البوطي يدعي أن الدين لا ينصح بالزواج من الأقارب
قال البوطي في مجلة طبيبك عدد كانون الثاني 1995 ردًّا على سؤال: “لا ينصح الدين ولا العلم بالزواج من الأقارب ذلك لأنه قد تكون داخل الأسرة الواحدة عوامل وراثية كامنة تظهر في وقت ما، فانحصار الزواج داخل دائرة تلك الأسرة أو القرابة يجعل تلك العوامل محصورة فيها وستظهر على الأغلب في بطن ما من بعد، أما إن تلاحقت الأسر المختلفة من بعضها فإن ذلك يصبح فرصة لتبدد تلك العوامب وتغلب كثير من النقائض عليها، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اغتربوا لا تضووا” أي ابحثوا عن الغرباء والغريبات في الزواج كي لا تعرضوا أنفسكم لهُزال أو مرض”.
الرد: إن كلام البوطي هنا لا يمُتُّ إلى الشرع بصلة لعدة اعتبارات منها:
أولاً: الحديث الذي استشهد به ضعيف جدًا ولا تنبني عليه أحكام.
ثانيًا: هل أحد من الأئمة المعتبرين قال بمثل هذا القول أم هو اجتهاد من عنده، فإذا كان الكلام نقلاً من أحد الأئمة فليبرزه، وإلا إن كان اجتهادًا فلا نسلم له بالاجتهاد أصلاً لأنه ليس أهلاً له.
ثالثًا: يستشهد بحديث ضعيف جدًا هذا المدعي للاجتهاد ويغيب عن باله أن النبي عليه الصلاة والسلام زوج ابنته فاطمة من ابن عمه علي، فهل يُستشهد بحديث ضعيف جدًّا أم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي تواتر كتواتر الشمس في جبين الصباح، نترك الجواب لمدعي علم الأصول والفصول.
رابعًا: أن زواج علي وفاطمة رضي الله عنهما جاءت ثمرته دوحة ءال بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الدوحة المباركة التي أورفت بغلالها وظلالها على الدنيا وأنجبت الأئمة والرجال الأبطال العظماء حيث لم يتسنَّ لعائلة أو قبيلة أن تنجب ما أنجبت وهذه العظمة كان من ثمرة زواج حصل بين أقارب.
والمعروف عند الفقهاء كراهة الزواج من ذات قربة قريبة كأن يتزوج الشخص من ابنة عمه مثلاً، أما الإطلاق فهذا قول لم يقل به أحد قط. وأما عبارتك فعامة، وترك التفصيل في مثل هذا المقام يضر ويكون مصادمًا لتزويج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة من علي، فعبارتك تشمل هذا وهي ضارة غير نافعة.
البوطي يعتبر أن الاستغاثة برسول الله سوء أدب مع الله
قال البوطي في كتابه “هذا والدي” [ص/163] يتكلم عن والده: “إذ التوسل خطاب لله ودعاء موجه إليه، أما الاستغاثة فالخطاب فيه موجه إلى رسول الله وصيغه الدعاء موجهة أيضًا إليه وفي ذلك شئ من سوء الأدب مع الله، وصورة تخالف وجوب السؤال من الله وحده. وهو –أي والده- لم يكن يحرم الاستغاثة ولكنه كان يفضل صيغة التوسل عليها” اهـ.
الرد: في كلامه هذا عدة شطحات:
الأولى: أنه يعتبر الاستغاثة بالرسول دعاء موجه إليه وهذا غلط.
الثانية: اعتبر أن الاستغاثة سوء أدب مع الله وهذا غلط.
الثالثة: اعتبر أنه من الواجب سؤال الله وحده وهذا غلط.
الرابعة: اعتبر سؤال غير الله مخالفة لسؤال الله وهذا غلط.
وأما قوله بوجوب السؤال من الله وحده وهذا غلط، وقوله إن والده لم يكن يحرم الاستغاثة فهذا صواب.
أقول: التوسل والاستغاثة مؤدّاها واحد كما قال الحافظ الفقيه اللغوي تقي الدين السبكي، أما البوطي فإنه يفرق بينهما كالوهابية، ثم إن الأدلة على جواز الاستغاثة برسول الله أو غيره من الأولياء كثيرة منها:
ما أخرجه البزار [1] من حديث عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فلينادِ: أعينوا عباد الله”.
قال الهيثمي [2]: “رواه الطبراني ورجاله ثقات”، وحسّنه الحافظ ابن حجر في اماليه مرفوعًا –أي أنه من قول الرسول- وأخرجه الحافظ البيهقي [3] موقوفًا على ابن عباس بلفظ: “إن لله عز وجل ملائكة سوى الحَفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فلينادٍ: أعينوا عباد الله يرحمكم الله تعالى”. والرواية الأولى تقوي ما ورد بمعناها من بعض الروايات التي في إسنادها ضعف، وقد تقرر عند علماء الحديث أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال والدعوات والتفسير، كما ذكر الحافظ البيهقي في المدخل.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه [4]: “وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: “إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم” اهـ.
وروى البيهقي [5] أيضًا بإسناد صحيح عن مالك الدار –وكان خازن عمر- قال: “أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسقِ لامتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: ءايت عمر فأقرئه مني السلام وأخبره أنهم يسقون وقل له: عليك بالكيس الكيس، فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: “يا ربّ ما ءالوا إلا ما عجزت” اهـ. وهذا الرجل هو بلال بن الحارث المزني الصحابي، فهذا الصحابي قد قصد قبر الرسول للتبرك فلم ينكر عليه عمر ولا غيره.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري [6] ما نصه: “وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمّان عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأُتي الرجل في المنام فقيل له: ائتِ عمر… الحديث. وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة” اهـ.
وقال ابن كثير [7] ما نصه: “وقد روينا أن ابن عمر عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحدًا يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم يرَ سائلاً يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إنّ السُّؤَّال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال، والنّاس في همّ وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون. فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه لامّة محمد، وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن يا غوثاه لأمة محمد، فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البُرّ وسائر الأطعمات، ووصلت ميرة عمرة في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة. وهذا الأثر جيّد الإسناد” اهـ. وهذا فيه الرد على ابن تيمية لقوله إنه لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر، فهذا عمر بن الخطاب استغاث بأبي موسى وعمرو بن العاص وهما غائبان.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا: حدّثنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجلٌ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: “ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبرهم أنهم مُسقون وقل له: عليك بالكيس الكيس”، فاتى الرجل فأخبر عمر فقال: “يا رب ما ءالوا إلا ما عجزت عنه”. هذا إسناد صحيح” اهـ. وهذا إقرار بصحة هذا الحديث من الحافظ ابن كثير.
وفي فتاوى شمس الدين الرملي [8] ما نصه: “سئل عمّا يقع من العامّةى من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان، يا رسول الله، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثةٌ بعد موتهم؟ وماذا يرجّح ذلك؟
فأجاب: بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم، لان معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبروهم يصلون ويحجّون كما وردت به الأخبار، وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم، وأما الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم” اهـ.، قوله: “ويحجون” لم يثبت في السنة.
فإن قيل: أليس في حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي [9]: “إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله” ما يدلّ على عدم جواز التوسل بغير الله؟
فالجواب: أن هذا ليس فيه معارضة ما ذكرنا إذ أن المتوسل يسأل الله، والحديث ليس معناه لا تسأل غير الله ولا تستعن بغير الله، إنما معناه أن الأولى بأن يُسأل ويُستعان به هو الله تعالى، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقيّ” رواه ابن حبان [10]، فكما لا يفهم من هذا الحديث عدم جواز صحبة غير المؤمن وعدم جواز إطعام غير التقيّ وإنما يفهم منه أن الأولى بالصحبة المؤمن وبالإطعام التقي، كذلك حديث ابن عباس لا يفهم منه إلا الأولوية، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لا تسأل غير الله ولا تستعن بغير الله، أليس هناك فرق بين أن يُقال: لا تسأل غير الله وبين أن يُقال: إذا سألت فاسأل الله،؟ ويفهم من هذا الاستدلال فساد قول البوطي بوجوب أن لا تسأل غير الله مُطلقًا ذلك.
الهوامش:
[1] كشف الأستار عن زوائد البزار [4/34].
[2] مجمع الزوائد [10/132].
[3] شعب الإيمان [1/445].
[4] فتح الباري [11/438].
[5] أنظر البداية والنهاية [7/91-92].
[6] فتح الباري شرح صحيح البخاري [2/495-496].
[7] البداية والنهاية [7/90].
[8] فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي [4/382].
[9] جامع الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: باب [59]. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[10] صحيح ابن حبان: كتاب البر والإحسان: باب الصحبة والمجالسة، أنظر الإحسان [1/383 و385].
فائدة في بيان جواز نداء النبي بعد وفاته
روى البخاري في كتابه الأدب المفرد جواز نداء النبي بعد موته بيا محمد وذلك خلاف معتقد الوهابية فإنه عندهم شرك، وأورده أيضًا ابن السني في كتابه عمل اليوم والليلة [1]، ونص البخاري في كتابه المذكور:
“باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن سعد قال: خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل: اذكر احب الناس إليك؟ فقال: يا محمد” اهـ. وأورده ابن تيمية في كتابه المشهور الكلم الطيب [2] ونص عبارته:
“فصل في الرجل إذا خدرت رجله
عن الهيثم بن حنش قال: كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: يا محمد فكأنما نشط من عقال” اهـ.
وذكره الحافظ شيخ القرّاء ابن الجزري في كتابيه: الحصن الحصين وعدة الحصن الحصين، وذكره الشوكاني أيضًا في كتابه “تحفة الذاكرين] [3] وهو غير مطعون به عندهم، ورواه أيضًا ابن الجعد [4].
وهذا الذي حصل من عبد الله بن عمر استغاثة برسول الله بلفظ يا محمد، وذلك عند الوهابية كفر أي الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم، فماذا تفعل الوهابية أيرجعون عن رأيهم من تكفير من ينادي يا محمد أم يتبرءون من ابن تيمية في هذه القضية وهو الملقب عندهم شيخ الإسلام، فيا لها من فضيحة عليهم وهو إمامهم الذي أخذ منه ابن عبد الوهاب بعض أفكاره التي خالف بها المسلمين، وهم في هذه المسئلة على موجب عقيدتهم يكونون كفّروا ابن تيمية لأنه استحسن ما هو شرك عندهم.
ولو قال أحدهم: ابن تيمية رواه من طريق راوٍ مختلف فيه، يقال لهم: مجرد إيراده لهذا في هذا الكتاب دليل على أنه استحسنه وذلك لأنه سمى كتابه “الكلم الطيب” معناه كل ما فيه كلام حسن. ثم إن الذي يورد أمرًا في كتابه ولا يحذّر منه فهو داعٍ إلى ذلك الشيء، ومحاولة الألباني لتضعيف هذا الأثر لا عبرة بها، لأن الألباني محروم من الحفظ الذي هو شرط التصحيح والتضعيف عند أهل الحديث وقد اعترف في بعض المجالس بأنه ليس محدّث حفظ بل قال: أما محدّث كتاب، وذلك بعد أن سأله محام سوري: يا أستاذ أنت محدث، فقال: نعم، فقال له: أتسرد لي عشرة أحاديث بأسانيدها، فأجابه الألباني: لا، أنا محدث كتاب، فأجابه المحامي: إذن أنا أستطيع أن أفعل ذلك. فخجّله، فليعلم هو ومقلدوه أن تصحيحهم وتضعيفهم لغو في قانون أهل الحديث ولا اعتبار له، فليتوبوا إلى الله، فإن كان الرياء ساقهم إلى ذلك فالرياء من الكبائر.
وأخيرًا: فهل تعتبر يا بوطي أن ابن عمر قد اساء بحق الله لما قال يا محمد…؟؟؟ أم أنك تريد مداهنة الوهابية؟
الهوامش:
[1] أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة [ص/72-73].
[2] الكلم الطيب [ص/73].
[3] تحفة الذاكرين [ص/267].
[4] مسند ابن الجعد [ص/369].
