يؤكِّد ابنُ تيميَّةَ باستِمرار وُجود قَدرٍ من مَعنى الجِسميَّة في إثبات اليَد لله و يُطلق عليها اسمَ الصِّفات الخَبَريَّة العَينيَّة

قَال ابنُ تيميَّةَ في إثبات “اليد” لربِّه: ((وَأَنَّهُ [=تَعَالَى] خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ اللَّتَيْنِ هُمَا الْيَدَانِ!!!)) [جوابُ الاعتراضاتِ المِصريَّة (ص: 151)، دار عالَم الفوائد] فالرَّجل يتكلَّم عن اليَد (المعروفة!) التي لها حجمٌ وكمٌّ ومساحة وامتداد في الأبعاد.

وقال ابنُ تيميَّةَ: ((وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: هِيَ أَعْضَاءُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَالْغَنِيُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ عَنْ آلَاتِ ذَلِكَ، ‌بِخِلَافِ ‌الْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْعَمَلِ وَالْفِعْلِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَمَلِ وَالْفِعْلِ!!!؛ إذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ)) [التَّدمُريَّة (ص: 143-144)، مكتبة العبيكان] و[مَجموع الفتاوى (3/53-54)، ط. دار الوَفاء].

وقال ابنُ تيميَّةَ: ((وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: هِيَ أَعْضَاءُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَالْغَنِيُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ عَنْ آلَاتِ ذَلِكَ، ‌بِخِلَافِ ‌الْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْعَمَلِ وَالْفِعْلِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَمَلِ وَالْفِعْلِ!!!؛ إذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ)) [التَّدمُريَّة (ص: 143-144)، مكتبة العبيكان] و[مَجموع الفتاوى (3/53-54)، ط. دار الوَفاء].

وتأمَّل هنا أنَّه يُفرِّق بينَ “الأعضاء” الَّتي يصحُّ نسبتها لربِّه كاليَد مثلا، وبين ما لا يصحُّ نِسبته منها إليه تعالى بوَجه، كالكَبد والطِّحال، وأنَّ “اليَد” إنَّما هي “الآلة” الَّتي يفعل بها الرَّب!.

أجل هذا؛ فقد شرح شيخُ الوَهَّابيَّة ابنُ العُثيمين قولَ شيخه الحرَّاني هذا؛ فقال: ((مَثَلًا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ نُثْبِتَ للهِ أَمْعَاءً وَكَبِداً وَمَعِدَةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؟. نَقُولُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، أَوْعِيَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى هَذَا لَا إِلَى الْأَكْلِ، وَلَا إِلَى الشُّرْبِ، وَلَا إِلَى آلَتِهِمَا بِخِلَافِ الْيَدِ، الْيَدُ يَجُوزُ أَنْ تُثْبَتَ للهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تُثْبَتَ للهِ؛ لِأَنَّهَا آلَةُ الْفِعْلِ!!! وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ وَيَعْمَلُ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ [يس: 71]، وَقَالَ: ﴿وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاء: 104])) [شرحُ العَقيدة التَّدمُرِيَّة (ص: 378)، مؤسَّسة ابن العُثيمين الخَيريَّة].

فالله عند هذا الوَهَّابي يفتقر إلى آلة “اليَد” حتَّى يفعل بها!، تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيراً.

ومن هذه النُّصوص ما ذكره هو نفسه في ثَنايا مُحاورة جرت بينه وبين أحد النَّاس – على حدِّ تعبيره -، حيث قال: ((قُلْتُ لَهُ: فَالْقَائِلُ؛ إنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ مِنْ جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ ‌جَارِحَةً: فَهَذَا حَقٌّ. وَإِنْ زَعَمَ أَنْ لَيْسَ لَهُ يَدٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصِّفَاتِ السَّبْعِ؛ فَهُوَ مُبْطِلٌ)) [الرِّسالة المَدنيَّة (ص: 46)، ط. الوليد بن عبد الرَّحمن الفريان] و[مَجموع الفتاوى (6/218)، ط. دار الوَفاء].

فابنُ تَيميَّة هنا لا يَنفي بِشكل مُطلق “الجارحة” عن الله كما قد يظنُّ مَن ليس على دِراية كافية بأسلوبه، وإلَّا فكيف يتَّفق هذا مع ما سبق وأوضحناه مِن قوله في مسألة التَّجسيم؟! بَل كيف يصحُّ ذلك وهو نفسه يؤكِّد باستِمرار وُجود قَدرٍ من مَعنى “الجِسميَّة” في إثبات “اليَد” لله؟!

إنّما ينفي ابنُ تَيميَّة هنا أن تكون “جارحة” الله كجارحة المخلوقين، أي: من دم ولَحم وعَصب، أو يجوز أن تَنفصل عن الذَّات، أو تكون “جارحة” بمعنى يجترح ويكتسب بها، وهذا ما يعكسه القَيد في قوله: ((مِنْ جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ)).
وكم له من مثل هذه الأساليب الملتويَّة.

وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضاً: ((إِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ:
1. أَحَدُهُمَا: يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِيَدَيْهِ، وَيُقْبِلَ بِوَجْهِهِ.
2. وَالْآخَرُ: لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ؛ إمَّا لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ وَيَدَانِ، وَإِمَّا لِامْتِنَاعِ الْفِعْلِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ.
كَانَ الْأَوَّلُ: أَكْمَلَ.
فَالْوَجْهُ وَالْيَدَانِ: لَا يُعَدَّانِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُوصَفُ بِذَلِكَ…فَإِنْ قِيلَ: مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِكَلَامِهِ أَوْ بِقُدْرَتِهِ بِدُونِ يَدَيْهِ، أَكْمَلُ مِمَّنْ يَفْعَلُ بِيَدَيْهِ؟ قِيلَ: مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ إذَا شَاءَ، وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ!!!، هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْيَدِ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَكْمَلَ مِنْ الْجَمَادَاتِ الَّتِي تَفْعَلُ بِقُوَى فِيهَا، كَالنَّارِ وَالْمَاءِ، فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ:
1. أَحَدُهُمَا: لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُوَّةٍ فِيهِ،
2. وَالْآخَرُ: يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ، فَهَذَا: أَكْمَلُ.
3. فَإِذَا قُدِّرَ آخَرُ: يَفْعَلُ بِقُوَّةِ فِيهِ، وَبِكَلَامِهِ، وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ!!!: فَهُوَ أَكْمَلُ وَأَكْمَلُ!!!)) [الرِّسالة الأَكمَليَّة (ص: 38)، مطبعة المدني] و[مجموع الفتاوى (6/56-57)، ط. دار الوَفاء].

فأنتَ ترى كيف قاس الرَّجل الخالق بمقاييس المخلوق، وجعل الخالق كالمخلوق من حيثُ الحاجة إلى يد “أداة” يفعل بها، وأنَّ مَن يفعل بيديه هو أكمل ممَّن لا يفعل بهما، وهذا مُناقض لعقيدة أهل السُّنَّة كما نصَّ الإمامُ الطَّحاويُّ في عقيدته الشَّهيرة فقال: ((وَتَعَالَى [=اللهُ] عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ)) [الطَّحاويَّة (ص: 7)، ط. دار ابن حزم].

ثم إنَّ ابنَ تيمية قد نصَّ صراحةً على أن “اليَد” من الصِّفات الذَّاتيَّة لله تعالى، أي: من الصِّفات الَّتي لَم يزَل الله – عزَّ وجل – ولا يَزال مُتَّصفًا بها أزَلًا وأَبدًا، فهو القائل: ((وَقَدْ تَوَاتَرَ فِي السُّنَّةِ مَجِيءُ “الْيَدِ” فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ. فَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ لِلَّهِ – تَعَالَى – يَدَيْنِ مُخْتَصَّتَيْنِ بِهِ، ذَاتِيَّتَيْنِ لَهُ، كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ)) [الرِّسالةُ المَدَنِيَّة (ص:45)، ط. الوليد بن عبد الرَّحمن الفريان] و[مجموع الفتاوى (6/218)، ط. دار الوَفاء].

وبذلك يُثبت ابنُ تَيميَّة أنَّ “اليَد” صفة ذاتِيَّة أَزَليَّة، لا تتعلَّق بِالمشيئة، على خلاف الصِّفات الَّتي يُسمِّيها بـ: ((“الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ”: وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الرَّبُّ – عَزَّ وَجَلَّ – فَتَقُومُ بِذَاتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ مِثْلُ: كَلَامِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَرِضَاهُ، وَرَحْمَتِهِ، وَغَضَبِهِ، وَسَخَطِهِ، وَمِثْلُ: خَلْقِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَعَدْلِهِ، وَمِثْلُ: اسْتِوَائِهِ، وَمَجِيئِهِ، وَإِتْيَانِهِ، وَنُزُولِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ)) [“رسالةٌ فِي الصِّفات الاختِيارِيَّة” ضمن مجموع الفتاوى (6/131)، ط. دار الوَفاء] و[درءُ تعارض العقل والنَّقل (2/3)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة].

وهنا يبرُز الإشكال: كيف يُصرِّح ابنُ تَيميَّة بأنَّ “اليَد” صفة ذاتِيَّة قَديمة ولا تنفصل عن الذَّات، ثُم يَستدلُّ في مواضع أخرى على كونها تتعلَّق بالمشيئَة كما تجده في قوله السَّابق: ((فَإِذَا قُدِّرَ آخَرُ: يَفْعَلُ بِقُوَّةِ فِيهِ، وَبِكَلَامِهِ، وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ: فَهُوَ أَكْمَلُ وَأَكْمَلُ!!!)).

فهذا الكلام يعني بأن “اليَد” تتعلَّق بالمشيئة، ولا يختلف اثنان في أنَّ ما تعلَّقَت به المشيئة فهو حادثٌ لا محالة، فهل سيزعم ابنُ تَيميَّة هنا، كما زعم في صفة “الكلام”، أَنَّ “اليَد”: صفةٌ قَديمة بالنَّوع، حادثة بالأفراد؟! خاصَّة وهو نفسه قد قرَّر بأَنَّ القول في الصِّفات واحد، وأنَّ القول في بعضها هو القول في البعض الآخر.

وفي الحقيقة: إنَّ هذا التَّخبُّط في تقرير هذه الصِّفة يرجع في حقيقته إلى اعتِماد ابنِ تَيميَّة قِياسَ الخالق على المخلوق، وإثباته صفة “اليَد” في حقِّ الله بمعناها الحسِّي المعروف في صفات المخلوقين.