كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة

ول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (37)

(‌بـ) مُناقشة ما نَسبَه ابنُ تَيميَّةَ للإمامِ ابنِ مُجاهد في مسألة الصِّفات الخَبَريَّة الذَّاتيَّة:

قال الإمامُ ابنُ مُجاهد في “الإجماع السَّابع”: ((وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَسْمَعُ وَيَرَى، وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى يَدَيْنِ مَبْسُوطَتَيْنِ، وَأَنَّ الْأَرْضَ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالسَّمَاوَاتِ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ‌جَوَارِحاً، وَأَنَّ يَدَيْهِ تَعَالَى غَيْرُ نِعْمَتِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَشْرِيفُهُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَتَقْرِيعُهُ لِإِبْلِيسَ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ عَنِ السُّجُودِ مَعَ مَا شَرَّفَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿‌مَا ‌مَنَعَكَ ‌أَن ‌تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75])) [رسالةٌ إلى أهلِ الثَّغر (ص: 225-226)، مكتبة العُلوم والحِكم: المدينة المنوَّرة].

يَتبيَّن من هذا النَّص أنَّ الإمامَ ابنَ مجاهد قد اختار مَسلك فريق من قُدماء الأشاعرة في إثبات مثل هذه الظَّواهر كصِفات مَعانٍ قائمة بذات الله تعالى، من غير تأويلٍ لها، مع تَفويض تَفاصيل معانيها، ولهذا لَم يُعيِّن لها معنًى مُحدَّدًا من جُملة المعاني المحتملة، بل اكتفى بنَفي المعنى الباطل في حقِّ الله تعالى، وهو: معنى الجَارحة.

والآن تأمَّل يا عبد الله كيف وَظَّف ابنُ تَيميَّة مثل هذا الإثبات مع التَّنزيه، ليُرَوِّج به لطريقته المعروفة في الإثبات مع التَّجسيم والتَّشبيه، وقد سبق شرح مذهبه في هذا بإسهاب:

قال ابنُ تَيميَّةَ: ((فَأَئِمَّةُ الصِّفَاتِيَّةِ المُتَقَدِّمُونَ؛ كَابْنِ كُلَّابٍ، وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ، وَالْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي العَبَّاسِ القَلَانِسِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي الْحَسَنِ الطَّبَرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ابْنِ البَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِنِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ فُورَكٍ، وَغَيْرِهِمْ: يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الخَبَرِيَّةَ الَّتِي ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ طَوَائِفِ الإِثْبَاتِ؛ كَالسَّالِمِيَّةِ، وَالكَرَّامِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالأَئِمَّةِ!!!)) [شَرحُ العقيدةِ الأَصفَهانيَّة (ص: 32-33)، مكتبةُ دار المنهاج: الرِّياض].

ومن يقرأ هذا النَّص؛ سيفهم منه بأنَّ طريقة قُدماء الأشاعرة في إثبات الصِّفات الخَبَريَّة كانت مُتَّحدةً مع الطَّريقة الَّتي يُنادي بها ابنُ تَيميَّةَ، وأنَّ تلامذة الإمام الأشعري كالإمامِ ابنِ مُجاهد وأبي الحسَن الطَّبري، وتلاميذ تلاميذه: كالقاضي أبي بكر ابنِ الباقلَّاني وأبي بَكر بنِ فُورَك وأبي إسحاق الإسفَرايِني، قد كانوا كلّهم على تلك الطَّريقة “التَّيميَّة” المُخترعة في إثبات الصِّفات الخَبريَّة – على غرار الوَجه واليَد والسَّاق -: كأعيان مُتَحيِّزة لا صفات مَعان، و”إذا لم تَستحي فاصنَع ما شئتَ” كما جاء في الحديث!.

وَقالَ ابنُ تَيميَّةَ أيضاً: ((وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ…وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ‌مُجَاهِدٍ…وَكَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ التَّأْلِيفِ فِي “تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ” وَنَحْوِهِمْ.
وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَخَذَتْ عَنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ [=البَاقِلَّانيِّ] إمَامِ الطَّائِفَةِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ…وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ:
إثْبَاتُ الصِّفَاتِ ‌الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ، كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ كَلَامَ كُلِّ مَنْ ذَكَرْتُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ!!!، وَمَنْ لَمْ أَذْكُرْهُ – أَيْضًا -، وَكُتُبُهُمْ وَكُتُبُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ مَمْلُوءَةٌ بِذَلِكَ وَبِالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ بِأَنَّ تَأْوِيلَهُمَا طَرِيقُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ!!!)) [التِّسْعِينِيَّةُ (3/1036-1037)، مَكتَبة المَعَارِف] وَ[الفَتاوى الكُبرى (6/664)، ط. دار الكتب العِلميَّة].

وابنُ تَيميَّة يَعلم جيِّدًا أنَّ إثباتَ الإمام ابن مُجاهد للمَجيء في حقِّ الله تعالى لا يقتضي حَركةً، ولا انتِقالًا، ولا تَحوُّلًا من مكان إلى آخر، كما سبق بيانه من كلام الإمام نفسه. ويعلمُ الحرَّاني كذلك – كما أثبتنا مِن كلامه – أنَّ ابنَ مُجاهد وقُدماء الأشاعرة إنَّما يُثبتون الصِّفات الخَبَريَّة على أنَّها مَعانٍ قائمة بالذَّات، لا أعيانٌ مُتَحَيِّزَة كما يَعتقِد هو.

فما معنى هذا الإيهام إذن؟!.

وهل يُفهَم منه إلَّا أنَّ الغرضَ هو الاستِكثار من أسماءِ الأئمَّة والعُلماء من أجل سَدِّ الفَراغ العَقدي، ودفع الشُّذوذ عن مذهبٍ شاذٍّ في أصله؟!.

وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضاً: ((الْمُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةَ بِالسَّمْعِ، كَمَا يُثْبِتُ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةَ بِالْعَقْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْخَاصَّةِ – أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ – وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَقَوْلُ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَقُدَمَاءِ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ.
لَكِنِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ لَا يُثْبِتُونَ إِلَّا الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ، وَأَمَّا الْخَبَرِيَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِيهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِيهَا كَالرَّازِيِّ وَالْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
وَنُفَاةُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ نُصُوصَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَوِّضُ مَعْنَاهَا إِلَى اللَّهِ)) [منهاجُ السُّنَّة (2/222-223)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة].

وتأمَّل كيف يُفرِّق الحرَّاني في هذا النَّص بين طريقة قُدماء الأشاعرة في إثبات الصِّفات الخَبَريَّة وبَين طريقتَي: التَّأويل وتَفويض المعنى، وهو يعدُّهما – التَّأويل والتَّفويض – من طرائق مَن يَصفهُم بـ: “النُّفاة”.

وهذا التَّمييز يُفهم منه أنَّ طريقة قُدماء الأشاعرة مُوافقة لطريقة مَن يُسمِّيهم هنا: “أهل السُّنَّةِ الخاصَّة”، ومُبايِنة لطريقتَي “النُّفاة” أي: التَّأويل والتَّفويض.

وهذا تَلبيس، إذ قَد تَبَيَّن بما لا يدع مجالًا للشَّك أنَّ طريقة قُدَماء الأشاعرة لا تمتُّ بصلة إلى طريقته وطريقة أسلافه الَّتي تَقوم على إثبات المعاني مع لوازم التَّجسيم.

وأمَّا زعمه بأنَّ طريقة التَّأويل إنَّما هي طريقة المتأخّرين كالإمام أبي المعالي الجُوَيني؛ فيردُّه ما ذكرناه قبل من تأويلات لأئمَّة الأشاعرة، ويردُّه هنا أيضاً قول الإمام ابن مُجاهد في “الإجماع التَّاسع”: ((وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَرْضَى عَنِ الطَّائِعِينَ لَهُ، وَأَنَّ رِضَاهُ عَنْهُمْ: إِرَادَتُهُ لِنَعِيمِهِمْ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيَسْخَطُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ غَضَبَهُ: إِرَادَتُهُ لِعَذَابِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ)) [رسالةٌ إلى أهلِ الثَّغر (ص: 231)، مكتبة العُلوم والحِكم: المدينة المنوَّرة] وهذا تأويل صريح للرِّضى والمحبَّة والسَّخط والغضب في حقِّه تعالى.

وهذا قد يبدو من أعجب ما يكون، ولكن إذا عُرف السَّبب بَطل العَجب.