البوطي يتخبط في مسئلة وجه المرأة

البوطي يتخبط في مسئلة وجه المرأة

في إحدى المراسلات التي جرت بيني وبينه يقول: “تجاهلتم الخلاف المعروف بين الأئمة والفقهاء في كون وجه المرأة عورة يجب ستره أم لا، وهو خلاف معروف تفيض به كتب الفقه بقطع النظر عن الراجح من هذين القولين، كما تجاهلتم أدلة القائلين بأن وجهها عورة المتمثلة في تفسير طائفة كبيرة من الصحابة والتابعين والتي تفيض ببيانها الموسوعات الفقهية وكتب التفسير” اهـ.

وأما تخبطه وقوله بخلاف هذا الكلام فانظر نص كلامه لمجلة طبيبك ءاخر هذا الرد.

وأما بالنسبة لوجه المرأة فالأمر ليس كما قال وإليك الرد العلمي السليم قال العلامة المحدث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري ما نصه [1]: ” اعلم أن عورة المرأة أمام الرجل الأجنبي جميع بدنها سوى وجهها وكفيها، فيجوز لها أن تخرج من بيتها كاشفة وجهها إجماعًا.

وقد نقل هذا الإجماع ابن حجر الهيتمي في كتابيه الفتاوى الكبرى وحاشية شرح الإيضاح على مناسك الحج للنووي.

ففي الأول [2]: “وحاصل مذهبنا أن إمام الحرمين نقل الإجماع على جواز خروج المرأة سافرة الوجه وعلى الرجال غضّ البصر” اهـ.

وقال في الثاني [3]: “إنه يجوز لها كشف وجهها إجماعًا وعلى الرجال غضُّ البصر، ولا ينافيه الإجماع على أنها تؤمر بستره لأنه لا يلزم من أمرها بذلك للمصلحة العامة وجوبه” اهـ.

وقال في موضع ءاخر [4] فيه: “قوله –أي النووي-” أو احتاجت المرأة إلى ستر وجهها، ينبغي أن يكون من حاجتها لذلك ما إذا خافت من نَظَرٍ إليها يجرّ لفتنة، وإن قلنا لا يجب عليها ستر وجهها في الطرقات كما هو مقرر في محله” اهـ.

وقال زكريا الأنصاري في شرح الروض [5] ما نصه: “وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء أي منع الولاة لهن مما ذكر –أي من الخروج سافرات- لا ينافي ما نقله القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة وعلى الرجال غضّ البصر عنهن لقوله تعالى: {قُلْ للمؤمنينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصارِهِمْ} [سورة النور/30] الآية، لأن منعهن من ذلك لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته بل لأنه سنّة وفيه مصلحة عامة وفي تركه إخلال بالمروءة كالإصغاء من الرجل لصوتها فإنه جائز عند أمن الفتنة، وصوتها ليس بعورة على الأصح في الأصل” اهـ.

وقال الإمام المجتهد ابن جرير الطبري في تفسيره [6] ما نصه: “حدثنا ابن بشّار قال ثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن في قوله: {ولا يُبدِينَ زِينتَهُنَّ إلا ما ظهرَ مِنها} قال: الوجه والثياب، وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنيَ بذلك الوجه والكفان، يدخل إذا كان كذلك: الكحل والخاتم والسوار والخضاب. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل لإجماع الجميع أن على كلّ مصلّ أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفّيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف، فإذا كان من جميعهم إجماعًا كان معلومًا بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة، كذلك للرجال، لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلومًا أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: {إلا ما ظهرَ مِنها}، لأن كل ذلك ظاهر منها. وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} يقول تعالى ذكره: {وليضرنَ بخُمرهنَّ} وهي جمع خمار، {وعلى جُيوبهن} ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وقرطهن” اهـ.

وقد جاء عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم أنهم فسّروا قوله تعالى: {ولا يُبدينَ زينَتَهُنَّ إلا ما ظهرَ منها} [سورة النور/31] بالوجه والكفين، وهذا هو الصحيح الذي تؤيّده الأدلة كحديث المرأة الخثعمية الذي أخرجه البخاري [7] ومسلم [8] ومالك [9] وأبو داود [10] والنسائي [11] والدارمي [12] وأحمد [13] من طريق عبد الله بن عباس قال: “جاءت امرأة خثعمية غداة العيد، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحجّ عنه؟ قال: “حجّي عنه”، قال ابن عباس: وكانت شابة وضيئة، فجعل الفضل بنظر إليها أعجبه حُسنها، فلوى رسول الله عنق الفضل”. وعند الترمذي من حديث على [14]: “قال العباس: يا رسول الله لِمَ لويت عنق ابن عمك؟ فقال: “رأيت شابًا وشابة فلم ءامن الشيطان عليهما”، قال ابن عباس: وكان ذلك بعد ءاية الحجاب” اهـ.

ولفظ البخاري [15] عن عبد الله بن عباس قال: أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلاً وضيئًا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها.

قال الحافظ ابن حجر في شرحه [16]: “قال ابن بطال: في الحديث الأمر بغضّ البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع، قال: ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحوّل وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي الفتنة عليه، قال: وفيه مغالبة طباع البشر لابن ءادم وضعفه عما ركّب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي الخثعمية بالاستتار لما صرف وجه الفضل. قال: وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضًا لإجماعهم على أن المرأة تبدي وجهها في الصلاة ولو رءاه الغرباء، وأن قوله: {قُلْ للمؤمنينَ يغُضُّوا مِن أبصارهم} [سورة النور/30] على الوجوب في غير الوجه. قلت: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة” اهـ.

أقول: تعقّبُ الحافظ لكلام ابن بطال مدفوع لأنه كان يمكنها أن تجمع بين المصلحتين مصلحة الإحرام ومصلحة تغطية الوجه بأن تجافي الساتر بشيء يمنع من مَسّه وجهها، كما جاء ذلك عن أمهات المؤمنين في سفرهن للحج أنهن كنّ إذا حاذين الركب سَدَلنا على وجوههنّ فإذا جاوزن رفعن الساتر، كما رواه أبو داود [17] وابن أبي شيبة [18] وغيرهما، فلو كان سكوته صلى الله عليه وسلم عن أمر الخثعمية بتغطية وجهها لأجل إحرامها لامرها بسدل الساتر على وجهها مع مجافاتها حتى لا يلتصق بالوجه لكنه لم يأمرها، ولما لم يأمر المرأة الخثعمية بتغطية وجهها في ذلك الجمع الكبير الذي قال جابر في وصف ما كان من الحجاج عندما خرج النبي من المدينة: إن الناس كانوا مدّ البصر في جوانبه الأربعة: أمامه وخلفه ويمينه وشماله، علم من ذلك عدم وجوبه، ولو كان واجبًا لأمرها بذلك. فتبيّن بما ذكرنا أن دعوى بعض أن سكوت النبي على كشف الخثعمية وجهها كان لأجل الإحرام دعوى فاسدة لا عبرة بها. فسكوته صلى الله عليه وسلم دليل ظاهر على أن وجه المرأة من غير أمهات المؤمنين يجوز كشفه في الطرق ونحوها، لأن هذه الخثعمية كانت عند الرمي وذلك الموضع يكثر فيه اجتماع الحجاج حتى إنه يحصل كثيرًا التلاصق بين الرجال والنساء من شدة الزحمة بلا تعمّد.

وروى الحديث أيضًا البخاري في كتاب الحج [19] عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: “كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: “نعم”، وذلك في حجة الوداع” اهـ.

قال الحافظ ابن حجر [20]: “قوله: فجاءته امرأة من خثعم –بفتح المعجمة وسكون المثلثة- قبيلة مشهورة، قوله: فجعل الفضل ينظر إليها، في رواية شعيب: وكان الفضل رجلاً وضيئًا أي جميلاً وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها. قوله” يصرف وجه الفضل، في رواية شعيب: فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فدفع وجهه عن النظر إليها، وهذا هو المراد بقوله في حديث علي: فلوى عنق الفضل. ووقع في رواية الطبري في حديث علي: وكان الفضل غلامًا جميلاً فإذا جاءت الجارية من هذا الشق صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشق الآخر، فإذا جاءت إلى الشق الآخر صرف وجهه عنه، وقال في ءاخره: “رأيت غلامًا حَدَثًا وجارية حَدَثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان” اهـ. وفي هذا الحديث دلالة على رجحان جواز كشف المرأة وجهها مع خوف الفتنة، وهذا ما قاله شارح مختصر خليل محمد عليش المالكي في كتاب الصلاة، ومحل الدليل في الحديث قوله عليه السلام: “رأيتُ غلامًا حَدَثًا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان”، ومقابله ما ذكره بعض الشافعية من المتأخرين كالشيخ ركريا الأنصاري والرملي، وهذه الرواية التي عزاها الحافظ للطبري صحيحة أو حسنة عند ابن حجر لأنه التزم في المقدمة أن ما يورده من الأحاديث مما هو شرح لرواية البخاري أو زيادة عليها فهو صحيح أو حسن.

قال صاحب المبسوط الحنفي [21]: “ثم لا شك أن يُباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها وكفّيها” اهـ.

وقال الشيخ محمد عليش المالكي في شرح مختصر خليل [22] ممزوجًا بالمتن: “وهي –أي العورة- من حرة مع رجل أجنبي مسلم جميع جسدها غير الوجه والكفين ظهرًا وبطنًا، فالوجه والكفان ليسا عورة فيجوز لها كشفهما للأجنبي وله نظرهما إن لم تخش الفتنة، فإن خيفت به فقال ابن مرزوق: مشهور المذهب وجوب سترهما، وقال عياض: لا يجب سترهما ويجب عليه غضّ بصره” اهـ. والراجح عدم اشتراط أمن الفتنة لما في حديث الخثعمية السابق الذكر من أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للعباس: “رأيت غلامًا حَدثًا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان”. فلا حجة في قول بعض المتأخرين ممن ليسوا من أهل الوجوه إنما هم نقلة إن ستر الوجه في هذا الزمن واجب على المرأة دفعًا للفتنى لا لأنه عورة، لأمرين، أحدهما أن هذا القول أي اشتراط أمن الفتنة منها أو عليها لعدم وجوب ستر الوجه كما زعمه بعض الشافعية وهو مذكور في شرح المهذب وشرح روض الطالب وشرح الرملي على منهاج الطالبين، ليس منقولاً عن إمام كالشافعي أو غيره من الأئمة ولا هو منقول عن أصحاب الوجوه في المذهب، وكيفما كان الأمر فالصحيح ما وافق النص. والمراد بالفتنة في هذه المسألة الداعي إلى جماع أو خلوة أو نحوهما كما صرح بذلك زكريا الأنصاري [23].

ويشهد لما قدمنا ما رواه ابن حبان [24] مرفوعًا من حديث ابن عباس قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فكان إذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله في شأنها: {ولقدْ عَلِمنا المُسْتَقدَمينَ مِنكُم ولقد علِمنا المُستَئْخِرينَ} [سورة الحجر/24]، فالشاهد فيه أن الرسول لم يقل لتلك المرأة الحسناء انقبعي في بيتك أو تعالي مغطية وجهك، فلما لم يقل ذلك علمنا أن خوف الفتنة لا يناط به الحكم. ثم الإجماع الذي انعقد على أنه يجوز للمرأة كشف وجهها وعلى الرجال غض البصر لا ينتقض حكمه برأي بعض المتأخرين، وهذا الإجماع قد نقله ابن حجر الهيتمي في حاشية الإيضاح وغيره بعد نقل القاضي عياض لذلك. قد أسفر الصبح لذي عينين.

قال الإمام ابن حبيب أحد كبار المالكية ومن مشاهير متقدميهم من أهل القرن الثاني: “شهدتُ المدينة والجارية بارعة الجمال تخرج سافرة”، والجارية لغة: الفتاة حرة كانت أو أمة، وإذا أريد من دون البلوغ من البنات قيل جارية صغيرة أو جويرية، هكذا عرف الجارية صاحب لسان العرب وصاحب القاموس وغيرهما.

وأما ما في بعض كتب الشافعية ككتاب للشيخ زكريا الأنصاري وشمس الدين الرملي من تحريم خروج المرأة إذا خشيت فتنة منها أو عليها ولو بإذن الولي أو سيد الأمة أو الزوج فهذا لا يقوم عليه دليل، وهو ليس منقولاً ولا أقيم عليه دليل لأن خشية الفتنة كانت في الصدر الأول ومع ذلك ما ورد النص في تحريم الخروج مع خشية الفتنة، فقد روى مسلم في صحيحه وغيره [25] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فما بال أقوام إذا غزونا يتخلف أحدهم عنا له نبيب كنبيب التيس” ففيه دليل على أنه كان في ذلك الزمان أناس يتتبعون النساء للفاحشة، ومع ذلك ما أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بتحريم خروج النساء سافرات الوجوه، ويؤكذ ذلك ما تقدم من قول ابن حبيب المالكي المشهور.

وقد ثبت أيضًا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع في بعض الليالي امرأة تقول: [البسيط]

هل من سبيل إلى خمر فأشربها *** أو من سبيل إلى نصر بن حجاج

فنفى عمر نصرًا خوفًا عليه من فتنة النساء به من فرط جماله، ولم يصدر حكمًا بتحريم خروجه كاشفًا وجهه خشية فتنة النساء به، ففيما قدمنا دلالة ظاهرة على أن افتتان الرجال بالنساء كان موجودًا في ذلك العصر بل والنساء بالرجال أيضًا، وقصة نصر بن حجاج هذه صححها الحافظ ابن حجر وعزاها إلى ابن سعد والخرائطي.

ولا يقال أيضًا إن حديث: “احتجبا منه” خطابًا لزوجتيه حين دخل ابن أم مكتوم دليل على أن وجه المرأة يجب ستره، فإن ذلك مختصّ بأزواج النبي كما قال أبو داود في سننه جمعًا بينه وبين حديث فاطمة بنت قيس، الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: “اعتدّي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده”، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم بين نسائه وبين غيرهنّ، لأنه سمح لفاطمة بنت قيس أن تضع ثيابها عند هذا الأعمى الذي قال للزوجتيه: “احتجبا منه”. قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير [26] ما نصه: “وهذا جمع حسن، وبه جمع المنذري في حواشيه واستحسنه شيخنا” اهـ.

وحديث فاطمة بنت قيس رواه مسلم [27] وغيره، أما حديث “احتجبا منه”، أخرجه أبو داود [28] في سننه، وهو مختلف في صحته كما ذكر الحافظ ابن حجر [29]، فلا يجوز إلغاء حديث فاطمة بنت قيس من أجل حديث: “احتجبا منه”، لأن ذلك مخالف للقاعدة الأصولية والحديثية من أنه إذا تعارض حديثان جُمع بينهما ما أمكن الجمع، والجمع هنا بين الحديثين ممكن بما قررنا. وقد تقرر هذا الحكم عند الأصوليين والمحدثين.

أما الحديث الذي رواه أبو داود [30] أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا” وأشار إلى وجهه وكفّيه، فهو مشهور بين الفقهاء –يعني اصطلاحًا- وإن كان في سنده كلام [31].

قال الفخر الرازي [32] في تفسير قول الله تعالى: {وقُل للمؤمناتِ يَغضُضْنَ مِنْ أبصارهنَّ} [سورة النور/31] إلى ءاخر الآية ما نصه: “اختلفوا في المراد من قوله تعالى: {إلا ما ظهرَ منها} [سورة النور/31]، أما الذين حملوا الزينة على الخلقة، فقال القفّال: معنى الآية إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية، وذلك في النساء الوجه والكفان، وفي الرجل الأطراف من الوجه واليدين والرجلين، فأُمروا بستر ما لا تؤدي الضرورة إلى كشفه ورخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه وأدّت الضرورة إلى إظهاره، إذا كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة، ولما كان ظهور الوجه والكفين كالضروري لا جرَم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة” اهـ، وهذا نقل للإجماع من القفال وإقرار له عليه من الرازي.

وقال النووي في روضة الطالبين [33] ما نصه: “وأما المرأة فإن كانت حرّة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين” اهـ. والكوع: هو طرف الزند الذي يلي الإبهام.

وقال الشيخ زكريا الأنصاري في شرح الروض [34] ممزوجًا بالمتن ما نصه: “[وعورة الحرة في الصلاة وعند الأجنبي] ولو خارجها [جميع بدنها إلا الوجه والكفين] ظهرًا وبطنًا إلى الكوعين” اهـ.

وفي حاشية الرملي على شرح الروض للأنصاري [35] الشافعي ما نصه: “[وقوله: لأنهما مظنة الفتنة –أي الوجه والكفين-] ولأنهما لو كانا عورة لما وجب كشفهما في الإحرام” اهـ.

وفي كتاب البحر المذهب لأبي المحاسن الروياني الشافعي ما نصه [36]: “فرع: يكره للمرأة أن تنقب في الصلاة لأن الوجه من المرأة ليس بعورة فهي كالرجل يكره له أن يصلي متلثمًا” اهـ.

وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ما نثه [37]: “وعورة الحرة ما سوى الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما من رءوس الأصابه إلى الكوعين” اهـ.

وروى ابن حبان في صحيحه [38]: عن سهل بن سعد قال: “كن النساء يؤمرن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة أن لا يرفعن رءوسهن حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من الأرض من ضيق الثياب”.

فيتبين بعدما ذكرنا أن عورة المرأة جميع بدنها سوى وجهها وكفَّيها، وأنه يجوز لها كشف الوجه والكفين، وأن على الرجال غضّ البصر، والأحسن أن تسترهما، والأحسن أن تلبس ما كان أوسع كالجلباب، والكراهية في المذاهب الثلاثة مذهب الشافعي ومالك وأحمد هي الكراهية التنزيهية أي ما لا عقاب على فعله وفي تركه ثواب.

وبما مر من النقول يعلم انتقاض قول بعض المتأخرين من أهل القرن الثاني عشر ونحوه إنه يجب ستر المرأة وجهها لا لأنه عورة بل دفعًا للفتنة.

فائدة: ذكر الفقهاء الذين ألّفوا في قواعد الفقه كالسيوطي، والحافظ أبي سعيد العلائي شيخ الحافظ العراقي وغيره، قاعدة من قواعدهم وهي: “درء المفاسد مُقَدَّمٌ على جلب المصالح”، واحتج بهذه القاعجة بعض المتهورين في هذا العصر لتحريم كشف المرأة وجهها ولم يدر أن جواز الكشف مسئلة إجماعية نقلها القاضي عياض المالكي ونقلها ابن حجر الهيتمي الشافعي عن جمع كما تقدم، فهذا المتهور خالف الإجماع واستدل بالقاعدة في غير محلها، لأن هذه القاعدة ليست كلية بل هي أغلبية كما ذكر ذلك الحافظ أبو سعيد العلائي الشافعي في قواعده الفقهية، على أن ابن حجر قال إن هذه القاعدة لا تنطبق إذا كان هناك مفسدة متَوَهّمَة مع تحقق المصلحة. وهذا الغِرُّ حمل القاعدة على غير وجهها فقال ما قال، فهو وإن كان احتج بما وجد في بعض كتب المتأخرين من الحنفية من أن وجه المرأة ليس عورة ولكن يجب ستره دفعًا للفتنة، فقوله يُردّ بما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يأمر المرأة الخثعمية بتغطية وجهها لما سألته عند الجمرة غداة العيد عن مسئلة في الحج، وكانت شابة وضيئة وكان الفضل خلف النبي فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه حسنها، وجعلت هي تنظر إليه أعجبها حسنه، حيث لم يقل لها اسدلي سترًا على وجهك مع المجافاة من أجل إحرامك مع حصول الفتنة أي من غير أن يلصق الستر بوجهك فإن ذلك جائز للمحرمة. وقد قال العباس للرسول: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك فقال: “لقد رأيت شابًا حَدَثًا وشابةً حَدَثَةً فم ءامن الشيطان عليهما”.

فتبين مما ذكر من الإجماع وهذا الحديث المذكور أنه لا يبنى حكم عام على الأفراد لمجرد أن كثيرًا من الناس تحصل لهم فتنة بالنظر إلى وجه المرأة، إنما يبنى وجوب غض البصر على من يخشى الافتتان ولا يجعل حكمة ساريًا على جميع المكلفين” انتهى كلام الشيخ الهرري.

وأما قولك في كتاب “إلى كل فتاة تؤمن بالله” [ص/37]: “نقل الخطيب الشربيني عن إمام الحرمين من اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجه” اهـ.

قلنا: تقدم الجواب عن ذلك من كلام زكريا الأنصاري وما أوردناه من حاشية الإيضاح فليراجع، فولاة الأمور لهم أن يمنعوا من المكروه للمصلحة ندبًا وليس تحريمًا.

وذكر البوطي في كتاب “إلى كل فتاة تؤمن بالله” [ص/38] أن الإجماع منعقد عند جميع الأئمة أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة بأن كان من حولها من ينظر إليها بشهوة.

الرد: إن قولك بالوجوب هذا مع زعمك أن الإجماع منعقد على ذلك كلام لا أصل له مطلقًا، ونتحداك إن كنت تستطيع أن تقول أين وقع هذا الإجماع بصيغة الوجوب هذه ألا تعلم أنه لا يصح إجماع بعد إجماع، فإذا انعقد إجماع فلا يلتفت إلى دعوى إجماع على خلافه، وهذا الشيخ محمد عليش المالكي مفتي الديار المصرية نقل في شرحه على مختصر خليل كما قدمنا عن عياض أنه لو خيفت الفتنة يجوز لها كشف الوجه والكفين، فأين دعواك الإجماع، عار على من يدعي العلم ويجهل أنه لا يصح إجماع بعد إجماع على خلاف الإجماع الأول,

ثم إنك تعتبر خوف الفتنة بأنّ كان من حولها ينظر إليها وقد تقدم حديث المرأة الخثعمية الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ومالك والدارمي وأحمد وكانت شابة وضيئة –أي جميلة- فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه حسنها وجعلت تنظر إليه أعجبها حسنه فلوى رسول الله عنق الفضل، وعند الترمذي من حديث علي قال العباس: يا رسول الله لِمَ لويت عنق ابن عمك فقال: “رأيت شابًا وشابة فلم ءامن الشيطان عليهما”، قال ابن عباس: وكان ذلك بعد ءاية الحجاب، فهنا يا دكتور تحققت الفتنة ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة الجميلة التي كان ينظر إليها الفضل بإعجاب وكانت تنظر إليه بتغطية وجهها، فهل تعتبر نفسك أحرص على الإسلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.

وروى الطبري والسيوطي والطيالسي وسعيد بن منصور وابن المنذر وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فكان إذا ركع نظر من تحت إبطه فأنزل الله في شأنها: {ولقَدْ عَلِمنا المُسْتَقدِمينَ مِنكُمْ ولقدْ عَلِمنا المُستَئْخِرينَ} [سورة الحجر/24]، وهنا تحققت الفتنة وهم في الصلاة وقد أنزل الله بذلك قرءانًا ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم تلك المرأة بأن تغطي وجهها درءًا للفتنة وسدًّا للذرائع، تلك العبارات الأصولية التي تحاول أن تنشرها كفزّاعة عندما تريد.

وهنا تحقّقت الفتنة في الصلاة وقد أنزل الله بذلك قرءانًا ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم تلك المرأة بأن تغطي وجهها درءًا للفتنة وسدًّا للذرائع.

ثم انظر أيها المطالع إلى تقلب البوطي فبعد ما قال من وجوب تغطية المرأة لوجهها سدًّا للذرائع يقول مجيبًا على سؤال في مجلة طبيبك عدد نيسان 1991: “وبعد، فإنني أقول للسائل مع يقيني بأن كلاً من الحيطة والورع يقتضيان ستر الوجه فإنني أكتفي اليوم من الفتيات المسلمات وأهلهن أن يثبتن في اعتزاز وقوة على تغطية ما عدا الوجه والكفين في كل المجالات وضد كل المحاولات المعاكسة، وأغلب الظن أن الله لن يؤاخذهن عندئذ على تقصيرهن في اتباع الأورع والأحوط” اهـ. ثم انظر إلى ما يقول في كتابه “فقه السيرة” [ص/232]: “وإذا تأملت في حال المسلمين وما عمَّ فيه من الفسق والفجور وسوء التربية والأخلاق علمت أنه لا مجال للقول بجواز كشف المرأة وجهها والحالة هذه” اهـ.

وقال في مسودة الميثاق الذي كنا بصدد كتابته معه: “ثالثًا: نلتزم ونذكر بما هو مجمع عليه عند فقهاء الشريعة الإسلامية، من أن ما عدا الوجه والكفين من المرأة عورة أمام الرجال الأجانب عنها. أما الوجه فقد وقع خلاف بين العلماء في كونه عورة يجب ستره أيضًا أم لا، وذلك تبعًا لاختلافهم في تفسير قول الله تعالى: {إلا ما ظهرَ مِنها}” اهـ.

فانظر أيها المطالع إلى هذين النصين المتناقضين تمامًا للبوطي.

وكذلك يقول البوطي في عدد تشرين الثاني 1994 من مجلة طبيبك ردًّا على سؤال ورَدَهُ: “أولاً: الحجاب الذي يعني ستر ما عدا الوجه والكفين واجب على كل فتاة بلغت سن التكليف” اهـ.

أقول: ما قولك فيما تقدم: “وما عم فيه من الفسق والفجور…” فيه طعن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خير الأمم التي لا تزال يوجد فيها أتقياء وأولياء إلى ءاخر الدهر بدليل حديث البخاري [39] عن معاوية: “لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله”، ولو كانت هذه الأمة في دهر من الدهور يعم الفسق فيها والفجور لما قال رسول الله هذا القول، وقد قال في التنويه بشأن أمته ما رواه أبو داود [40] من حديث أبي هريرة: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، فأنت يا بوطي وصفت هذه الأمة بخلاف ما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه أجلتنا أنصع من ثلوج قمم الجبال، فندعوك للرجوع إلى الحق إن كنت ممن يقبلون النصيحة.

الهوامش:

[1] صريح البيان [ص/270-287]، الطبعة الثالثة.

[2] الفتاوى الكبرى [1/199].

[3] حاشية شرح الإيضاح في مناسك الحج [ص/276].

[4] المرجع السابق [ص/178].

[5] شرحروض الطالب [3/110].

[6] جامع البيان في تفسير القرءان [9/54].

[7] صحيح البخاري: كتاب الحج: باب وجوب الحج وفضله.

[8] صحيح مسلم: كتاب الحج: باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت.

[9] موطأ مالك: كتاب الحج: باب الحج عمن لا يستطيع أن يثبت على الراحلة.

[10] سنن أبي داود: كتاب المناسك: باب الرجل يحج عن غيره.

[11] سنن النسائي: كتاب المناسك: باب حج المرأة عن الرجل.

[12] سنن الدارمي: كتاب المناسك: باب في الحج عن الحي [2/39-40].

[13] مسند أحمد [1/213].

[14] جامع الترمذي: كتاب الحج: باب ما جاء أن عرفة كلها موقف.

[15] أنظر صحيح البخاري، كتاب الاستئذان: باب قول الله تعالى: {يا أيُّها الذينَ ءامنوا لا تدخُلوا بُيوتًا غيرَ بيوتكُمْ} الآية.

[16] فتح الباري [11/10].

[17] أخرده أبو داود في سننه: كتاب المناسك: باب في المحرمة تغطي وجهها.

[18] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [3/284] كتاب الحج: باب في المحرم يغطي وجهه.

[19] تقدم تخريجه.

[20] فتح الباري [4/67-68].

[21] المبسوط [10/153].

[22] منح الجليل شرح مختصر خليل [1/222].

[23] أنظر شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري [3/110].

[24] أنظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [1/309].

[25] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الحدود: باب من اعترف على نفسه بالزنى، والحاكم في المستدرك [4/362].

[26] تلخيص الحبير [3/148].

[27] أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الطلاق: باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، والبيهقي في السنن [7/177-178].

[28] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب اللباس: باب في قوله عز وجل: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}، قال أبو داود: هذا لأزواج النبي خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس غند ابن أم مكتوم؟ قد قال النبي لفاطمة بنت قيس: “اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده”.

[29] فتح الباري [1/550].

[30] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب اللباس: باب فيما تبدي المرأة من زينتها.

[31] نصب الراية [1/299].

[32] التفسير الكبير [23/206-207].

[33] روضة الطالبين [1/283].

[34] أسنى المطالب شرح روض الطالب [1/176].

[35] حاشية الرملي على شرح الروض [1/176].

[36] البحر المذهب كتاب الصلاة [ق/122].

[37] إتحاف السادة المتقين [3/134].

[38] أنظر كتاب الإحسان [3/317].

[39] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي لأمته: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق”.

[40] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الملاحم: باب ما يذكر في القرن المئة.