البوطي يؤيد المعتزلة في مسئلة القدر

البوطي يؤيد المعتزلة في مسئلة القدر

يقول في كتابه المسمى “الإنسان مسير أم مخير” [ص/42]: إن كل ما تراه عيناك من الشرور المتنوعة التي تبعث الكدر في صفاء الحياة الإنسانية إنما هو من صنع الإنسان وسوء استعماله لتلك المواد الأولية وليس من فعل الله تعالى”.

الرد: في قوله هذا رد لقول الله تعالى: {إنَّا كلَّ شيءٍ خلقناهُ بقدرٍ} [سورة القمر/49] والشيء يشمل كل ما دخل في الوجود من إرادات الناس وحركاتهم وسكناتهم وتقلّب القلب قال تعالى: {ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُم وأبصارَهًم} [سورة الأنعام/110] أخبرنا الله تعالى بأن ما يجري في قلب بني ءادم من التفكيرات والإرادات كل ذلك هو خالقه قال تعالى: {أنَّ اللهَ يحولُ بينَ المرءِ وقلبِهِ} [سورة الأنفال/24] وثبت أن الرسول عليه السلام قال: “اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك” وفيه أن الله هو الذي يوجّه القلوب إلى الخير وإلى الشر، فلو كان للإنسان تصرف مطلق لم يدع رسول الله هذا الدعاء، والحديث رواه مسلم [1]. وفي قول الله تبارك وتعالى: {فلمْ تقتُلوهم ولكنَّ اللهَ قتلهم وما رميتَ إذْ رميتَ ولكنَّ اللهَ رمى} [سورة الأنفال/17] أبين اليان أن أفعال العباد الاختيارية بخلق الله تعالى ليس بخلقهم لأن القتل المذكور المسند للعباد هو من أفعالهم الاختيارية ومع ذلك الله تعالى قال: {فلمْ تقتُلوهم ولكنَّ الله قتلهم} أي لم تخلقوا ذلك القتل بل الله خالقه وليس لكم إلا الكسب. وكذلك الله تعالى نفى الرمي الذي حصل من الرسول لم يخلق ذلك الرمي الذي رماه الرسول إنما الله الذي خلقه فنفى الله عنه الرميَ من وجه وأثبته من وجه، أثبته للرسول من وجه الكسب ونفاه عنه من وجه الخلق، وهكذا سائر الأفعال الاختيارية هي تنسب للعباد من حيث الكسب، ومن حيث الخلق أي الإبراز من العدم إلى الوجود تنسب إلى الله لا تنسب إلى العبد، فمن قال خلاف هذا فهو معتزلي في هذه المسئلة وإن لم يكن معهم في سائر مسائلهم.

وقال البوطي في [ص/24]: “ولسوف تنفتح أمامنا عندئذ مشكلات أخرى أولها وأهمها مشكلة خلق الله لأفعال الإنسان”، ثم قال: “تليها مشكلة أن الله يعدي من يشاء ويضل من يشاء كما يؤكد القرءان بصريح العبارة”.

وقال في [ص/54] من المصدر نفسه: “إن الإرادة الجزئية التي هي عبارة عن تعلق الإرادة الكلية بجانب معيّن من الفعل والترك صادرة من العبد اختيارًا وليست مخلوقة لله تعالى لأنها ليست من الموجودات الخارجية”.

ويقول البوطي في المصدر نقسه [ص/102]: “ولكنه جلت حكمته شاء أن يفسح أمامهم ساحة المشيئة والاختيار وأن يضعهم بين نوازع الشر وحوافز الخير ويترك القرار لما يرغبون ويفضلون” اهـ.

وقال البوطي في [ص/81] من المصدر نفسه: “إن إرادة الله التي اقتضت أن تكون مختارًا في أن تطيعه أو تعصيه هي بمثابة إرادة الأستاذ امتحان تلميذه”، ويقول في المصدر نفسه [ص/222]: “إرادة الله المتعلقة بالأفعال الاختيارية للإنسان لا تتجه إلى الحكم عليه بأن يكفر أو يؤمن إذ أن هذه الحكم ليس في الحقيقة إلا سلبًا لإرادته”.

ويقول في مجلة طبيبك عدد تشرين 1993 [ص/110]: فإن كلمة الحذر ينجي من القدر أو لا ينجي من القدر باطلة”، ويقول في عدد أيار 1995 [ص/109]: “ومن هنا تعلم أن القضاء والقدر لا يضيّق من إرادة الإنسان بل لا علاقة لهما بها” اهـ.

الرد: أقول بعدما سردت بعضًا من أقواله: يتبين لك أن البوطي زاد على المعتزلة كثيرًا لأن المعتزلة يعتقدون أن الله خلق الخير ولم يخلق الشر وهذا ضلالٌ شنيع، وبعضهم قالوا: إن الله خلق أفعال العباد بما فيها الشرور لكن الإنسان يخلق الهم بالمعصية، وهذا كفر كما قرر أهل السنة.

ويزعم البوطي أن العبد يخلق النية والعزم على العمل فيقول في كتابه المسمى “الإنسان مسير أم مخير” [ص/97]: “إن هذا القرار الذي أبرمه البيان الإلهي وأكده يوضح أن الإنسان عندما يوجه مشيئته وعزمه إلى شيء فلا بد أن يشاء الله له الفعل المتفق مع مشيئته وعزمه، ومن ثم فلا بد أن يخلق في كيانه الفعل الذي اتجه إليه عزمه وقصده”.

نقول: هنا خالف البوطي القرءان حيث جعل البوطي مشيئة الله واردة على مشيئة الإنسان، والقرءان يخبرنا بأن العباد لا يشاءون شيئًا إلا أن بشاء الله مشيئتهم، أي أن العباد لا تحصل لهم مشيئة إلا أن يشاء الله أن يشاءوا ومعنى ذلك أن مشيئة الله أزلية أبدية ومشيئة العباد حادثة والبوطي عكس ذلك جعل مشيئة الله حادثة عقب مشيئة العبد.

وبهذا يتوافق البوطي مع ذلك الشاعر الذي قال:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر

وعقيدة البوطي وأبي القاسم الشابي أن مشيئة الله مسخرة للإنسان وكأنهما لم يقرءا قوله تعالى: {وما تشاءونَ إلا أن يشاءَ اللهُ}.

ثم إن هذا الاصطلاح الذي استعمله البوطي “مسير ومخير” ليس من كلام السلف والخلف من أهل السنة، ولا ورد في كتب الأشاعرة ولا الماتريدية.

وأما قول البوطي في كتابه المسمى “الإنسان مسير أم مخير” [ص/24]: “ولسوف تتفتح أمامنا عندئذٍ مشكلات أخرى أولها وأهمها مشكلة خلق الله لأفعال الإنسان، ثم قال: “تليها مشكلة أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء كما يؤكد القرءان صريح العبارة”.

الرد: كيف ساغ لهذا الرجل أن يسمي خلق الله لأفعال الإنسان مشكلة؟ والجواب: أن هذا يظهر أن البوطي يوافق المعتزلة في قولهم “إن الله لا يخلق أفعال العباد الاختيارية بل هم يخلقونها” كما بينَّا من صريح عباراته. ثم لا يكتفي البوطي بذلك بل يسمي الآية مشكلة وهذا طعن في أظهر المبادئ الإيمانية وهو أن الله خالق كل شيء كما جاء صريحًا ذلك في قول الله تعالى: {اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ} [سورة الرعد/16]، وهذا مما يقوله العالم والجاهل من المسلمين على اختلاف طبقاتهم.

قال الشيخ الفقيه المحدث عبد الله الهرري حفظه الله في كتابه “الصراط المستقيم” ما نصه [2]: “قال بعضُ العلماءِ: القَدَرُ هو تدبيرُ الأشياءِ على وجهٍ مُطابقٍ لعلمِ الله الأزليِّ ومشيئته الأزليةِ فيُوجدُها في الوقتِ الذي عَلِمَ أنها تكونُ فيهِ، فيدخلُ في ذلك عملُ العبدِ الخيرُ والشر باختياره. ويدلُّ عليه ما جاء في حديث رسول الله إلى جبريل حينَ سأله عن الإيمان: “الإيمان أن تُؤمن بالله وملائكتهِ وكتبِهِ ورسله واليومِ الآخر وتؤمِنَ بالقدرِ خيرهِ وشره” رواه مسلم.

ومعناه: أنَّ المخلوقات التي قدَّرها الله تعالى وفيها الخيرُ والشر وُجِدَت بتقدير الله الأزلي، وأما تقدير الله الذي هو صفةُ ذاتِهِ فهوَ لا يُوصَفُ بالشر، فإرادةُ الله تعالى نافذةٌ في جميع مُراداتِهِ على حسب علمِهِ بها، فما علِمَ كونَهُ أرادَ كونَهُ في الوقتِ الذي يكونُ فيه، وما عَلِمَ أنهُ لا يكونُ لم يُرِدْ أن يكون.

فلا يحدُثُ في العالم شيءٌ إلا بمشيئته، ولا يُصيبُ العبدَ شيءٌ من الخير أو الشر أو الصحةِ أو المرض أو الفقر أو الغِنى أو غير ذلك إلا بمشيئة الله تعالى، ولا يُخطئ العبدَ شيءٌ قدَّرَ الله وشاءَ أن يُصيبه، فقد وردَ أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم بعض بناته: “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن” رواه أبو داود، ثم تواتر واستفاض بين أفراد الامة.

وروى البيهقي رحمه الله تعالى عن علي رضي الله عنه أنه قال: “إنَّ أحدكم لن يَخلُصَ الإيمانُ إلى قلبهِ حتى يستيقنَ يقينًا غيرَ شكّ أنَّ ما أصابهُ لم يكن ليُخطئه وما أخطأهُ لم يكن ليُصيبه،، ويُقرَّ يالقدر كله”. أي لا يجوز أن يؤمن ببعض القدر ويكفر ببعض.

وروى أيضًا بالإسناد الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بالجابية فقامَ خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: “مَن يهدِ الله فلا مُضِلَّ له ومن يُضلل فلا هاديَ له”، وكان عندهُ كافرٌ من كفار العَجَمِ من أهلِ الذمةِ فقال بلغتهِ: “إنَّ الله لا يضلُّ أحدًا”، فقال عمر للترجمان: “ماذا يقول؟” قال: إنه يقول: “إنَّ الله لا يضلُّ أحدًا”، فقال عمر: “كذبتَ يا عدوَّ الله، ولولا أنكَ من أهل الذمة لضربتُ عنقكَ، هُوَ أضلَّكَ وهو يُدخلكَ النارَ إن شاءَ”.

وروى الحافظ أبو نُعيم عن الزهري أن عمر بن الخطاب كان يحبُّ قصيدة لَبيد بن ربيعة التي منها هذه الأبيات وهي:

إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفلْ *** وبإذنِ الله رَيثي وعَجَلْ

أحمدُ الله فلا نِدَّ لهُ *** بيديهِ الخيرُ ما شاءَ فعلْ

مَنْ هداهُ سُبُلَ الخيرِ اهتدى *** ناعِمَ البالِ ومَن شاءَ أضَلّ

ومعنى قوله: “إنّ تقوى ربنا خيرُ نفل” أي خير ما يُؤتاه الإنسان.

ومعنى قوله: “وبإذن الله ريثي وعجل” أي أنه لا يُيطئ مُبطئٌ ولا يُسرعُ مُسرعٌ إلا بمشيئة الله وبإذنه.

وقوله: “أحمد الله فلا ند له” أي لا مِثلَ له.

وقوله: “بيديه الخيرُ” أي والشرُّ، وإنما اقتصرَ على ذكر الخير من باب الاكتفاء كقوله تعالى: {سرابيلَ تَقيكمُ الحرَّ} [سورة النحل/81]، أي والبرد.

وقوله: “ما شاء فعل” أي ما أراد الله حصوله لا بدَّ أن يحصل وما أراد أن لا يحصل فلا يحصل.

وقوله: “مَن هداه سبل الخير اهتدى” أي من شاء الله له أن يكون على الصراط الصحيح المستقيم اهتدى.

وقوله: “ناعمَ البال” أي مطمئنَّ البال.

وقوله: “ومن شاء أضل” أي من شاء له أن يكونَ ضالاً أضلّه.

وروى البيهقي عن الشافعي أنه قال حيث سُئل عن القدر:

ما شئتَ كانَ وإن لم أشأ *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكُنْ

خلقتَ العبادَ على ما عَلِمتَ *** ففي العلمِ يجري الفتى والمُسِن

على ذا مَنَنتَ وهذا خذلتَ *** وهذا أعنتَ وذا لم تُعِن

فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيدٌ *** وهذا قبيحٌ وهذا حسن

فيتبيّن بهذا أن الضمير في قوله تعالى: {يُضِلُّ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء} [سورة النحل/93] يعودُ إلى الله لا إلى العبد كما زعمَت القدرية بدليل قوله تعالى إخبارًا عن سيدنا موسى: {إنْ هِيَ إلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بها مَنْ تشاءُ وتهدي من تشاءُ} [سورة الأعراف/155].

وكذلك قالت طائفة ينتسبون إلى أمين شيخو الذينَ زعيمهم اليومَ عبد الهادي الباني بدمشقَ فقد جعلوا مشيئة الله تابعةً لمشيئةِ العبد، حيث إن معنى الآية عندهم إن شاء العبد أن يهتدي هداهُ الله وإن شاء العبد أن يَضِلَّ أضلَّهُ الله فكذبوا بالآية: {وما تشاءونَ إلا أن يشاءَ اللهُ} [سورة التكوير/29]، فإن حاول بعضهم أن يستدلَّ بآيةٍ من القرءان لضدِّ هذا المعنى قيل له: القرءان يتصادق ولا يتناقض فليس في القرءان ءايةٌ نقيضَ ءايةٍ، وليس هذا من باب الناسخ والمنسوخ، لأن النسخ لا يدخل العقائد وليس موجبًا للتناقض، ولا يدخل النسخ في الأخبار إنما هو في الأمر والنهي إنما النسخُ بيان انتهاء حُكمِ ءايةٍ سابقةٍ بحكم ءايةٍ لاحقة، على أن هذه الفئة لا تؤمن بالناسخ والمنسوخ.

ومن غباوتهم العجيبة أنهم يفسرون قوله تعالى: {وعلَّمَ ءادمَ الأسماءَ كُلَّها} [سورة البقرة/31] بأسماء الله الحسنى، فإن قيل لهم: لو كانت الأسماء هي أسماء الله الحسنى لم يصُل الله: {فلمَّا أنبأَهُم بأسمائِهم} [سورة البقرة/33] بل لقالَ فلما أنبأهم بأسمائي انقطعوا، لكنهم يصرون على جهلهم وتحريفهم للقرءان.

روى الحاكم رحمه الله تعالى أنّ علي الرضى بن موسى الكاظمِ كان يقعُدُ في الروضةِ وهو شابٌّ مُلتحفٌ بمُطرَفِ خَزّ فيسأله الناس ومشايخُ العلماء في المسجد، فسئل عن القدر فقال: قال الله عز وجل من قائل: {إنَّ المُجرمينَ في ضلالٍ وسُعُرٍ* يومَ يُسحَبونَ في النارِ على وجوههم ذُوقوا مَسَّ سقر* إنَّا كُلَّ شيءٍ خلقناهُ بقدر} [سورة القمر/47-48-49].

ثم قال الرّضى: كان أبي يذكر عن ءابائهِ أنَّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب كان يقول: “إنَّ الله خلق كل شيءٍ بقدر حتى العجزَ والكيسَ، وإليهِ المشيئةُ وبهِ الحولُ والقوةُ” اهـ.

فالعبادُ مُنساقونَ إلى فعل ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر.

ولو لم يشأ الله عصيان العُصاة وكفر الكافرين وطاعة الطائعين لما خلق الجنة والنار.

ومن ينسبُ لله تعالى خلقَ الخير دون الشر فقد نسب إلى الله تعالى العجز ولو كان كذلك لكان للعالم مُدبران، مدبرٌ للخير ومدبرٌ للشر وهذا كفرٌ وإشراكٌ.

وهذا الرأيُ السفيه من جهةٍ أخرى يجعلُ الله تعالى في ملكه مغلوبًا، لأن مضمونه أن الله تعالى أراد الخيرَ فقط فيكون قد وقع الشر من عدوِّه إبليس وأعوانه الكفار رغمًا عنه.

ويكفر من يعتقد هذا الرأي لمخالفته قوله تعالى: {واللهُ غالبٌ على أمره} [سورة يوسف/21] أي لا أحد يمنعُ نفاذ مشيئته.

وحكمُ من ينسبُ هذا الرأي إلى الله تعالى الخيرَ وينسبُ إلى العبد الشر أدبًا أنه لا حرجَ عليه، أما إذا اعتقد أن الله خالق الخير دون الشر فحكمه التكفير.

واعلموا رحمكم الله أن الله تعالى إذا عذّب العاصي فبعدله من غير ظلم، وإذا أثابَ المطيع فبفضله من غير وجوب عليه، لأن الظلم إنما يُتصوَّر ممن له ءامرٌ وناهٍ، ولا ءامرَ لله ولا ناهيَ له، فهو يتصرَّفُ في ملكه كما يشاء لأنه خالق الأشياء ومالِكها، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده وغيرهما عن ابن الديلمي قال: “أتيتُ أبيَّ بن كعب فقلت: يا أبا المنذر، إنه حدث في نفسي شيء من هذا القدر فحدثني لعلَّ الله ينفعني”، قال: “إنَّ الله لو عذَّبَ أهل أرضهِ وسمواتهِ لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقتَ مثل أحدٍ ذهبًا في سبيل الله ما قَبِلهُ الله منكَ حتى تؤمنَ بالقدر، وتعلمَ أنّ ما أصابكَ لم يكن ليخطئك وما أخطأكَ لم يكن ليُصيبك، ولو متَّ على غير هذا دخلتَ النار”.

قال: ثم أتيتُ عبد الله بن مسعود فحدثني مثل ذلك، ثم أتيتُ حذيفة بن اليمان فحدثني مثل ذلك، ثم أتيتُ زيدَ بن ثابتٍ فحدثني مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى مسلم في صحيحه والبيهقي في كتاب القدر عن أبي الأسود الدُّؤلي قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيءٌ قضِيَ عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبقَ أو فيما يُستقبلونَ به مما أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجة عليهم؟ قال: فقلت: بل شيءٌ قُضيَ عليهم ومضى عليهم، قال: فقال: أفلا يكون ظلمًا، قال: ففزعتُ من ذلك فزعًا شديدًا وقلتُ: كل شيءٍ خلقُهُ ومِلكُ يدهِ لا يُسئل عما يفعل وهم يسألون، قال: فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتكَ إلا لأحزِرَ عقلك، إنَّ رجلين من مُزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيتَ ما يعملُ الناس اليومَ ويكدحون فيه أشيءُ قُضيَ عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يُستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجةُ عليهم؟ فقال: “بل شيء قُضي عليهم ومضى عليهم”، ومصداق ذلك قول الله تبارك وتعالى: {ونَفسٍ وما سوَّاها* فألهمَها فُجورها وتقواها} [سورة الشمس/7-8].

وصح حديث: “فمن وجدَ خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نقسه” رواه مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل.

أما الأول: وهو مَن وجد خيرًا فلأن الله تعالى مُتَفضِّلٌ عليه بالإيجاد والتوفيق من غير وجوب عليه، فليحمد العبدُ ربه على تفضله عليه.

أما الثاني: وهو من وجد شرًا فلأنه تعالى أبرز بقدرته ما كان من مَيل العبد السيء، فمن أضله الله فبعدله ومن هداه فبفضله.

ولو أنَّ الله خلق الخلق وأدخل فريقًا الجنة وفريقًا النار لسابق علمه أنهم لا يؤمنون لكان شأن المُعَذَّبِ منهم ما وصف الله بقوله: {ولو أنَّا أهلكناهُم بعذابٍ من قبلهِ لقالوا ربَّنا لولا أرْسَلتَ إلينا رسولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتِكَ من قبلِ أن نَّذِلَّ وَنَخزى} [سورة طه/134].

فأرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين ليُظهر ما في استعداد العبدِ من الطوع والإباء فيهلك من هلكَ عن بيّنة ويَحيا من حيَّ عن بينة.

فأخبرنا أن قسمًا من خلقه مصيرهم النارُ بأعمالهم التي يعملون باختيارهم، وكان تعالى عالمًا بعلمه الأزلي أنهم لا يؤمنون، قال تعالى: {ولو شِئنا لأتينا كُلَّ نفسٍ هُداها ولكنْ حقَّ القولُ مِنِّي لأملأنَّ جهنَّمَ مِنَ الجنةِ والناسِ أجمعينَ} [سورة السجدة/13] أخبر الله تعالى في هذه الأية أنه قال في الأزل: {لأملأنَّ جهنَّمَ منَ الجنة والناسِ أجمعين} وقوله صدقٌ لا يتخلَّفُ لأنّ التخلف كذبٌ والكذبُ محالٌ على الله.

قال تعالى: {قُلْ فللهِ الحجَّةُ البالِغةُ فلوْ شاءَ لهداكُمْ أجمعين} [سورة الأنعام/149] أي ولكنه لم يشأ هداية جميعكم إذ لم يسبق العلمُ بذلك، فالعباد مُنساقون إلى فعل ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر.

واعلم أنّ ما ذكرناه من أمر القدر ليس من الخوض الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: “إذا ذُكر القدرُ فأمسِكوا” رواه الطبراني، لأنّ هذا تفسير للقدر الذي ورد به النص، وأما المنهيُّ عنه فهو الخوض فيه للوصول إلى سره، فقد روى الشافعي والحافظ ابن عساكر عن علي رضي الله عنه أنه قال للسائل عن القدر: “سرُّ الله فلا تتكلَّف”، فلما ألحّ عليه قال له: “أما إن أبيتَ فإنهُ أمرٌ بين أمرين لا جبرٌ ولا تفويض”.

واعلم أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذمّ القدرية وهو فِرَقٌ، فمنهم من يقول: العبد خالقٌ لجميع فعلهِ الاختياري، ومنهم من يقول: هو خالق الشر دون الخير وكلا الفرقتين كفارٌ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “القدرية مجوس هذه الامة” [3]، وفي رواية لهذا الحديث: “لكل أمةٍ مجوسٌ، ومجوس هذه الأمة الذي يقولونَ لا قدر” رواه أبو داود عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي كتاب “القدر” للبيهقي وكتاب “تهذيب الآثار” للإمام ابن جرير الطبري رحمهما الله تعالى عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام القدرية والمرجئة” [4].

فالمعتزلة هم القدرية لأنهم جعلوا الله والعبد سواسية بنفي القدرة عنه عز وجل على ما يَقْدِرُ عليه عبده، فكأنهم يثبتون خالقين في الحقيقة كما أثبت المجوس خالقَين خالقًا للخير هو عندهم النور وخالقًا للشر هو عندهم الظلام.

والهداية على وجهين:

أحدهما: إبانة الحق والدعاء إليه ونصب الأدلة عليه، وعلى هذا الوجه يصح إضافة الهداية إلى الرسل وإلى كل داع لله، كقوله تعالى في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وإنَّكَ لتهدي إلى صراطٍ مستقيم} [سورة الشورى/52].

وقوله تعالى: {وأمَّا ثمودُ فهديناهم} [سورة فصلت/17].

والثاني: من جهة هداية الله تعالى لعباده أي خلق الاهتداء في قلوبهم كقوله تعالى: {فمن يُرِدِ اللهُ أن يهديَهُ يشرحْ صدرهُ للإسلامِ ومن يُرد أن يُضِلَّهُ يجعلْ صدرهُ ضيِّقًا حَرَجًا} [سورة الأنعام/125].

والإضلال خلقُ الضلال في قلوب أهل الضلال.

فالعبادُ مشيئتهم تابعةٌ لمشيئة الله قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاءَ الله} [سورة الإنسان/30].

الهوامش:

[1] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء.

[2] الصراط المستقيم [ص/58-66]، الطبعة العاشرة.

[3] رواه من حديث عمر أبو داود وغيره.

[4] المرجئة هم طائفة انتسبوا للإسلام كانوا يعتقدون أن العبد المؤمن مهما عمل من الكبائر ومات بلا توبة ليس عليه عذاب.

الدليل العقلي على فساد قول المعتزلة بأن العبد يخلق أفعاله

قال أهل الحق: “امتنع خلقُ العبد لفعله لعموم قدرة الله تعالى وإرادته وعلمه”.

وبيانُ الدليل على ذلك أن قدرة الله عامة وعلمه كذلك وإرادته كذلك، فإنَّ نسبتها إلى الممكنات نسبة واحدة.

فإنّ وجود الممكن إنما احتاج إلى القادر من حيث إمكانه وحدوثه.

فلو تخصصت صفاتهُ هذه ببعض الممكنات للزِمَ اتصافه تعالى بنقيض تلك الصفات من الجهل والعجز وذلك نقصٌ والنفصُ عليه محال، ولاقتضى تخصصها مُخَصّصًا وتعلَّق المُخصص بذات الواجبِ الوجود وصفاته وذلك محال، فإذًا ثبتَ عموم صفاته.

فلو أراد الله تعالى إيجاد حادثٍ وأراد العبد خلافه ونفذ مرادُ العبد دون مراد الله للزم المحالُ المفروضُ في إثبات إلهين، وتعدُّدُ الإله محالٌ بالبرهان، فما أدى إلى المحال محالٌ” انتهى كلام شيخنا الهرري.

وقال في كتابه صريح البيان ما نصه [1]: “يجب تكفير المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعاله الاختيارية أي يحدثها من العدم إلى الوجود لأنهم كذبوا قول الله تعالى: {هل من خالقٍ غيرُ الله} [سورة فاطر/3]، وقول الله: {قلِ اللهُ خالقُ كلِّ شيء} [سورة الرعد/16] وءايات ـخرى كثيرة وأحاديث عديدة. وهؤلاء المعتزلة هم القدرية الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، وقد أورد هذا الحديث أبو حنيفة في إحدى رسائله الخمس وهو صحيح عنده لأنه أورده في معرض الاحتجاج، وهم الذين شدّد عليهم النكير عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “كلام القدرية كفر”، وقال سيدنا علي بن أبي طالب للقدري: “إن عُدت إلى هذا لأقطعن الذي فيه عيناك”، وكذلك الحسن بن عليه بن أبي طالب والإمام المجتهد عبد الله بن المبارك فقد حذّر من ثور بن يزيد وعمرو بن عبيد الذي كان من رءوس المعتزلة، وقد ألّف في الرد عليهم الحسن بن محمد ابن الحنفية حفيد سيدنا علي بن أبي طالب، وكذا الإمام الحسن البصري، والخليفة الأموي المجتهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، وعلى تكفيرهم كان الإمام مالك فقال حين سُئل عن نكاح المعتزلة: {ولَعَبْدٌ مُّؤمنٌ خيرٌ من مُشرِكٍ} [سورة البقرة/221]، نقل ذلك عنه أبو بكر ابن العربي المالكي، والزركشي في شرحه على أصول ابن السبكي، وكذلك كفرهم إماما أهل السنة أبو منصور الماتريدي الحنفي، وأبو منصور عبد القهر البغدادي التميمي الشافعي شيخ الاشاعرة وشيخ الحافظ البيهقي الذي فال فيه ابن حجر الهيتمي: “الإمام الكبير إمام أصحابنا أبو منصور البغدادي”.

وقد قال شارح إحياء علوم الدين الإمام الفقيه المحدث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي [2]: “لم يتوقف علماء ا وراء النهر من أصحابنا –يعني الماتريدية- في تكفير المعتزلة” اهـ. وقال الزاهد الصفار من أكابر الحنفية: “يجب إكفار القدري –أي المعتزلي- في قوله: إن العبد يخلق أفعال نفسه، وفي قوله: إن الله لم يشأ وقوع الشر. اهـ.

وممن نقل أيضًا تكفيرهم الإمام شيخ الإسلام البلقيني، وردّ عليهم الإمام المتولي في كتابه الغنية في العقيدة وهما من أكابر أصحاب الوجوه من الشافعية، والإمام أبو الحسن شيث بن إبراهيم المالكي، وكذلك الإمام ابن التلمساني المالكي في كتابه شرح لمع الأدلة لإمام الحرمين وغيرهم، ولم يصح عن إمام مجتهد كالشافعي وغيره القول بترك تكفير هذا الصنف من المعتزلة.

فبعد هذا لا يلتفت إلى ما يخالفه ولا يغترّ بعدم تكفير بعض المتأخرين لهم، فقد نقل الأستاذ أبو منصور التميمي في كتابه التذكرة البغدادية وكتابه تفسير الأسماء والصفات تكفيرهم عن الأئمة فقال [3]: “أصحابنا أجمعوا على تكفير المعتزلة”[4]. وقوله: “أصحابنا” يعني به الأشاعرة والشافعية لأنه رأس كبير في الأشاعرة الشافعية، وهو إمام مقدم في النقل معروف بذلك بين الفقهاء والأصوليين والمؤرخين الذين ألفوا في الفِرق، فمن أراد مزيد التأكد فليطالع كتبه هذه، فلا يُدافع بكلام بعض المتأخرين.

وما يذكر من العبارات التي تفهم ترك تكفيرهم عن بعض المشاهير كالنووي فقد يؤول بأن مراده من لم تثبت عليه قضية معينة تقتضي كفره من مسائلهم، لأن منهم من ينتسب إليهم ولا يقول بجميع مقالاتهم كبشر المريسي والمأمون العباسي، فإن بشرًا كان موافقهم في القول بخلق القرءان وكفّرهم في القول بخلق الأفعال، فلا يحكم على جميع من انتسب إلى الاعتزال بحكم واحد ويحكم على كل فرد منهم بكونه ضالاً، فالذين لا يعتقدون من الاعتزال أصوله الكفرية إنما ينتسبون إليهم ويعتقدون بعض المسائل الأخرى كعدم رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة فهؤلاء الذين لم يكفرهم من يتحاشى تكفيرهم. ومن اراد المزيد فليراجع الكتب التي ألفت في الفِرق لبيان مقالاتهم وأقوال العلماء فيهم. وكذلك قول الإمام أحمد في المعتصم “يا أمير المؤمنين” فإن المعتصم والمأمون لم يثبت عنهما القول بخلق العبد لفعله كما تقول المعتزلة إنما وافقا المعتزلة في القول بخلق القرءان، ولا يعني المعتصم والمأمون أنه ليس لله كلام إلا هذا اللفظ المنزل الذي هو مخلوق لله كما تعتقد المعتزلة، إنما وافقهم في القول بمخلوقية اللفظ ففرق بينهما وبين المعتزلة لأن المعتزلة نفوا الكلام القائم بذات الله وقالوا ليس لله كلام إلا الكلام الذي يخلقه في غيره كالشجرة التي كان عندها موسى، فحكم المعتزلة الذين نفوا الكلام القائم بذات الله غير حكم من قال بمخلوقية اللفظ المنزل، ولا يستطيع أحد أن يثبت عن الخليفتين أنهما تلفظا بنفي الكلام الذاتي عن الله، فالتسوية بينهما وبين المعتزلة جهل بالحقيقة كما ادعى البوطي في بعض كلامه حيث إنه احتج بقول الإمام أحمد للمعتصم “يا أمير المؤمنين” بأن أحمد لم يكفرهم وهذا تقويل للإمام ما لم يقله، ولا يستطيع أن يثبت عن أحمد أنه قال عن المعتصم أنه كان يقول بما تقول المعتزلة أنه ليس لله كلام إلا ما يخلقه في غيره، ودون ذلك خرق القتاد.

وقد أنكر الحافظ البلقيني في حواشي الروضة قول صاحب الروضة بصحة القدوة بهم في الصلاة قال [5]: “وقول الشافعي رضي الله عنه: “أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية” محمول على من لم تثبت فيهم قضية معينة تقتضي تكفيرهم، واستدل لذلك بقوله لحفص الفرد لما جادله في مسئلة القول بخلق القرءان فأفحمه الشافعي: “لقد كفرت بالله العظيم”. وردّ البلقيني تأويل قول الشافعي هذا بكفران النعمة فقال في حاشيته على روضة الطالبين ما نصه [6]: “قوله –يعني النووي-: وأطلق القفال وكثيرون من الأصحاب القول بجواز الاقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون، قال صاحب العُدة: هو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه، زاد –أي النووي- هذا الذي قاله القفال وصاحب العدة هو الصحيح أو الصواب، فقد قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة وغيرهم”. قال البلقيني: “فائدة: الصحيح أو الصواب خلاف ما قال المصنف –يعني النووي- وقول الإمام الشافعي رضي الله عنه محمول على من ذكر عنه أنه من أهل الأهواء ولم يثبت عليه قضية معينة تقتضي كفره، وهذا نص نصًا خاصًا على تكفير من قال بخلق القرءان، والقول بالخاص هو المقدّم، وأما الصلاة خلف المعتزلة فهو محمول على ما قدمته من أنه لم يثبت عند المقتدين بهم ما يكفرهم”. ثم قال البلقيني: “قوله –يعني النووي- وقد تأوّل البيهقي وغيره من أصحابنا المحققين ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء من تكفير القائل بخلق القرءان على كفران النعم لا كفران الخروج عن الملة”. قال البلقيني: “فائدة: هذا التاويل لا يصح لأن الذي أفتى الشافعي رضي الله عنه بكفره بذلك هو حفص الفرد، وقد قال: أراد الشافعي ضرب عنقي، وهذا هو الذي فهمه أصحابه الكبار وهو الحق وبه الفتوى خلاف ما قال المصنف” اهـ. ويرد تأويل من أوَّل عبارة الشافعي المذكورة في حق حقص بكفران النعمة لا كفران الجحود ما ثبت عن عبد الرحمن بن أبي حاتم عن ربيعة بن سليمان المراديّ صاحب الشافعي أن الشافعي كفّره أي حفصًا كما أنه هو الراوي لقول الشافعي لقد كفرت بالله العظيم. فلا يجوز التردد في تكفير المعتزلة القائلين بأن الله كان قادرًا على خلق حركات العباد وسكونهم ثم لما أعطاهم القدرة عليها صار عاجزًا عنها، حكى ذلك واحد من الأكابر منهم الإمام أبو منصور الماتريدي، والإمام أبو منصور البغدادي، والإمام أبو سعيد المتولي، والفقيه المالكي شيث بن إبراهيم، وإمام الحرمين وغيرهم كما تقدم، فكيف يسوغ ترك تكفيرهم بعد هذا الذي هو صريح في نسبة العجز إلى الله.

قال الزركشي في تشنيف المسامع [7] ما نصه: “وقد نص الشافعي على قبول شهادة أهل الأهواء، وهو محمول على ما إذا لم يؤد إلى التكفير، وإلا فلا عبرة به” اهـ. وهذا يؤكد ما قاله البلقيني في حواشي روضة الطالبين بأن مراد الشافعي بقوله أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من لم تثبت بحقه قضية تقتضي تكفيره منهم، يعني كقولهم إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية استقلالاً، وإن الله كان قادرًا على خلقها قبل أن يعطيهم القدرة فلما أعطاهم صار عاجزًا.

أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور: “القدرية مجوس هذه الأمة” [8]. فمعناه أمة الدعوة، وأمة الدعوة تشمل الكافرين والمؤمنين، لأن لفظ أمتي ونحوه يحمل على من اتبعه في بعض المواضع، وفي بعض المواضع يطلق على من توجهت إليه دعوته فمنهم من ءامن ومنهم من أبى”، انتهى كلام العلامة الهرري.

وماذا يقول البوطي في قوله تعالى: {وأنَّهُ هُوَ أضحكَ وأبكى* وأنهُ هوَ أماتَ وأحيا} [سورة النجم/43-44]، فالضحك والبكاء من أفعال العبد الاختيارية ومع ذلمك الله تبارك وتعالى جعلهما من خلقه تعالى، وأكد ذلك بإدخال كلمة “هو” بعد الضمير الذي في “وأنه”، وهذا للتأكيد في أن الله تعالى هو خالق ذلك.

الهوامش:

[1] صريح البيان [ص/27-31]، الطبعة الثالثة.

[2] إتحاف السادة المتقين [2/135].

[3] أصول الدين [ص/337، 341، 342، 343].

[4] تفسير الأسماء والصفات [ق/191].

[5] حواشي الروضة للبلقيني [1/83].

[6] حواشي الروضة للبلقيني [1/83].

[7] تشنيف المسامع [ص/227].

[8] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القدر، وصححه الحاكم في المستدرك [1/85] ووافقه الذهبي.

تقدير الله لا يتغير

اعلم أن تقدير الله تعالى الأزلي لا يُغيره شيءٌ لا دعوةُ داع ولا صداقة مُتصدق ولا صلاةُ مثل ولا غير ذلك من الحسنات، بل لا بد أن يكون الخلق على ما قدّر لهم في الأزل من غير أن يتغير ذلك. وأما قول الله تعالى: {يمحوا الله ما يشاءُ ويُثبِتُ وعندهُ أمُّ الكتاب} [سورة الرعد/39]، فليس معناه أن المحوَ والإثبات في تقدير الله، بل المعنى في هذا أن الله جل ثناؤه قد كتب ما يُصيب العبد من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك، وأنه إن دعا الله تعالى أو أطاعه في صلة الرحم وغيرها لم يُصبه ذلك البلاء ورزقه كثيرًا أو عمَّرهُ طويلاً، وكتب في أم الكتاب ما هو كائن من الأمرين، فالمحو والإثبات راجعٌ إلى أحد الكتابين كما أشار إليه ابن عباس، فقد روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {يمحوا اللهُ ما يشاءُ ويُثبِتُ وعندهُ أمُّ الكتاب} [سورة الرعد/39]، قال: “يمحو الله ما يشاء من أحد الكتابين، هما كتابان بمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت وعنده أم الكتاب” اهـ.

والمحو يكون في غير الشقاوة والسعادة، فقد روى البيهقي أيضًا عن مجاهد أنه قال في تفسير قول الله تعالى: {فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم} [سورة الدخان/4]: “يُفرقُ في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزقٍ أو مُصيبة، فأما كتاب الشقاء والسعادة فإنه ثابتٌ لا يُغَيَّرُ” اهـ.

فلذلك لا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء الذي فيه: إن كنت كتبتني في أم الكتاب عندك شقيًّا فامحُ عني اسمَ الشقاء وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني في أم الكتاب محرومًا مُقَتَّرًا عليَّ رزقي فامحُ عني حرماني وتقتير رزقي وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير، فإنك تقول في كتابك: {يمحوا اللهُ ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب}، ولا ما أشبه هذا الدعاء، ولم يصح هذا الدعاء أيضًا عن عمر ولا عن مجاهد ولا عن غيرهما من السلف كما يٌعلم ذلك من كتاب “القدر” للبيهقي” اهـ.

ثم قال ما نصه [1]:”

توحيد الله في الفعل

روي عن الجنيد إمام الصوفية العارفين عندما سئل عن التوحيد أنه قال: “اليقينُ”، ثم استُفسر عن معناه فقال: “إنهُ لا مُكَوِّنَ لشيءٍ من الأشياء منَ الأعيان والأعمال ولا خالقٌ لها إلا الله تعالى” اهـ.

قال تعالى: {واللهُ خلقكم وما تعملون} [سورة الصافات/96].

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله صانعُ كلّ صانع وصنعته” رواه الحاكم والبيهقي وابن حبان من حديث حذيفة.

إذ العباد لا يخلقون شيئًا من أعمالهم وإنما يكتسبونها، فقد قال الله تعالى: {اللهُ خالق كل شيء} [سورة الرعد/16].

تمدَّح تعالى بذلك لأنه شيء يختص به، وذلك يقتضي العموم والشمول للأعيان والأعمال والحركات والسكنات.

وقال تعالى: {قُلْ إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحيايَ ومماتي للهِ ربِّ العالمين} [سورة الأنعام/162].

ساق الله الصلاة والنسك والمحيا والممات في مساق واحد وجعلها مِلكًا له. فكما أن الله خالقُ الحياة والموت، كذلك الله خالق للأعمال الاختيارية كالصلاة والنسك، والحركات الاضطرارية من باب الأولى.

وإنما تمتازُ الأعمال الاختياريةُ بكونها مُكتسبة لنا فهي محلُّ التكليف.

والكسبُ الذي هو فعل العبد وعليه يُثاب أو يُؤاخذ في الآخرة هو توجيه العبد قصده وإرادته نحو العمل فيخلقه الله عنه ذلك.

فالعبد كاسبٌ لعمله والله تعالى خالقٌ لعمل هذا العبد الذي هو كسبٌ لهُ، وهذه المسألة من أغمضِ المسائل في هذا العلم.

قال الله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [سورة البقرة/286].

فليس الإنسان مجبورًا لأن الجبر يُنافي التكليف، وهذا هو المذهب الحق وهو خارج عن الجبر والقدر.

ويكفُرُ من يقول إن العبد يخلقُ أعماله كالمعتزلة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: “كلام القدرية كفر”، والقدرية هم المعتزلة.

قال أبو يوسف: “المعتزلة زنادقة”.

ووصفهم الإمام أبو منصور التميمي في كتابه “الفرق بين الفِرق” بأنهم مشركون. وأبو منصور هو الذي قال فيه ابن حجر الهيتمي هذه العبارة: “وقال الإمام الكبير إمام أصحابنا أبو منصور البغدادي” [2].

ولا تغترَّ بعدم تكفير بعض المتأخرين لهم، فقد نقل الأستاذ أبو منصور التميمي البغدادي في كتابه “أصول الدين” وكذلك في كتابه “تفسير الأسماء والصفات” تكفيرهم عن الأئمة.

قال الإمام البغدادي في كتابه “تفسير الأسماء والصفات” [3]: “أصحابُنا أجمعوا على تكفير المعتزلة” اهـ.

وقوله: “أصحابنا” يعني به الأشعرية والشافعية لأنه أشعري شافعي بل هو رأس كبيرٌ في الشافعية كما قال ابن حجر، وهو إمام مُقدم في النقل معروف بذلك بين الفقهاء والأصوليين والمؤرخين الذين ألفوا في الفرق، فمن أراد مزيد تأكدّ فليطالع كتبه هذه، فلا يُدافَعُ نقله بكلام الباجوري وأمثاله ممن هو من قبل عصره أو بعده.

وأما كلام بعض المتقدمين من ترك تكفيرهم فمحمول على مثل بشر المريسي والمأمون العباسي، فإن بشرًا كان موافقهم في القول بخلق القرءان وكفّرهم في القول بخلق الأفعال فلا يُحكم على جميع من انتسب إلى الاعتزال بحكمٍ واحد ويُحكم على كل فردٍ منهم بكونه ضالاً.

الهوامش:

[1] الصراط المستقيم [ص/67-70].

[2] هو ممن كتب عنه البيهقي في الحديث.

[3] هذا الكتاب نادر الوجود يوجد منه أربع نسخ خطية فيما نعلم.

فصل

يقول البوطي في مجلة طبيبك عدد تشرين الثاني 1993 [ص/110] ما نصه: “فإن كلمة الحذر ينجي من القدر أو لا ينجي من القدر باطلة”. اهـ.

الرد: إن كان البوطي لا يعرف مصادر الأثر فلا يتجن ويتسرع، وهذا الحكم من عثراته وزلاته فقد روى البيهقي في كتاب القضاء والقدر عن ابن عباس أنه قال: “إن الحذر لا يغني من القدر”، وهذه رواية عطاء عن ابن عباس، وروى البيهقي أيضًا من طريق طاووس عن ابن عباس قال: “لا ينفع الحذر من القدر”. فأنصحك أن لا تهرف بما لا تعرف.

ومن عجائب هذا المدعي وغرائبه أنه يدعي العلم والمعرفة وكتبه مليئة بالأخطاء والمغالطات في الدين فضلاً عن أخطائه في اللغة فقد ألف كتابًا سماه “الإنسان مسير أم مخير” وهذا العنوان لا يصح لغة ولا شرعًا.

أما شرعًا فقد بينّا أن الإنسان ليس مجبرًا مطلقًا ولا مختارًا مطلقًا بل أجمع أهل الحق أن الإنسان مختار تحت مشيئة الله.

أما من حيث اللغة فلا يوجد في اللغة مُسيّر بمعنى محبور قال تعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكم في البرِّ والبحرِ} [سورة يونس/22]، وقال الإمام الرازي في تفسيره [1]: “قال القفال {هوَ الذي يسيركم في البر والبحر}: أي هو الله الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلبًا للمعاش لكم، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير” اهـ، وقال القرطبي [2]: “أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك” اهـ.

ولا يصح في اللغة أن يقال عن الإنسان مخير في هذا الموضع لأن التخيير معناه أن تختار بين شيئين، والصحيح أن يقال مختار وليس مخيرًا كما هو المعروف في كتب أهل السنة.

ثم إن هذا الاصطلاح مسير ومخير ليس من السلف ولا ممن بعدهم، ولا ورد في كتب الاشاعرة ولا الماتريدية ولا المعتزلة ولا الفلاسفة بل هل من اصطلاحات أهل هذا العصر وما أكثر ما تطرق من فسادٍ إلى اللغة في هذا العصر.

ثم ألم يقرأ البةطي متن الجوهرة في التوحيد وهو متن يحفظه صغار طلبة العلم في دمشق وأقطار الارض، يقول صاحب الجوهرة عن العبد:

“فليس مجبورًا ولا اختيارا *** وليس كٌلاً يفعل اختيارا” اهـ

أي ليس العبد مجبورًا ولا هو ليس له اختيار بل له اختيار يخلقه الله كما ذُكر ذلك في شروح جوهرة التوحيد.

الهوامش:

[1] تفسير الرازي [17/71].

[2] الجامع لأحكام القرءان [8/324].