بعض قواعد الجرح والتحديث

مطلب في بيان بعض قواعد الجرح والتحديث

مما اشتهر في كتب علم الحديث القاعدة المعروفة “الجرح مقدم على التعديل”. و قد نقل ابن عساكر الاجماع على ذلك بقوله:” أجمع اهل العلم على تقديم قول من جرح راويا على قول من عدله” انتهى نقله عنه الحافظ السخاوي في فتح المغيث شرح ألفية الحديث.

وهذه القاعدة ليست على إطلاقها بل هي مقيدة بأمور منها:

أ- إذا كان الجرح مفسرا فإنه يقدم على التعديل. قال الجلال السيوطي في تدريب الراوي ما نصه : “وإذا اجتمع فيه – أي الراوي- جرح مفسّر و تعديل، فالجرح مقدم و لو زاد عدد المعدل هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين”. انتهى

فإن قيل: “قال الحافظ السخاوي في فتح المغيث 1/307 ما نصه: “وهو المعروف عن القاضي – أي الباقلاني – كما رواه الخطيب عنه في الكفاية بإسناده الصحيح واختاره الخطيب أيضاً، وذلك أنّه بعد تقرير القول الأول الذي صوبه، قال: على إنّا نقول أيضاً: إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلاً مرضياً في اعتقاده وأفعاله، عارفاً بصفة العدالة والجرح وأسبابهما عالماً باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك قبل قوله، فيمن جرحه مجملاً ولا يسأل عن سببه”. انتهى

فجوابه أن الخطيب رجح الكشف عن سبب الجرح فقال في كفايته في الصحيفة 108 ما نصه: ” قلت: وهذا القول هو الصواب عندنا و إليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث و نقاده مثل محمد بن اسمعيل البخاري و مسلم بن الحجاج النيسابوري و غيرهما. فإن البخاري قد احتج بجماعة سبق من غيره الطعن فيهم و الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس في التابعين وكاسمعيل بن أبى أويس وعاصم بن على وعمرو بن مرزوق في المتأخرين وهكذا فعل مسلم بن الحجاج فإنه احتج بسويد بن سيد وجماعة غيره واشتهر عمن ينظر في حال الرواة الطعن عليهم وسلك وأبو داود السجستاني هذه الطريق وغير واحد ممن بعده فدل ذلك على انهم ذهبوا الى ان الجرح لا يثبت الا إذا فسر سببه”. انتهى

وكلام الخطيب دليل على أن هذه القاعدة اتفق عليها أهل الحديث, وعمل بها الأئمة النقاد كالبخاري ومسلم وغيرهما, ولم يذكر الخطيب من لم يقبل الجرح المفسر من أهل الحديث فدل على أنهم متفقون على ذلك

ب- إذا كان الجرح المفسر قد خفي على المزكي فيُقدم التجريح على التعديل. قال الخطيب في كفايته : ” الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه و يُصدِّق المعدِّلَ ويقول له: قد علمتُ من حاله الظاهرة ما علمتَها، و تفردتُ بعلم لم تعلمه من اختبار أمره، وإخبارُ المعدِّل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب لذلك أن يكون الجرح أولى من التعديل”. انتهى

وقال السخاوي 1/286 في فتح المغيث: “وغاية قول المعدل كما قال العضد : ” إنه لم يعلم فسقا ولم يظنه فظن عدالته ; إذ العلم بالعدم لا يتصور ، والجارح يقول : أنا علمت فسقه ، فلو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبا ، ولو حكمنا بفسقه كانا صادقين فيما أخبرا به ، والجمع أولى ما أمكن ; لأن تكذيب العدل خلاف الظاهر “. انتهى

ج- إذا علم المزكي سبب الجرح و بين ببطلانه فيقدم التعديل على التجريح. قال الحافظ بدر الدين الزركشي في نكته على مقدمة ابن الصلاح ما نصه قال:” الثالث أن تقديم الجارح عند الفقهاء بأن يطلق القول، فإن قال المعدل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح لكنه تاب و حسنت حاله فإنه يقدم المعدل، و كذلك لو عين الجارح سببا فنفاه المعدل بطريق معتبر كما اذا قال:قتل فلانا ظلما وقت كذا، فقال المعدل: رأيته حيا لعد ذلك، او كان القتيل في ذلك الوقت عندي، لكن هنا يتعارضان فيتساقطا، و يبقى اصل العدالة ثابتا، و يحتمل ان يقال بتقديم قول المعدل لان السبب الذي استند اليه الجارح قد تبين بطلانه فكأنه لم يكن، و يبقى التعديل مستقلا و الحكم واحدا غير ان هذا الاحتمال يكون ثبوت عدالته بالاصالة” انتهى.

و قال :” و لو ذهب العلماء الى ترك كل من تكلم فيه لم يبق بأيدي اهل هذا الشأن من الحديث الا اليسير، بل لم يبق شىء”. انتهى

د- إذا اجتمع الجرح و التعديل من قائل واحد فإنه ينبغي العمل بالقول الأخير الذي صدر منه أو التوقف في كلامه. قال السخاوي في فتح المغيث جزء 1 صحيفة 288 : ” أما إذا كانا ـ أي القولين المتعارضين ـ من قائل واحد ، كما يتفق لابن معين وغيره من أئمة النقد، فهذا قد لا يكون تناقضًا، بل نسبيًّا في أحدهما، أو ناشئًا عن تغير اجتهاد، وحينئذ فلا ينضبط بأمر كلي، وإن قال بعض المتأخرين إن الظاهر أن المعمول به المتأخر منهما إن علم وإلا وجب التوقف”. انتهى

وعليه فإن ما قاله الزركشي في نكته على ابن الصلاح: “والصحيح تقديم الجرح لما ذكرنا، يعني لأن تقديم الجرح إنما هو لتضمنه زيادة خَفِيَت على المعدِّل، وذلك موجود مع زيادة عدد المعدل ونقصه ومساواته،فلو جرحه واحد وعدّله مائة قُدِّم قول الواحد لذلك”. ففيه نظر إذ لا يطلق القول بتقديم قول الواحد المجرح على المعدلين و لا بد من التفصيل الذي بينه أهل هذا الشأن