بيان أن الجنَّةُ التي أهبط منها آدم عليه السلام هي جنَّة الخُلد والرد على الشعراوي و زغلول النجار

بيان أن الجنَّةُ التي أهبط منها آدم عليه السلام هي جنَّة الخُلد.

زعم بعضهم أن القول بأنّ الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلامُ هي جنة الخُلْد، من الإسرائيليات، وأن القرآن يكذّب ذلك، وأن العلماء قبلوا هذه الإسرائيليات وبكثرة تكرارها انتشرت بينهم.

والجواب على ذلك أن يقال أن العلماء اختلفوا في الجنة التي اهبط منها ٱدم عليه السلام، هل هي جنة أرضية أو هي جنة الخلد.

والصحيح الذي مال إليه المحققون من أهل السنة والجماعة أنها جنة الخلد، وأما دعوى أنها جنة أرضية فقد ذكره بعض علماء أهل السنة، وهو قول مرجوح، بل هو قول بعض الفرق المبتدعة، وهو مشهور النسبة للمعتزلة والقدرية.

قال الثعلبي في تفسيره الكشف والبيان : “قالت القدرية: إنَّ الجنَّة التي أسكنها الله عز وجل آدم وحوّاء لم تكن جنة الخُلد، وإنما كان بُستانًا من بساتين الدنيا. انتهى

ثم ردَّ الثعلبي على شُبَه القدرية التي أوردوها. فالصحيح هو قول أهل السُّنة من أن الجنَّة التي أُهْبِطَ منها آدمُ عليه السلامُ هي جنَّدُ الخُلْد التي محلُّها في العلوِّ وسقفها العرش، ولا علاقة لقول أهل السنة بالإسرائيليات، بل دليلهم القرآن العظيم والسُّنة النبوية الصحيحة، منها:

ـ قوله تعالى في وصف الجنَّة التي أسكن فيها آدم عليه السلام: “إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى -118- وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى -119-طه-، وهذا وصفُ جنَّة الخُلْدِ.

ـ قوله تعالى: “وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين” -البقرة:36- والهبوط يكون من علو إلى سفل، ولا يستقيم ذلك في بستان مخلوق على الأرض، أو بستان في أرض عالية.

-قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين وغيره عند ذكره لمحاجة موسى وآدم عليهما السلام، وقول موسى عليه السلام له: “وأخرجتهم من الجنَّة”، واللام للجنة المعهودة، ولا معهودَ غير جنَّة الخُلْدِ، ولو كانت غيرها لاعترض آدمُ عليه السلامُ.

-روى مسلم بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وعَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” يَجْمَعُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ ، فَيَأْتُونَ آدَمَ ، فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا ، اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ … “. انتهى

وهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها ، هي بعينها التي يُطلب منه أن يستفتحها، وخطيئته لم تخرجهم من جنات الدنيا .

وقد نقل الإمام ابن بطال الإجماعَ على أن الجنة التي اهبط منها ٱدم عليه السلام هي جنة الخلد، ونَفَى القرطبيُّ في تفسيره أن يكون لأهل السنة قولٌ غيره فقال:

“وَلَا الْتِفَاتَ لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي جَنَّةٍ بِأَرْضِ عَدْنٍ”. انتهى

وذكرَ الإمام ابن ابي زيد القيرواني المتوفى سنة 386 هـجري في رسالته: “وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ الجَنَّةَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِأَوْلِيَائِهِ… وَهِيَ الَّتِي أَهْبَطَ مِنْهَا آدَمَ نَبِيَّهُ وَخَلِيفَتَهُ إِلَى أَرْضِهِ”.انتهى.

قال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي في شرح عقيدة الامام مالك الصغير : “قوله : إن الله خلق الجنة والنار. هذا قول سلف الأمة، وأئمة الحديث والسنة، وأنها الجنة التي كان بها آدم، وأهبط منها، وهي جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة. وقد دل” عليه الكتاب والسنة”. انتهى

وجاء في كتاب شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة: وما ذكر الشيخ من أنها الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام فهو مذهب أهل السنة خلافا لمن زعم أن التي أهبط منها آدم جنة في الأرض بأرض عدن وليست بالجنة التي أعدها الله عز وجل لأوليائه وأنبيائه في الآخرة …

وقال الإمام أحمد زروق الفاسي المتوفى سنة 899هـجري في شرحه على الرسالة: “وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الجَنَّةَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا هِيَ المُعَدَّةُ لِلمُؤْمِنِينَ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الحَقِّ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: “إِنَّهَا مِنْ جَنَّاتِ الدُّنْيَا”؛ إِذْ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ تَمْنَعُ مَا يَقُولُونَ”. انتهى

و قد نقل ابن عرفة المالكي في المختصر الكلامي، كلام إمام الحرمين في الإرشاد، وهو قوله : “و حملهم جنة آدم على بستان من بساتين الدنيا تلاعب بالدين”. انتهى

وقَالَ الإِمَامُ الفَخْرُ الرازي: “وَقَوْلُهُمْ تَلَاعُبٌ بِالدِّينِ، وَخُرُوجٌ عَنْ إِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ، وَمَا هَذَوْا بِهِ لَا مَحْصُولَ لَهُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَكَوْنُ مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إِنَّمَا ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الجَزَاءِ. وَمِمَّا عُورِضُوا بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: “إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى” -طه: 118-، إِلَى قَوْلِهِ: “وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى” -طه: 120-“. انتهى

وقال النسفي في تفسيره مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

“”الجنة}” هي جنة الخلد التي وعدت للمتقين للنقل المشهور واللام للتعريف وقالت المعتزلة كانت بستاناً باليمن لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها، قلنا إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء”. انتهى

و قال إمامُ المفسرين ابن جرير الطبري في جامع البيان

عند قوله تعالى لإبليس: “قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ” -الأعراف: 13- ما نصه: يَعْنِي: مِنَ الْجَنَّةِ فَمَا يَكُونُ لَكَ، يَقُولُ: فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَسْتَكْبِرَ فِي الْجَنَّةِ عَنْ طَاعَتِي وَأَمْرِي. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِي الْجَنَّةِ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَاهْبِطْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْكُنُ الْجَنَّةَ مُتَكَبِّرٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَّا غَيْرُهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْكُنُهَا الْمُسْتَكْبِرُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَالْمُسْتَكِينُ لِطَاعَتِهِ”. انتهى

وفي هذا النص فوائد:

ـ منها أن الإمام الطبري جرى على قول أهل السنة من أن الضمير في “منها” عائدٌ على جنةِ الخُلْد، لا على بستان أرضي.

ـ ومنها أن وقوع التكبر في الجنان والبساتين الدنيوية يؤكّد أن الجنَّة التي أطرد منها إبليس غير الجنان والبساتين الأرضية وإلا لبطل مدلول قوله تعالى: “فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا” -الأعراف: 13- لأن التكبر فيها حاصلٌ ومستمر إلى الآن، بخلاف الجنة التي أطرد منها فقد حرَّمَ الله تعالى دخولها على المتكبرين على أمْرِه الجاحدين له، فدلت الآية على المباينة بين جنة الخلد التي أهبط منها وجنان الأرض دلالة بينة.

وقد خالف بعض العلماء في هذه المسألة منهم الماوردي وابن عقيل وأبو القاسم البلخي، وأبو مسلم الاصبهاني

و الشعراوي المصري و زغلول النجار وكلامهم مناقض لكبار الأئمة والمجتهدين والمحققين. فليس كل خلاف معتبر في مسائل الشرع.