البوطي يرى أن أي امرأة خرجت متعطرة قصدت التعرض للرجال أو لم تقصد فعليها إثم ووزر كبير

البوطي يرى أن أي امرأة خرجت متعطرة قصدت التعرض للرجال أو لم تقصد فعليها إثم ووزر كبير

وقع في يدنا شريك مسجل بصوت البوطي زعم فيه أن المرأة إذا خرجت من بيتها متعطرة ليس بقصد فتنة الرجال فعليها إثم ووزر كبير، وقد كان أكبر احتجاجه بالحديث الذي رواه ابن حبان وغيره: “أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية”، وسرد كلامًا لا يستند على حجة ولا دليل شرعي، وزعم أن اللام في قوله: “ليجدوا” هي لام العاقبة وليست لام التعليل، وذكر في أثناء كلامه شيئًا من القبائح والشتائم والافتراءات في حق العلامة الشيخ عبد الله الحبشي الهرري وأتباعه فأتى ببهتان عظيم، والله حسيبه.

الرد: نقول: وجوابنا عن توهماتك هو بالعلم والدليل وليس بالأراجيف والأكاذيب، قال العلامة الشيخ المحدث الفقيه عبد الله الهرري ما نصه [1]: “اعلم أن خروج المرأة متزينة أو متعطرة مع ستر العورة مكروه تنزيهًا دون الحرام، ويكون حرامًا إذا قصدت المرأة بذلك التعرّض للرجال، أي إذا قصدت فتنتهم.

روى ابن حبان [2] والحاكم [3]، والنسائي [4] والبيهقي [5] في باب ما يكره للنساء من الطيب، وأبو داود [6] عن أبي موسى الأشعري مرفةعًا: “أيما ارمأة استعطرت فمرّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية”.

وأخرج الترمذي [7] في باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطّرة من حديث أبي موسى الأشعري أيضًا مرفوعًا: “كل عين زانيةٌ، والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا” يعني زانية. اهـ.

فهذه الرواية الأخيرة مطلقة، ورواية: “ليجدوا ريحها” مقيّدة، ومخرج الكل واحد، فيحمل المطلق على المقيّد عملاً بالقاعدة التي جرى عليها الجمهور من حمل المطلق على المقيّد تحاشيًا لما يترتب على العكس من الخروج عن إجماع الأئمة، فإنه لم يقل أحد منهم بحرمة خروج المرأة متطيّبة على الإطلاق، وهذا الحمل موافق لحديث عائشة الذي رواه أبو داود [8] في سننه أنها قالت: “كنّا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمّخ جباهنا بالمسك المطيب للإحرام، فإذا عرقت إحدانا سالَ على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا”. والرسول ونساؤه كانوا يُحرِمُون بذي الحليفة وهي على بضعة أميال من المدينة” انتهى كلام الشيخ الهرري.

فبالله يا بوطي ماذا تقول في هذا، نساءُ النبي يتعطرن بالمسك للإحرام ويخرجن فيسيل على وجوههن وأفضل الخلق لا ينهاهن، فأين أنت من هذا، أين قولك إذا تعطرت المرأة وخرجت كانت ءاثمة قصدت التعرض أو لم تقصد، فأنت بكلامك هذا جعلت نساء النبي عاصيات والرسول ساكتًا على المنكر.

ثم قال الشيخ الهرري: “والحديث الأول رواه النسائي، والبيهقي في باب ما يكره للنساء من الطيب لأنه لم يفهما منه تحريم خروج المرأة متعطرة إلا الكراهة التنزيهية، لأن الكراهة إذا أُطلقت فيُراد بها عند الشافعيين الكراهة التنزيهية كما ذكر ذلك الشيخ أحمد بن رسلان [9] الشافعي قال:

وفاعلُ المكروه لم يُعَذَّبِ *** بل إن يكُفّ لامتثالٍ يُثَبِ

ومن المعلوم أن البيهقي كان شافعيَّ المذهب، ومثل الشافعية الحنابلة والمالكية فإنهم يريدون بالكراهة عند إطلاقها الكراهة التنزيهية، أما الحنفية فيريدون بها غالبًا ما يأثم فاعله.

فالقائل بحرمة خروج المرأة متعطّرة على الإطلاق ماذا يفعل بهذا الحديث، وهو صحيح لم يضعّفه أحد من الحفّاظ، ولا عبرة بمّن ليس له مرتبة الحفظ كما هو مقرر في كتب المصطلح.

وأمّا حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن خزيمة [10] وفيه أنه مرّت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها: “أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: تطيبتِ لذلك؟ قال: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل” فلم يصحّحه أحد من الحفاظ، وإن ابن خزيمة الذي أخرجه قال فيه: “إن صح الخبر”، بالمعنى الشامل للصحيح والحسن لأنه لا يفرق بين الحسن والصحيح. أما قول ابن حجر الهيتمي بعد قول ابن خزيمة إن صح الخبر “أي إن صح هذا الحديث وقد  صحّ” فلا حجة فيه لأنه لم ينقل هذا التصحيح عن حافظ معتبر كابن حجر العسقلاني، فلا يجوز الخروج عن ظواهر تلك الأحاديث أي إلغاء العمل بها كحديث عائشة الذي سبق ذكره والذي هو أقوى إسنادًا من حديث أبي هريرة من أجل هذا الحديث الذي لم يصححه مخَرّجه ابن خزيمة، بل يجمع بينهما فيقال: لو صح هذا الحديث فليس فيه تحريم خروجها متعطّرة، وإنما فيه أن صلاتها في هذه الحال في المسجد لا تكون مقبولة، ومن المعلوم أن كثيرًا من الكراهات تمنع القبول أي الثواب مع كون العمل جائزًا وانتفاء المعصية، مثال ذلك ترك الخشوع في الصلاة فإن الصلاة تصحّ بدون الخشوع مع عدم المعصية والقبول، أي لا ثواب فيها، ونظير هذا الحديث حديث ابن عباس رفعه: “من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر”، قالوا: وما العذر؟ قال: “خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى”. رواه أبو داود [11] والحاكم [12] والبيهقي [13] وغيرهم. وجه الاستدلال بالحديث أنه كما لا يفهم منه أن كل إنسان يتخلف عن الحضور إلى الجماعة حيث ينادى بالأذان وصلى في بيته يكون عاصيًا، كذلك لا يقصد بحديث أبي هريرة أن التي خرجت متطيبة إلى المسجد تكون عاصية بمجرد خروجها، إنما يُفهم منه أن ذهابها إلى المسجد مكروه كما أن الذي لم يذهب إلى موضع الأذان يكون بترك حضوره الجماعة حيث الأذان ينادى به قد فعل فعلاً مكروهًا. على أن حديث أبي هريرة هذا ليس في مطلق التطيّب بل في شدة رائحة الطيب لأن هذا معنى العصف كما هو معروف في اللغة، ومن ظن أنه لمطلق ريح الطيب فهذا جهل منه باللغة.

وأما حديث: “لا تمنعوا إماء الله ولكن ليخرجن تفلات”، [14] فلا يفيد إلا الكراهة التنزيهية لمن تذهب إلى المسجد وهي متطيّبة.

وأمّا دعوى بعض أنه في النسائي رواية: “فمرّت بقوم فوجدوا ريحها” فهو غير صحيح، إذ لا وجود لهذه الرواية في النسائي.

ولينظر إلى رواه ابن أبي شيبة [15] عن محمد بن المنكدر قال: “زارت أسماء أختها عائشة والزبير غائب فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فوجد ريح طيب فقال: “ما على المرأة أن تطيّب وزوجها غائب”، فلو كان ذلك حرامًا لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن مفلح المقدسي الحنبلي في الآداب الشرعية ما نصه [16]: “ويحرم خروج المرأة من بيت زوجها بلا إذنه إلا لضرورة أو واجب شرعي”، إلى أن قال: “ويكره تطيبها لحضور مسجد أو غيره” اهـ.

فيعلم مما تقدم أن ما جاء في الحديث لا يحرّم خروج المرأة متعطّرة على الإطلاق، وإنما يحرمه إذا قصدت التعرّض للرجال.

فإن قيل: إن اللام التي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فمرّت بقوم ليجدوا ريحها” هي لام العاقبة وليست لام التعليل.

فالجواب: أن هذا لا يصحّ لوجوه منها:

الأول: أن لام العاقبة هي التي يكون ما بعدها نقيضًا لمقتضى ما قبلها [17]، كالتي في قوله تعالى: {فالتَقَطَهُ ءالُ فرعونَ ليكُونَ لهُمْ عَدُوًّا وحَزَنًا} [سورة القصص/9]، أي فكانت العاقبة أن كان سيدنا موسى عليه السلام عدوًا لهم وحزنًا، فهذه اللام ما بعدها مناقض لمقتضى ما قبلها، لأن ءال فرعون إنما التقطوا سيدنا موسى من اليمّ ليكون لهم عونًا وينصرهم، ولكن العاقبة هي أنه كان عدوًا لهم وحزنًا، وهذا لا يصحّ في هذا الحديث لأن ظهور ريح الطيب ليس مناقضًا لخروج المرأة متعطرة.

الثاني: أن اللام لا تكون للعاقبة إلا بطريق المجاز كما قال الإمام ابن السمعاني أحد مشاهير الأصوليين، والمجاز لا بدّ له من دليل لا يصار إليه إلا لأجله، ولا دليل هنا للمجاز إلا التعصّب للرأي على طريق التحكّم كما قال الإمام ابن السمعاني أحد مشاهير الأصوليين، نقل ذلك عنه الزركشي في بحث معاني الحروف في تشنيف المسامع.

الثالث: أن هذا فيه إبطال الحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة الذي فيه أن نساء النبيّ كنّ يضمخن جباههنّ بالمسك للإحرام، وقد تقدّم ذكره.

ويَرِدُ على كلام المؤولين لحديث “ليجدوا” بأنه لام العاقبة أن شم الرجال ريحها قد لا يحصل لكونها تمر بعيدة من الرجال بحيث لا يصل ريحها إليهم فيؤدي كلامهم أن يكون هذا جائزًا، فهل يقولون بذلك أي أنها إذا خرجت بحيث لم يجد الرجال ريحها فهو جائز.

فواضح أن هذه اللام هي لام التعليل كما فهم ذلك ابن رشد القرطبي من كلام الإمام مالك كما سيأتي.

وروى البيهقي [18] في سننه أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلّى ركعتين لم يصلّ قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهنّ بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خُرصها وسخابها. قال البيهقي: “رواه البخاري في الصحيح [19] عن أبي الوليد وأخرجه مسلم [20] عن شُعبة” اهـ. فهذا الحديث فيه أن هؤلاء النسوة خرجن يوم العيد وهنّ لابسات السخاب، وهو نوع من الطيب فلم ينكر عليهنّ، والخُرصُ هو حلقة الذهب والفضة كما في القاموس في مادة: [خ ر ص]، والسّخاب قال صاحب القاموس: “قلادة من سُكٍّ وقرنفل ومحلب بلا جوهر”. وهذا من أدلّة جواز خروج المرأة متزينة أيضًا.

يقول القرطبي [21] عند تفسير قوله تعالى: {وقُلْ للمؤمِناتِ يَغضِضْنَ مِنْ أبصارِهِنَّ} [سورة النور/31] مبيّنًا الأقوال التي وردت في تفسيرها ما نصه: “الثالثة: أمَر الله سبحانه وتعالى النساء بأن لا يبدين زينتهنّ للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حِذارًا من الافتتان. ثم استثنى ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد ابن جبير: الوجه، وقال سعيد بن جبير أيضًا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب، وقال ابن عباس وقتادة والمِسوَر بن مَخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسّوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخُ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس.

الرابعة: الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية: وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع وطرق العلوم، وأما الزينة المكتسبة: فهي ما تحاوله المرأة من تحسين خلقتها كالثياب والحليّ والكحل والخضاب” اهـ.

ثم قال: “الخامسة: من الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبدًا لكل الناس من المحارم والأجانب” اهـ.

وفي البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي [22] عند تفسير قوله تعالى: {وقُل للمؤمناتِ يَغضُضْنَ مِنْ أبصارهنّ} [سورة النور/31] إلى ءاخر الآية ما نصه: “ثم قال:: {ولا يُبدينَ زينَتهُنَّ} [سورة النور/31] واستثنى ما ظهر من الزينة، والزينة ما تتزيّن به المرأة من حليّ أو كحل أو خِضاب، فما كان ظاهرًا منها كالخاتم والفتَخَة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه  للأجانب، وما خفي منها كالسوار والخلخال والدُّملج والقلادة والإكليلوالوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثني، وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصوّن والتستر، لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحلّ النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان” اهـ.

ثم قال: “وسُومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهنّ، وهذا معنى قوله: {إلا ما ظهرَ منها} [سورة النور/31] يعني إلا ما جرت العاجة والجِبلَّةُ على ظهوره والأصل فيه الظهور” اهـ.

وفي كتاب البيان والتحصيل [23] ما نصه: “وسئل مالك عما يكون في أرجُل النساء من الخلاخل، قال: ما هذا الذي جاء فيه الحديث، وتركهُ أحَبُّ إلي من غير تحريم له، قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة والله أعلم أنّ مالكًا إنما سُئل عما يجعله النساء في أرجلهنَّ من الخلاخل وهنَّ إذا مشين بها سُمعت قعقعتها فرأى ترك ذلك أحبَّ إليه من غير تحريم، لأن الذي يحرم عليهن إنما هو ما جاء النهيُ فيه من أنْ يقصدْنَ إلى إسماع ذلك وإظهاره من زينتهن لمن يخطرن عليه من الرجال: قال الله تعالى: {ولا يضْرِبْنَ بأرجُلهنَّ ليُعلَمَ ما يُخفينَ من زينتهنَّ} [سورة النور/31] ومن هذا المعنى ما رُوي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أيُّما امرأةٍ استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية” لعدم حرمة خروجها متعطرة إلا إذا كانت نيتها التعرض للرجال” اهـ.

وقال النووي في المجموع [24] ما نصه: “فرع: إذا أرادت المرأة حضور المسجد كره لها أن تمسّ طيبًا وكره أيضًا الثياب الفاخرة” اهـ.

وفي كتاب نهاية المحتاج [25] لشمس الدين الرملي المشهور بالشافعي الصغير ما نصه: “أما المرأة فيكره لها لها الطيب والزينة وفاخر الثياب عند إرادتها حضورها” اهـ. أي الجماعة.

وقال زكريا الأنصاري الشافعي في كتاب أسنى المطالب [26] ممزوجًا بالمتن: “[ويستحب] الحضور [للعجائز] والأولى لغير ذوات الهيئات بإذن أزواجهنّ، وعليه يحمل خبر الصحيحين عن أم عطية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيّض في العيد، فأما الحيّض فكنّ يعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، والعواتق جمع عاتق وهي البنت التي بلغت، والخدور جمع خدر وهو الستر، [مبتذلات] أي لابسات ثياب بِذْلة وهي ما يُلبس حال الخدمة لأنها اللائقة بهنّ في هذا المحل، [ويتنظفن بالماء فقط] يعني من غير طيب ولا زينة فيكره لهنّ ذلك لما مرّ في الجمعة، [ويكره لذوات الهيئات والجمال] الحضور كما مرّ في صلاة الجماعة فيصلّين في بيوتهنّ، ولا بأس بجماعتهنّ لكن لا يخطبن فإن وعظتهنّ واحدة فلا بأس” اهـ.

وقال زكريا الأنصاري في موضع ءاخر [27] منه ما نصه: “فرع: يستحب للمزوجة وغيرها عجوزًا أو شابة مسح وجهها بالحناء للإحرام وخضب كفيها به له لتستر به ما يبرز منها، لأنها تؤمر بكشف الوجه وقد ينكشف الكفّان، ولأن الحناء من زينتها فندب قبل الإحرام كالطيب. وروى الدارقطني عن ابن عمر أن ذلك من السنّة تعميمًا للكفين لا نقشًا وتسويدًا وتطريفًا فلا يُستحب شيء منها لما فيه من الزينة وإزالة الشعث المأمور به في الإحرام، بل إن كانت خَلية أو لم يأذن لها حليلها حرم وإلا فلا كما مرّ في شروط الصلاة، ويكره لها الخضب بعد الإحرام لما مرّ ءانفًا، وفي باقي الأحوال أي وفي الإحرام يستحب للمزوجة لأنه زينة وهي مطلوبة منها لزوجها كل وقت كما مرّ في شروط الصلاة ويكره لغيرها بلا عذر لخوف الفتنة” اهـ.

وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف [28] ما نصه: “وأباح ابن الجوزي النمص وحده، وحمل النهي على التدليس أو أنه من شعار الفاجرات، وفي الغُنية وجه، يجوز النمص بطلب الزوج، ولها حلقه –أي للمرأة حلق وجهها- وحفه نصّ عليهما، وتحسينه بتحمير ونحوه” اهـ.

وانظر إلى ما قال النووي في كتاب المجموع [29] ففيه ما نصه: “وأما ذوات الهيئات وهن اللاتي يشتهين لجمالهنّ فيكره حضورهنّ –أي إلى محل صلاة العيد-، هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع الجمهور، وحكى الرافعي وجهًا أنه لا يستحب لهنّ الخروج بحال والصواب الأول، وإذا خرجن استحبّ خروجهنّ في ثياب بذلة ولا يلبسن ما يشهرهنّ، ويستحب أن يتنظفن بالماء ويُكره لهنّ التطيّب لما ذكرناه في باب صلاة الجماعة، هذا كله حكم العجائز اللاتي لا يشتهين ونحوهنّ، فأما الشابة وذات الجمال ومَن تُشتهى فيُكره لهنّ الحضور لما في ذلك من خوف الفتنة عليهنّ وبهنّ” اهـ.

وفي الإيضاح للنووي [30] عند ذكر أنه يسنّ التطيّب للإحرام ما نصه: “وسواء فيما ذكرناه من الطيب الرجل والمرأة” اهـ.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري [31] ما نصه: “قوله: [ولبست عائشة الثياب المعصفرة وهي مُحرمة] وصله سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال: كانت عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي مُحرِمة” إسناده صحيح. وأخرجه البيهقي من طريق ابن أبي مُليكة: “ان عائشة كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف وهي محرمة”، وأجاز الجمهور لبس المعصفر للمحرم. وعن أبي حنيفة: العصفر طيب وفيه الفدية، واحتج بأن عمر كان ينهى عن الثياب المصبغة، وتعقبه ابن المنذر بأن عمر كره ذلك لئلا يقتدي به الجاهل فيظن جواز لبس المورّس والمزعفر، ثم ساق له قصة مع طلحة فيها بيان ذلك. قوله [وقالت] أي عائشة [لا تلثّم] بمثناة واحدة وتشديد المثلثة: وهو على حذف إحدى التاءين، وفي رواية أي ذر تلتثم بسكون اللام وزيادة مثناة بعدها أي لا تغطي شفتها بثوب، وقد وصله البيهقي، وسقط من رواية الحموي من الأصل، وقال سعيد بن منصور “حدثنا هُشيم، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: “تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها”، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن وعطاء قالا: “لا تلبس المحرمة القفازين والسراويل ولا تَبَرْقَعُ ولا تَلَثَّمُ، وتلبس ما شاءت إلا ثوبًا ينفض عليها ورسًا أو زعفرانًا” وهذا يشبه ما ذكر في الأصل عن عاشئة. قوله [وقال جابر] أي ابن عبد الله الصحابي.

قوله [لا أرى المعصفر طيبًا] أي تطيبًا، وثله الشافعي ومسدد بلفظ “لا تلبس المرأة ثياب الطيب ولا أرى المعصفر طيبًا” وقد تقدّم الخلاف في ذلك. قوله [ولم تر عائشة بأسًا بالحلي والثوب الأسود والمورد والخف للمرأة] وصله البيهقي من طريق ابن باباه المكي أن امرأة سألت عائشة: ما تلبس المرأة في إحرامها؟ قالت عائشة: تلبس من خزها وبزها وأصباغها وحليها. وأما المورّد والمراد ما صبغ على لون الورد فسيأتي موصولاً في باب طواف النساء في ءاخر حديث عطاء عن عائشة، وأما الخف فوصله ابن أبي شيبة عن ابن عمر والقاسم بن محمد والحسن وغيرهم، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخِفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها غتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت: “كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر” تعني جدتها قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً كما جاء على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزنا رفعناه” انتهى. وهذا الحديث أخرجه هو من طريق مجاهد عنها وفي إسناده ضعف” اهـ.

وقال سيف الدين أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي القفال في كتاب حلية العلماء [32] ما نصه: “منصوص الشافعي رحمه الله في عامة كتبه أن حكم المرأة في استحباب التطيّب للإحرام كحكم الرجل” اهـ. ثم قال: “وحكي الداركي أن الشافعي رحمه الله قال في بعض كتبه: “إنه لا يستحب للمرأة أن تتطيّب للإحرام فإن فعلت ذلك كان جائزًا كحضور الجماعة” والأول أصح. اهـ. ومراده بالأول أن استحباب التطيّب للمرأة للإحرام هو الأصح. ويستدل بكلام الشافعي رضي الله عنه على جواز تطيّب المرأة لحضور الجماعة، ولم يجعل جواز التطيب خاصًا بالمحرمة بل جعله مطلقًا للمحرمة ولمن تريد حضور الجماعة ولم يقيّد الجواز بالمحرمة، ومن ادّعى التقييد فليأتِ بنص عن مجتهد فيه جواز التطيب للنساء بحال الإحرام وتحريمه في غيره.

وقال الشاشي في الحلية [33] أيضًا ما نصه: “شعرها بشعر نجس، فأما إن وصلته بشعر طاهر أو حمّرت وجهها أو سوّدت شعرها أو طرفت أناملها –أي استعملت الحناء لأطراف الأصابع- ولها زوج لم يكره وإن لم يكن لها زوج كره لما فيه من الغرور” اهـ.

وقال إمام المالكية في عصره أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحَطاب في كتاب مواهب الجليل [34] ما نصه: “فرع: قال ابن القطّان: ولها أن تتزين للناظرين –أي للخطبة- بل لو قيل بأنه مندوب ما كان بعيدًا، ولو قيل إنه يجوز لها التعرض لمن يخطبها إذا سَلِمَت نيّتها في قصد النكاح لم يبعد” انتهى.

وقال الشيخ منصور البُهوتي الحنبلي في كتاب كشاف القناع [35] ممزوجُا بالمتن ما نصه: “ولها أي المرأة حلق الوجه وحفّه نصًّا، والمحرّم إنما هو نتف شعر وجهها، قاله في الحاشية، ولها تحسينه وتحميره ونحوه من كل ما فيه تزيين له، ويكره حفه أي الوجه لرجل، نص عليه، وكذا التحذيف وهو إرسال الشعر الذي بين العِذار والنَّزَعَة يكره للرجل لأن عليًّا كرهه رواه الخلال، لا لها أي لا يكره التحذيف لها لأنه من زينتها، ويكره النقش والتكتيب والتطريف وهو الذي يكون في رءوس الأصابع وهو القموع رواه المروذي عن عمر، وبمعناه عن عائشة وأنس وغيرهما بل تغمس يدها في الخضاب غمسًا نصًّا” اهـ. وقوله نصًّا يعني نص الإمام أحمد على ذلك.

وفي الفتاوى البزّاوية [36] الحنفية ما نصه: “له والدة شابة تخرج بالزينة إلى الوليمة والمأتم بلا إذنه ولها زوج، لا يتمكن من منعها ما لم يثبت عنده أنها تخرج للفساد فإن ثبت رفع الأمر إلى القاضي ليمنعها” اهـ. وهذا نص صريح عند الحنفية على جواز خروج الشابة متزيّنة ما لم تخرج للفساد. وهذه نصوص من المذاهب الأربعة فبعد هذا لا وجه للإنكار.

تتمة: التبس الأمر على بعض الناس فظنوا أن هذه الآية: {ولا يُبدينَ زينتهُنَّ إلا لِبُعُولِهِنَّ} [سورة النور/31] إلى ءاخر الآية، يراد بها تحريمُ الزينة على النساء في غير حضرة الزوج والمحارم النساء، متوهمين أن الزينة هي الزينة الظاهرة باللباس والحليّ فقد وضعوا الآية في غير موضعها، والأمر الصحيح أن المراد بالآية كشف الزينة الباطنة من الجسد وهو ما سوى الوجه والكفين، والقدمين عند بعض الأئمة، بخلاف الزينة المستثناة في ءاية: {إلا ما ظهر منها} فإن الله تعالى أباح كشف الوجه للحرة وغيرها لحاجة الخلق إلى ذلك، والحاصل أن الزينة في الموضعين بدن المرأة.

فائدة: قد مرّ في هذا المبحث أن ذكرنا أنّ حديث أبي موسى: “أيما امرأة خرجت مستعطرة فمرّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية” صحيح لم يختلف فيه، وذكرنا حديث أبي هريرة أنه لقي امرأة يعصف ريحها طيبًا فقال: إلى أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: وتطيبت لذلك؟ قالت: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا خرجت المرأة متطيبة إلى المسجد لم تقبل صلاتها”.

نقول: لا يصح أن يكون هذا الحديث معارضًا لحديث أبي موسى، فلا يصح أن يكون دليلاً لتحريم خروج المرأة متعطرة مطلقًا من غير تقييد بحالة قصدها التعرّض للرجال كما هو مُفاد حديث أبي موسى، لأن مخرّجه ابن خزيمة توقف عن تصحيحه لقوله: “إن صح الخبر”، وعلى فرض صحته لا دليل فيه على أنها تكون عاصية بخروجها متطيبة لو لم تقصد التعرض للرجال، لأنه لا يلزم من نفي قبول صلاتها حرمة تطيبها على الإطلاق قصدت بخروجها التعرض للرجال أو لا، وذلك نظير حديث أبي داود الطيالسي [37] الذي رواه جرير بن عبد الله البَجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “العبد الآبق لا تقبل له صلاة حتى يرجع إلى مواليه” فإنه ليس فيه دلالة على أن عدم قبول صلاته هو دليل حرمة إباقه، وإنما حرمة إباقه أخذ من دليل ءاخر، فعدم قبول صلاة المرأة المتطيبة لذهابها إلى المسجد مثل عدم قبول صلاة هذا العبد الآبق فلا يفهم منه أن عدم قبول صلاتها في هذه الحالة هو مستلزم لحرمة خروجها متطيبة في غير حالة قصدها التعرّض للرجال، فلا يجوز إطلاق القول بأن خروج المرأة متطيبة حرام مطلقًا اعتمادًا على هذا الحديث. وهناك دليل ءاخر من الحديث وهو: “ثلاثة لا ترفع صلواتهم فوق رءوسهم شبرًا: امرأة باتت وزوجها ساخط عليها، وعبد ءابق، ورجل أمّ قومًا وهم له كارهون” أخرجه الترمذي وابن حبان بنحوه وصححه [38]. فإنه لا دلالة فيه على أن الذي أمّ قومًا وهم له كارهون عاصٍ بإمامته للقوم بل فيه أن إمامته مكروهة لا ثواب فيها كما نص على ذلك الشافعية، فمن أين لهؤلاء أن يتسلموا منصبًا ليس لهم ويجتهدوا وهم أبعد الناس عن منصب الاجتهاد، وغاية أمرهم أن يتعلموا ما قاله الفقهاء ويعملوا به، لكنهم تجاوزوا طورهم وهم يعيشون في فوضى كما قال الأفوه الأودي:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ومما يشهد لما ذكرنا حديث: “من سمع النداء فلم يُجِبْ فلا صلاة له، إلا من عُذرٍ” رواه ابن حبان [39] وصححه فإنه لا يفيد العصيان بترك الحضور إلى محل النداء في جميع الحالات، وإنما يكون ذلك فيما إذا كان تخلف عن الجمعة التي هي فرض عين أو عن غير الجمعة إذا كان يحصل بتخلفه فقدان شعار الجماعة.

فتبين بهذا أن القول بأن لام: “ليجدوا ريحها” المذكورة في حديث أبي موسى لام العاقبة كلامٌ بعيد عن الصواب، كيف يتجرأ طالب الحق بعد أن يعلم أن مذهب الشافعي أن التطيّب للذكر والأنثى للإحرام سنّة وبعد أن سمع حديث عائشة: “كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة للإحرام فنضمخ جباهنا بالمسك المطيب، فإذا عرقنا سال على وجوهنا فيرى رسول الله ذلك فلا ينهانا”، على تحريم خروج المرأة متطيبة على الإطلاق من غير تفصيل يفيده حديث أبي موسى.

فنصيحتي لمن سلك هذا المسلك أن ينظر مع التجرد عن التعصّب للرأي فيما ذكر هنا مع ما مرّ قبل من الأدلة:” انتهى كلام المحدث الهرري.

أقول: وقول البوطي في شريطه إن السيدة عائشة قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما مُنِعَهُ نساء بني إسرائيل.

فالجواب: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري ما نصه [40]: “وتمسَّك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقًا وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنّته فقالت لو رأى لمنع، فيقال عليه لم ير ولم يمنع فاستمر الحكم، حتى إن عائشة لم تصرّح بالمنع وإن كان كلامها يُشعر بأنها كانت ترى المنع. وأيضًا فقد علم الله سبحانه ما سيُحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى، وأيضًا فالاحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعيّن المنع فليكن لمن أحدثت” اهـ.

ثم نريد أن نسأله سؤالاً لماذا لم يمنع إمام ذلك الزمان –أيام السيدة عائشة- النساء من الذهاب إلى المساجد وفقًا للقاعدة التي تشهرها البوطي دائمًا سد الذرائع ودرء المفاسد، أم يزعم أن هذه القاعدة لا يجوز لأحد أن يعمل بها سواه، وإذا كان البوطي ادعاها لنفسه دون غيره فلماذا لا يفتي في هذا العصر الذي كثر فيه الفجور بمنع النساء من الذهاب إلى المساجد درءًا للمفاسد وسدًا للذرائع كما زعم.

ومن السذاجة بمكان أن يقيس البوطي –وهو ليس من أهل القياس- في شريطه المرأة التي خرجت متعطرة ولا تقصد التعرض للرجال بالمرأة التي تخرج عارية ولم يكن قصدها أن يفتتن الرجال بها ثم يقول يفتتنون أم لا.

فهل يقول هذا الكلام عاقل؟! كل ذلك من أجل أن ينصر أهواءه، يقيس امرأة متعطرة بامرأة عارية، فنسأل الله أن يثبت علينا الدين والعقل.

أما حديث: “إذا شهدت إحداكن صلاة العشاء فلا تمسنَّ طيبًا” فهو حديث صحيح رواه مالك في الموطإ بهذا اللفظ [41] ومسلم بلفظ: “إذا شهدت إحداكن العِشاء فلا تطيّب تلك الليلة” [42].

وهاك الجواب على هذا الحديث وأشباهه في هذا المقام: المجتهدون يعرفون هذا النهي هل هو للتحريم أم للكراهة أم لبيان الأفضلية، وقد ورد النهي في حديث صحيح عن أمر وليس المراد به التحريم وهو حديث ابن حبان [43]: “لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي”، فلا يُفهم من الحديث عدم جواز صحبة غير المؤمن وعدم جواز إطعام غير التقي وإنما يُفهم منه أنّ الأولى بالصحبة المؤمن وبالإطعام التقي.

أئمة الفقه والحديث قالوا مكروه إلا إذا كانت المرأة المتطيبة قصدت بخروجها التعرض للرجال بالزينة الفاخرة أو الطيب فإنه يحرم، فليس لأحد من غيرهم بعد هذا كلام لمحاولة التحريم المطلق.

وأما ادعاؤك في هذا الشريط حيث تقول: “وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيح إذا وجدوا امرأة قد دخلت المسجد ورائحة العطر تفوح منها يطردونها من المسجد ويخرجونها من المسجد، ولم يكن واحد منهم يسألها هل قصدت عندما تعطرت أن يجد الناس رائحة العطر أم لا”.

قلنا: عمن نقلت هذا وفي أي كتاب، وإن وُجد فعليك أن تثبت إسناده قبل أن تحتج به، ونحن نتحداك أن تثبت هذا الذي تدعي، ونتحداك أن تعزوه لأيّ من الصحاح، فكيف تقول: “كما ورد في الصحيح” وكأن أهل العلم والحديث انقرضوا فأمنت أن لا يرد عليك أحد.

ثم أنت ذكرت هذا التقسيم في كتابك المسمى “الإنسان مسير أن مخير” [ص/133] فقلت: “إن من الأوامر ما يصدر عن تكليف وإلزام ومنها ما يصدر عن إرشاد وتخيير، فأما الأوامر والنواهي التي تصدر عن تكليف فهي تلك التي تحمل معنى الإلزام وهو الوجوب، أو تحمل ما هو قريب من الإلزام وهو الندب، ويلاحظ المكلف في الانقياد لها المثوبة والأجر. وأما الأوامر والنواهي الإرشادية فهي تلك التي تحمل معنى الإرشاد للمأمور إلى ما هو الاضمن لتحقيق حوائجه وأغراضه كقوله تعالى: {وأَشْهِدوا إذا تَبَايعْتُم} [سورة البقرة/282] وكقوله تعالى: {إذا تَدايَنتُم بدَيْنٍ إلى أجلٍ مُسمَّى فاكتُبوهُ} [سورة البقرة/282] ومن المعلوم أن مخالفة هذه الأوامر لا تسبب للمخالف أي وزر” اهـ.

فالعجب أنك ترى الأمر بترك التعطّر على سبيل الوجوب وهو في الحقيقة على سبيل الندب كما بيّنا، وأنك ترى النهي في قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرةَ} على سبيل الندب والحقيقة أنه على سبيل الوجوب حيث فنّدنا مزاعمك في ذاك البحث في ردنا عليك في هذا الكتاب على مسئلة الحديث: “احتج ءادم وموسى” وسقنا الادلة هناك على أن النهي للوجوب وليس للندب كما زعمت وادعيت بلا دليل.

وأقول: نحن لم نُرد من هذا كله تشجيع المرأة للخروج متعطرة متزينة بل المراد بيان الحكم الشرعي المقرر من قبل الفقهاء وغيرهم، وقد ادعى البوطي مفتريًا على العلامة المحدث الشيخ عبد الله الهرري أنه قال: “يجب على المرأة أن لا تستر وجهها وإن فعلت ذلك فهي عاصية”، فلا ندري من أين جاء بهذا الافتراء وليس غريبًا عليه، ألم يقرأ كتاب العلامة المحدث الشيخ عبد الله الهرري حيث يقول في كتابه “صريح البيان” [44]: “والاحسن –أي للمرأة- أن تسترهما”، والله حسيبه.

ثم من أعجب العجب قول البوطي في هذا الشريط أن هناك حديثين متناقضين حديثًا يمنع من أن نمنع النساء الخروج إلى المساجد، وحديثًا يمنع من الخروج إلى المساجد، فأي حديث من حديث رسول الله أو من صحابي يمنع ذلك؟! فقد وقعت على أم رأسك يا بوطي فاستفق من سباتك، ولن تستطيع أن تثبت عن رسول الله أو عن صحابي من أصحاب رسول الله تحريم دخول النساء إلى المساجد. أما قول عائشة: “لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما مُنِعَهُ نساء بني إسرائيل” فليس فيه تحريم، فلو كانت عائشة ترى التحريم لصرخت بين النساء بتحريم ذهابهن إلى المسجد، وأما ما حصل في نساء بني إسرائيل من أنهن حرم عليهن الذهاب إلى المسجد لأمر أحدثنه وهو أنهن كن يتخذن خِفافًا من خشب لتظهر في أعين الناس طويلة لفتنة الرجال فحرم عليهن الذهاب إلى المساجد، وليس ذلك شرعًا لأمة محمد إنما شرع سيدنا محمد هو ما تضمنه هذا الحديث الصحيح المشهور: “لا تمنعوا إماء الله من مساجد الله وليخرجن تفلات” أي غير متطيبات. وأشار بقوله: “تفلات” أنهن إذا كن متطيبات فدخولهن المساجد مكروه كما عبر بالتكريه شيخ المحدثين الحافظ الكبير البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى، وكذلك الفقهاء في كتبهم قالوا بكراهية ذهاب النساء إلى المسجد متطيبات أو لابسات ثيابًا فاخرة، وهذه كتب الفقه الشافعي تصرح بذلك وكذلك غيرهم.

وجدير بهذه المسئلة أن نسوق هذا الحديث الموقوف على عائشة فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري ما نصه [45]: “وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة موقوفًا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه قالت: كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلاً من خشب يستشرفن للرجال في المساجد فحرّم الله عليهن المساجد وسلطت عليهن الحيضة، وهذا وإن كان موقوفًا حكمه حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي” اهـ. وروى ابن حبان [46] عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أن امرأة من بني إسرائيل كانت قصيرة فاتخذت لها نعلين من خشب فكانت تمشي بين امرأتين طويلتين تطاول بهما، واتخذت خاتمًا من ذهب وحشت تحت فصه أطيبَ الطيب المسك فكانت إذا مرّت بالمجلس حركته فيفوح ريحه”.

وأما محاولتك تأييد كلامك بقاعدة حمل المطلق على المقيد، وقاعدة سد الذرائع ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح فقد فاتك أن القضيتين ليستا كليتين كما شرح ذلك علماء الاصول، قال الحافظ الفقيه الأصولي أبو سعيد العلائي شيخ الحافظ العراقي في كتابه القواعد: هذه القاعدة –درء المفاسد مقدم على جلب المصالح- ليست كلية، والمجتهدون يعرفون موضعها. فعليك أن تكف عن الانطلاق لرأيك القاصر في التحليل والتحريم وكن متبعًا لأن الخير في الاتباع.

ومن الفضيحة ما ذكره البوطي في شريطه حيث قال ما نصه: “كذلك في حديث ءاخر أن أحد الصحابة أذن للنساء بالخروج إلى المسجد فقالت عائشة رضي الله عنها: إذًا يتخذنه دغلاً، يعني يتخذن من الخروج إلى المسجد وسيلة للفتنة” اهـ.

فالجواب: هنا فضيحة فضح بها البوطي نفسه وهي أن هذه المقالة ليست مقالة عائشة إنما هي مقالة بلال بن عبد الله بن عمر وهو تابعيٌّ ليس من الصحابة. فقد ورد في صحيح مسلم [47] عن ابن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل”، فقال ابنٌ لعبد الله بن عمر: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دَغَلاً. قال: فَزَبَرَهُ –أي نهرهُ- ابن عمر وفال: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا ندعهن! وفي رواية: “فسبَّه سبًّا سيئًا”. والقائل لتلك المقالة هو بلال بن عبد الله بن عمر، وفي رواية هو واقد بن عبد الله بن عمر، قال الحافظ ابن حجر ما نصه [48]: “والراجح من هذا أن صاحب القصة بلال لورود ذلك من روايته نفسه ومن رواية أخيه سالم ولم يختلف عليهما في ذلك” اهـ.

وفي هذا دليل على أن البوطي ليس من أهل الحديث ولا من الفقهاء فضلاً عن أن يكون من المجتهدين.

الهوامش:

[1] صريح البيان [ص/324-338]، الطبعة الثالثة.

[2] صحيح ابن حبان: كتاب الحدود: باب ذكر وصف زنى الأذن والرجل وما يعملان مما لا يحل، أنظر الإحسان [6/301].

[3] المستدرك: كتاب التفسير [2/396].

[4] سنن النسائي: كتاب الزينة: باب ما يكره للنساء من الطيب.

[5] السنن الكبرى [3/246].

[6] سنن أبي داود: كتاب الترجّل: باب ما جاء في المرأة تتطيّب للخروج.

[7] جامع الترمذي: كتاب الأدب: باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

[8] سنن أبي داود: كتاب المناسك: باب ما يلبس المحرم.

[9] متن الزبد، المقدمة، [ص/10].

[10] رواه ابن خزيمة في صحيحه [3/92].

[11] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب في التشديد في ترك الجماعة.

[12] المستدرك [1/246].

[13] السنن الكبرى [3/75].

[14] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، وابن حبان في صحيحه أنظر الإحسان [3/316].

[15] مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الأدب [9/27].

[16] الآداب الشرعية والمنح المرعية [3/390].

[17] أنظر الكواكب الدرية للأهدل: باب إعراب الفعل، وشذور الذهب لابن هشام: النواصب.

[18] السنن الكبرى [3/295].

[19] أخرجه البخاري في صحيحه: في صلاة العيدين: باب الخطبة بعد العيد.

[20] أخرجه مسلم في صحيحه: في صلاة العيدين: باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى.

[21] الجامع لأحكام القرءان [12/228].

[22] البحر المحيط [6/447].

[23] البيان والتحصيل [17/624-625].

[24] المجموع شرح المهذب [5/9].

[25] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج [2/294].

[26] أسنى المطالب شرح روض الطالب [1/282].

[27] أسنى المطالب شرح روض الطالب [1/472].

[28] الإنصاف [1/126].

[29] المجموع شرح المهذب [5/9].

[30] الإيضاح في مناسك الحج [ص/151].

[31] فتح الباري شرح صحيح البخاري [3/405-406].

[32] حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء [3/235].

[33] حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء [2/45].

[34] مواهب الجليل شرح مختصر خليل [3/405].

[35] كشاف القناع عن متن الإقناع [1/82].

[36] أنظر الفتاوى البزازية، في هامش الفتاوى الهندية [4/157].

[37] مسند الطيالسي [ص/93].

[38] أخرجه الترمذي في سننه: أبواب الصلاة: باب ما جاء فيمن أمّ قومًا وهم له كارهون، وابن حبان في صحيحه، أنظر الإحسان [3/126].

[39] أخرجه ابن حبان في صحيحه، أنظر الإحسان [3/253].

[40] فتح الباري [2/350].

[41] موطأ الإمام مالك: كتاب القِبلة: باب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد.

[42] صحيح مسلم: كتاب الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج متطيبة.

[43] أنظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [1/383 و385].

[44] صريح البيان [ص/284]، الطبعة الثالثة.

[45] فتح الباري [2/350].

[46] أنظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [7/444].

[47] صحيح مسلم: كتاب الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة.

[48] فتح الباري [2/348].