓﻠﻪ ﺃﺟﺮ” وهذا الأصل معتبر قبيل خروج معاوية على الإمام علي فإن اجتهاده قبل ذلك مأجور عليه بخلاف اقترانه بمحاربة الخليفة فإنه حينئذ اثم و بغي.
ولو كان الإمام الأشعري أراد بقوله إن معاوية اجتهد ذلك الاجتهاد الذي رفعت المؤاخذة عن المخطىء فيه، لم يقل إن ما حصل منهم مجوّز الغفران, وهذا ظاهر لمن يفهم العبارات. فليس كل اجتهاد معتبر شرعا ومثاب عليه.
فبعد هذا كيف يصح أن يقال إن معاوية لما خرج على الإمام علي كان باجتهاد أخطأ فيه فنثبت له أجر الإجتهاد, وكيف يكون مجتهدًا مأجورًا وفي حديث البخاري “ويدعونه إلى النار”. كيف يجتمع الظلم في مرتبة واحدة مع الأجر والثواب ويكون الظالم مأجورًا مثابًا, وما هذا عند النظر إلى الحقيقة إلا تعاميًا عن الشمس في رابعة النهار ليس دونها سحاب.
و لا عبرة أيضا بما يوجد في كتابه ﺍﻹﺑﺎﻧﺔ من كلام منسوب للأشعري كقوله: “ﻓﺄﻣﺎ ﻣﺎ ﺟﺮﻯ ﺑﻴﻦ ﻋﻠﻲ ﻭﺍﻟﺰﺑﻴﺮ ﻭﻋﺎﺋﺸﺔ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﻭﺍﺟﺘﻬﺎﺩ، ﻭﻋﻠﻲ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﻭﻛﻠﻬﻢ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩ، ﻭﻗﺪ ﺷﻬﺪ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﺎﻟﺠﻨﺔ ﻭﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، ﻓﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻬﻢ ﻛﻠﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺣﻖ ﻓﻲ ﺍﺟﺘﻬﺎﺩﻫﻢ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﻣﺎ ﺟﺮﻯ ﺑﻴﻦ ﻋﻠﻲ ﻭﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﻭﺍﺟﺘﻬﺎﺩ، ﻭﻛﻞ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﺃﺋﻤﺔ ﻣﺆﻣﻨﻮﻥ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻬﻤﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻭﻗﺪ ﺃﺛﻨﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ ﻭﺗﻌﺒﺪﻧﺎ ﺑﺘﻮﻗﻴﺮﻫﻢ ﻭﺗﻌﻈﻴﻤﻬﻢ ﻭﻣﻮﺍﻻﺗﻬﻢ، ﻭﺍﻟﺘﺒﺮﺅ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﻨﻘﺺ ﺃﺣﺪﺍً ﻣﻨﻬﻢ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ”. انتهى
فهذا الكتاب وقع الدس و التحريف فيه بدليل ما قاله الشيخ محمد عربي التبان في براءة الأشعريين 1/64: “ودس المبتدعة في كتب الأشعري وغيره من علماء الإسلام شيئاً كثيراً”. انتهى
وقال الكوثري أيضا في تعليقه على كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ما نصه: ” ومن غريب التحريف ما دُسَّ في بعض نسخ الإبانة للأشعري كما دُسَّ فيها أشياء أخر”. انتهى
و ليعلم أن الإمام ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﺍﻟﺒﺎﻗﻼﻧﻲ المتوفى سنة 403 ﻫـجري كان يقسم أيضا ما حصل بين الصحابة من تنازع و تقاتل إلى ثلاث أطوار: الطور الأول : هو طور الاجتهاد الغير مقترن بالخروج على الخليفة. فقد قال الامام ﺃﺑﻮ ﺍﻟﻤﻌﻴﻦ ميمون بن محمد ﺍﻟﻨﺴﻔﻲ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺗﺒﺼﺮﺓ ﺍﻷﺩﻟﺔ 2/888 حيث قال: ” وروى أبو بكر الباقلاني أحد متكلمي أهل الحديث عن بعض الأﺟﻠﺔ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻌﻠﻢ أﻥ ﺍﻟﻮاﻗﻌﺔ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮ ﻋﺰﻳﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﺮﺏ” انتهى
وهذا الاجتهاد في هذه الحالة يثاب عليه ولا يؤاخذ به. بمعنى أن اجتهاد معاوية للمطالبة بدم سيدنا عثمان قبل خروجه على الامام علي مأجور عليه. و عن هذا الطور يقول الباقلاني ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺍﻹﻧﺼﺎﻑ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺠﺐ ﺍﻋﺘﻘﺎﺩﻩ ﻭﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﺍﻟﺠﻬﻞ ﺑﻪ صحيفة 63: “ونعتقد أن عليا عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران، وأن الصحابة رضي الله عنهم إنما صدر منهم ما كان باجتهاد فلهم اﻷجر ولا يبدعون ولا يفسقون والدليل عليه قوله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه وقوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه” انتهى
– الطور الثاني: هو اقتران الاجتهاد بالعزم على الخروج على الخليفة, ولا نزاع في المؤاخذة به.
– الطور الثالث: اقتران الاجتهاد بالخروج على الخليفة ,و لا شك أن صاحبه آثم, تجب عليه التوبة فورا. لكن ذنبه لا يصل به إلى حد الفسق للتأويل الذي ظهر له . فقد قال ﺃﺑﻮ ﺍﻟﻤﻌﻴﻦ ميمون بن محمد ﺍﻟﻨﺴﻔﻲ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺗﺒﺼﺮﺓ ﺍﻷﺩﻟﺔ 2/888: “قال – أي الباقلاني – ﺣﻴﻦ ﺫﻛﺮ ﺃﻥ ﻋﻠﻴﺎ ﻫﻮ ﺍﻷﺣﻖ ﺑﺎﻟﺨﻼفة ﺑﻼ ﺗﺮﺩﺩ: “ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻥ ﺧﻄﺄ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﻇﺎﻫﺮﺍ، ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻓﻌﻞ ﺃﻳﻀﺎ ﻋﻦ ﺗﺄﻭﻳﻞ، ﻓﻠﻢ ﻳﺼﺮ ﺑﻪ ﻓﺎﺳﻘﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻗﺮﺭﻧﺎ ثم لا شك أن من حارب عليا رضي الله عنه من الصحابة ومن غيرهم على التأويل لم يصر به كافرا ولا فاسقا” انتهى
و قال الإمام أبو بكر الباقلاني في تمهيد الأوائل صحيفة 552: “و منهم من يقول إنهم تابوا من ذلك و يستدل برجوع الزبير و ندم عائشة إذ ذكروا لها يوم الجمل و بكائها حتى تبل خمارها ” انتهى
فندم بعض الصحابة على ما حصل منهم كان بسبب علمهم أن ذلك ذنبا يجب التوبة منه فورا
كتبه أبو عمر الأشعري نزيل قسنطينة
