نَقْضُ دَعْوَى وَلِيدِ سَعِيدانَ فِي إِنْكَارِ التَّأْوِيلِ وَإِثْبَاتُ مَنْهَجِ السَّلَفِ فِي التَّنْزِيهِ

*نَقْضُ دَعْوَى وَلِيدِ سَعِيدانَ فِي إِنْكَارِ التَّأْوِيلِ وَإِثْبَاتُ مَنْهَجِ السَّلَفِ فِي التَّنْزِيهِ [1]*

الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ، والصلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين. أمَّا بعدُ:

فقد دَأَبَ المُشَبِّهَةُ على الخَوْضِ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، يَسْعَوْنَ فِي ذٰلِكَ سَعْيًا حَثِيثًا أَيْنَمَا سَارُوا وَحَيْثُمَا اتَّجَهُوا. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَتِهِمْ.

فَإِلَى مَتَى ـ يا وَلِيدُ سَعِيدانَ ـ تَعْمَلُ بِالشُّبُهَاتِ وَتَأْخُذُ بِهَا؟! وَحَتَّى مَتَى لَا تَرْعَوِي عَنِ الخَوْضِ فِيمَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ فِيهِ عِلْمًا؟!

إنَّ دعواكُم أنَّ السَّلَفَ لم يعرفوا التَّأويلَ أصلًا، وأنَّ حملَ آياتِ الصِّفاتِ على ظواهرها الَّتي تُوهِمُ التَّجسيمَ مذهبٌ لهم، دعوى باطلةٌ تُخالف النُّصوصَ، وتنقُضُ منهجَ السَّلفِ والخلفِ جميعًا.

*أولا: كِتَابُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ، وَفِيهِ ءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ:*

فَأَمَّا الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ فَهِيَ الَّتِي دَلَالَتُهَا عَلَى الْمُرَادِ جَلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَغْلَبُهَا مِنْ هٰذَا الْبَابِ؛ وَهُنَّ «أُمُّ الْكِتَابِ»، كَمَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: ءَامَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آلُ عِمْرَان/7].

وَأَمَّا الآيَاتُ الْمُتَشَابِهَاتُ فَهِيَ الَّتِي يَحْتَاجُ فَهْمُ مَعْنَاهَا إِلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ، لِأَنَّ دَلَالَتَهَا لَا تَبِينُ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ. وَلِهٰذَا ذَمَّ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّبِعُهَا ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ؛ أَيْ طَلَبًا لِلزَّيْغِ وَتَصْيِيرًا لِلنُّصُوصِ ذَرِيعَةً لِلتَّشْبِيهِ وَالْبَاطِلِ ـ نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالزَّيْغِ.

وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ الكَبِيرُ، العَارِفُ بِاللهِ، سَيِّدُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، أَحْمَدُ الرِّفَاعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

«صُونُوا عَقَائِدَكُمْ مِنَ التَّمَسُّكِ بِظَاهِرِ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ».

وَهٰذَا مِنْ أَبْلَغِ الْكَلَامِ فِي بَابِ التَّنْزِيهِ، فَإِنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِظَاهِرِ الْمُتَشَابِهِ إِنَّمَا يَقَعُ فِي التَّجْسِيمِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ.

وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَسِّرَهُ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الأَهْلِيَّةِ أَنْ يَخُوضَ فِي مَعَانِيهِ؛ فَهٰذَا مِنْ أَخَطَرِ أَبْوَابِ الدِّينِ.

فَإِذَا سَمِعْتَ ـ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ ـ آيَةً لَمْ يَثْبُتْ لَكَ فِيهَا عِلْمٌ، فَاتَّبِعْ هَدْيَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذْ قَالَ: «ءَامَنْتُ بِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ عَلَى مُرَادِ اللهِ».

وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ الْوَاجِبَ الإِيمَانُ بِاللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ تَعَالَى، مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ.

وَقَدْ قَرَّرَ الحَافِظُ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللهُ ـ شَارِحُ «الصَّحِيحِ» ـ هٰذَا الأَصْلَ فَقَالَ: «يَجِبُ صَرْفُ الأَخْبَارِ الْمُتَشَابِهَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا».

وَهٰذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ إِمَامٍ مُحَقِّقٍ فِي نَقْضِ دَعْوَى الْمُجَسِّمَةِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّ مَنْهَجَ السَّلَفِ هُوَ التَّنْزِيهُ، لَا الإِثْبَاتُ عَلَى ظَاهِرٍ يُوهِمُ التَّشْبِيهَ.

*ثانيا: التأويلُ ثابتٌ عن السَّلَف، لا يُنكِرُهُ إلَّا جاهل:*

١- تأويلُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما

• أوَّلَ قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ بأنَّه الشِّدَّةُ والكَرْبُ.

• وأوَّلَ الكُرْسِيَّ بأنَّه العِلْمُ.

٢- تأويلُ الإمامِ أحمدَ

ثَبَتَ عنه التأويلُ في غير موضع، مثل تأويله: «وجاءَ ربُّكَ» أي جاءَ أَمْرُهُ.

٣- أقوالُ أئمَّةِ السَّلَف

• مالك: الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ غير معقول.

• الثوري والأوزاعي: حملا النُّزولَ على نُزولِ أمرِ الله.

وجميعُهم مُجمعون على نفيِ الجارحة والحدِّ والانتقال.

*ثانيًا: العلماء يَنْفُونَ الجارحة، ويُثبِتون الصِّفة:*

قال العلماء: «إِنَّ كُلًّا مِنَ الْيَدِ وَالْعَيْنِ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِلَا كَيْفٍ، لَا بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ؛ فَالْعَيْنُ صِفَةٌ لَا حَدَقَةَ، وَالْيَدُ صِفَةٌ لَا جَارِحَةَ».وقالوا: «وَمُحْكَمُ الْقُرْآنِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ الْمُتَشَابِهُ».

ثُمَّ قالوا: «وَبَعْدَ صَرْفِ الْمُتَشَابِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، فِيهِ مَذْهَبَانِ: مَذْهَبُ السَّلَفِ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ»

.

*ثالثًا: مَذْهَبُ السَّلَفِ — التَّفْوِيضُ مَعَ التَّنْزِيهِ:*

السَّلَفُ هُم أهلُ القُرُونِ الثَّلاثةِ الأُولَى، ومذهبُهم هو تنزيهُ اللهِ عن الجارحة والحدِّ والمكان. وتأويلٌ إجماليٌّ: وهو اعتقادُ أنَّ للَّفظِ معنًى يليقُ بالله تعالى، مع نفيِ الكيفيَّةِ مطلقًا.

فَيُثْبِتونَ اليَدَ والعَيْنَ والوَجْهَ على أنَّها صِفَاتٌ لا تُشبِهُ صفاتِ المخلوقين، لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. وقال الإمامُ أبو حنيفةَ: «يَدُهُ صِفَتُهُ بِلَا كَيْفٍ». وقال البيهقي: «أَمَّا الْعَيْنُ وَالْيَدُ فَإِنَّهُمَا صِفَتَانِ لَيْسَتَا جَارِحَتَيْنِ».

*رابعًا: مَذْهَبُ الخَلَفِ — التَّنْزِيهُ مَعَ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ:*

الخلفُ ـ وهم المتأخِّرون ـ حمَلوا اللَّفظَ على معنًى صحيحٍ سائغٍ في اللُّغة، مثل:

• «اليَدُ» = القُدْرَةُ

• «العَيْنُ» = الحِفْظُ والرِّعَاية

• «الوَجْهُ» = الذَّاتُ

على شرطِ: أن يكون المعنى جائزًا لغةً، ومنزَّهًا عن صفاتِ المخلوقين.

لكنَّ وليدًا سعيدان يُصِرُّ على الخوضِ في المتشابه إنك تقول «الحقيقةُ» وتُريدُ بها «الجارحةَ»، وهذا ليس مذهبَ السَّلَفِ ولا مذهبَ الخَلَفِ بل هو قولُ المُجَسِّمةِ والوَهَّابيَّةِ إذ يزعُمون أنَّ لله: يَدَيْنِ حَقِيقِيَّتَيْنِ (أي جَارِحَتَيْنِ)، وعَيْنَيْنِ حَقِيقِيَّتَيْنِ، ووَجْهًا حَقِيقِيًّا، ونُزُولًا بالانتقال، واسْتِواءً بمعنى الجُلوسِ والقُعود وهذا القولُ كُفْرِيٌّ، لمُخالفتِهِ نصوصَ التَّنْزِيهِ وإجماعَ أهلِ السُّنَّة.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَدَ مثلًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَهَا مَعَانٍ كَثِيرَةٌ، بَلَغَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مَعْنًى، كَمَا جَمَعَهَا الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ البَارِي»؛ مِنْهَا:

الْجَارِحَةُ، وَالقُوَّةُ، وَالمُلْكُ، وَالعَهْدُ، وَالاِسْتِسْلَامُ، وَالنِّعْمَةُ، وَالذُّلُّ، وَالسُّلْطَانُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْجَمَاعَةُ، وَالطَّرِيقُ، وَالتَّفَرُّقُ، وَالْحِفْظُ، وَ«يَدُ السَّيْفِ»، وَ«يَدُ القَوْسِ»، وَ«يَدُ الرَّحَى»، وَجَنَاحُ الطَّائِرِ، وَالمُدَّةُ، وَالابْتِدَاءُ، وَمَا فَضَلَ مِنَ الثَّوْبِ، وَأَمَامُ الشَّيْءِ، وَالطَّاقَةُ، وَالنَّقْدُ… إِلَى غَيْرِ ذٰلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ.

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلَّفْظِ هٰذِهِ الدَّلَالَاتِ الْمُتَعَدِّدَةَ، بَطَلَ زَعْمُ مَنْ يَحْصُرُهَا فِي الْجَارِحَةِ وَحْدَهَا؛ فَإِنَّ ذٰلِكَ خُرُوجٌ عَنِ الاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَتَجَرُّؤٌ عَلَى الْوَحْيِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكَ بِالتَّثْنِيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْجَارِحَتَيْنِ، فَهُوَ دَلِيلٌ وَاهٍ؛ لِأَنَّ المَجَازَ يَرِدُ فِي المُفْرَدِ كَمَا يَرِدُ فِي التَّثْنِيَةِ وَالجَمْعِ كما قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾. فَهَلْ لِلْقُرْآنِ ـ عَلَى مَذْهَبِكَ ـ «يَدَانِ» حَقِيقِيَّتَانِ جَارِحَتَانِ؟! هٰذَا إِلْزَامٌ لَا مَفَرَّ مِنْهُ، وَيُبْطِلُ اسْتِدْلَالَكَ مِنْ أَصْلِهِ، أَفَلَا تَرَى كَيْفَ سَقَطَ الدَّلِيلُ الَّذِي تَتَشَبَّثُ بِهِ؟!

فَدَعْكَ مِنِ الِانْخِرَاطِ فِي آيَاتِ المـُتَشَابِهَاتِ، فَإِنَّهَا مَزَلَّةُ أَقْدَامٍ، وَامْضِ عَلَى طَرِيقِ السَّلَفِ فِي تَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى؛ فَصِفَاتُهُ لَا تَقْبَلُ تَحْدِيدًا وَلَا تَكْيِيفًا.

*الْخُلَاصَةُ*:

إِنَّ مُحْكَمَ الْقُرْآنِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ الْمُتَشَابِهُ، وَإِنَّ حَمْلَ المـُتَشَابِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مَذْهَبٌ فَاسِدٌ يُؤَدِّي إِلَى التَّشْبِيهِ؛ بَلْ يَجِبُ صَرْفُهُ عَنْ الظَّاهِرِ تَنْزِيهًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وإنكارُ التأويلِ مطلقًا، وحملُ النُّصوصِ على ظواهرِها الحِسِّيَّة، هو مَنزَلَقٌ خطير يُفضي إلى التشبيهِ والتجسيم. والحقُّ أنَّ التفويضَ مذهبٌ للسَّلَف، والتأويلَ مذهبٌ للخلف، والتَّنْزِيهَ مذهبٌ للجميع وأمَّا إثباتُ الجوارحِ والحدودِ والحركةِ في حقِّ الله تعالى فليس مذهبًا لأحدٍ من السَّلَفِ، بل هو بدعةٌ مُنْكَرَةٌ مُخالِفَةٌ للإجماع.

*يتبع المقال القادم في إثبات التأويل التفصيلي عن السلف*

وكتب د. محمد عبد الجواد الصباغ