البوطي يرى أن المنافقين عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم من المسلمين مع علمه بنفاقهم

البوطي يرى أن المنافقين عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم من المسلمين مع علمه بنفاقهم

يقول البوطي في كتابه “فقه السيرة” [ص/234]: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من اطلاعه على كثير من أحوال المنافقين وما تسره أفئدتهم بوحي من الله تعالى يعاملهم معاملة المسلمين دون أي تفريق في الأحكام الشرعية العامة” اهـ.

ويقول في [ص/233] في المصدر نفسه: “كما أجمع العلماء على أن المنافق إنما يعامل في الدنيا من قبل المسلمين على أنه مسلم يعامل كذلك وإن كان نفاقه مقطوعًا به” اهـ.

وقال في كتابه “هكذا فلندع إلى الإسلام” [ص/87]: “وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن الله قد أعلمه بنفاق المنافقين المتظاهرين بالإسلام بين أصحابه ومع ذلك فقد كان يأبى إلا أن يعاملهم معاملة المسلمين ويأخذهم بظواهر أحوالهم”.

الرد: مما لا شك فيه أن المنافقين أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: وهم كانوا غير معروفين وإنما كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بأحوالهم وأوضاعهم وأقوالهم وغدرهم ومحاولة تثبيطهم لعزائم المسلمين ومؤامراتهم من غير أن يذكر القرءان أسماءهم ومن غير أن ينزل وحي غير قرءاني بتعيين كل فردٍ منهم بحيث يعم الرسول أنهم فلان وفلان وهذا محمل الآية: {ومِنْ أهلِ المدينةِ مَرَدوا على النفاقِ لا تعلمهم نحنُ نعلَمُهُم} [سورة التوبة/101] وقد أعلم الرسول عليه السلام ببعض المنافقين بالتعيين لبعضهم فقد صح أن الرسول قال ذات يوم في أثناء خطبته لبعض المنافقين: “أخرج فإنّك منافق” [1] فهذا يرد قول البوطي إنه كان يعاملهم معاملة المسلمين على الإطلاق، وهذا التهور من البوطي منشؤه أنه ليس له باع في الفقه ولا في الحديث إنما هو مطالع من المطالعين لبعض الكتب. وبما أن المنافقين أيام رسول الله كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام فكان صلى الله عليه وسلم والصحابة يعاملونهم معاملة المسلمين بحسب ما يرون ظواهرهم.

أما القسم الثاني: فينقسمون إلى قسمين منهم قسم عرفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، ومنهم قسم عرفهم بإظهارهم للكفر صراحة.

فأما القسم الأول ممن لم يطلع على أحوالهم فكان يعاملهم معاملة المسلمين، وكان يصلي عليهم لما كان يظهر منهم من الإسلام.

وأما القسم الثاني فكان يمسك عن قتلهم وينهى عن ذلك لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولمصلحة تأليف قلوبهم للدخول في الإسلام، ولأن المسلمين يومها كانوا في خالة ضعف.

وأما دعوى البوطي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلع على أحوالهم وما تسره أفئدتهم بوحي من الله تعالى وأنهم يعاملون على أنهم مسلمون وإن كان نفاقهم مقطوعًا به فهذه دعوى باطلة لا أساس لها، ولم يقل بها مسلم واحد فضلاً عن إجماع أئمتهم، فكيف يعامل على أنه مسلم وإن كان نفاقه مقطوعًا به كما ادعى.

فإن كان البوطي يتمسك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل من قال: “إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله”، أو ذاك الذي قال له: اعدل، فقال: “ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل”. قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: “دعه فغن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية” الحديث.

فالجواب ما قاله الحافظ ابن حجر في الفتح ما نصه [2]: “قوله: “فإن له أصحابًا” هذا ظاهره أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابًا بالصفة المذكورة وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهه، فيحتمل أن يكون لمصلحة التأليف كما فهمه البخاري لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار الإسلام، فو أذن في قتلهم لكان ذلك تنفيرًا عن دخول غيرهم في الإسلام” اهـ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله بعد ذلك كما ذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ونصه [3]:

“تنبيه: جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف هذه الرواية وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه فقال: “اذهب إليه فاقتله”، قال فذهب إليه أبو بكر فلما رءاه يصلي كره أن يقتله فرجع فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: “إذهب فاقتله” فذهب فرءاه على تلك الحالة فرجع، فقال: “يا علي اذهب إليه فاقتله” فذهب علي فلم يره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن هذا وأصحابه يقرءون القرءان لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية”، وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى [4] ورجاله ثقات. ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول وكانت قصة هذه الثانية متراخية عن الأولى، وأذن صلى الله عليه وسلم في قتله بعد أن منع منه لزوال علة المنع وهي التأليف، فكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام، كما نهى عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك، وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن لا يكون لا يصلي [5] فلذلك علّلا عدم القتل بوجود الصلاة أو غلبا جاتب النهي. ثم وجدت في مغازي الأموي من مرسل الشعبي في نحو أصل القصة: “ثم دعا رجالاً فأعطاهم فقام رجل فقال: “إنك لتقسم وما نرى عدلاًَ، قال: “إذًا لا يعدل أحد بعيد”، ثم دعا أبا بكر فقال: “اذهب فاقتله” فذهب فلم يجده فقال: “لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وءاخرهم”، فهذا يؤيد الجمع الذي ذكرته لما يدل عليه “ثم” من التراخي والله أعلم” اهـ.

وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني: “فمقتضى قولهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد، وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي أنكر عليه إنها قسمة ما أريد بها وجه الله [لأبي بكر] “إذهب فاقتله” ثم قال لعمر مثل ذلك” اهـ.

أما إن كان ما قاله البوطي مستندًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أبيّ بن سلول حيث توهم بعضٌ أن الرسول صلى عليه وهو يعلم نفاقه في حال صلاته عليه.

فالجواب: أن الرسول عليه الصلاة والسلام معصوم عن الكفر، والصلاة على الكافر مع اعتقاد أنه كافر كفرٌ، وذلك ينافي العصمة، وهذا أيضًا تلاعب في الدين والرسول معصوم عن ذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلّ عليه إلا لاعتقاده تلك الساعة أنه ذهب عنه النفاق وأخلص في إسلامه وإيمانه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في موضع من شرح البخاري، فإذا كان حكمُ من يصلي وهو محدثٌ متعمدًا كافرًا في نظر أبي حنيفة لاعتبار ذلك تلاعبًا بالدين فكيف يتجرأ على قول إن الرسول صلى على ابن أبيّ مع علمه بأنه منافق غيرُ مصدق للإسلام في قلبه، وهذه المسئلة أي صلاة المحدث متعمدًا عند الشافعية ليست كفرًا ورِدَّةً إنما هي من كبائر المعاصي.

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه [6]: “وفي الطبراني من طريق عروة بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ أنه استأذن نحوه، وهذا منقطع لأن عروة لم يدركه، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما دخل عليه قال: “أهلكك حب يهود” فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه، وهذا مرسل مع ثقة رجاله. ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: “لما مرض عبد الله بن أبيّ جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول فامنن عليَّ فكفني في قميصك وصلّ عليّ، ففعل”، وكأن عبد الله بن أبيّ أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك كما سيأتي، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة” اهـ.

وقال الحافظ أيضًا ما نصه [7]: “قوله –أي عمر- قال: إنه منافق، فصلى عليه، أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله. وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراءً له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره واستصحابًا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام  ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: “لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه”، فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقلّ أهل الكفر وذلوا أُمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى” انتهى كلام ابن حجر.

الهوامش:

[1] ذكره ابن جرير في تفسيره [7/10].

[2] فتح الباري [12/293].

[3] فتح الباري [12/298-299].

[4] أخرجه أبو يعلى في مسنده [4/150].

[5] كذا في الأصل، ولعل الصواب: “على أن لا يكون يصلي”.

[6] فتح الباري [8/334].

[7] فتح الباري [8/336].