حَول الوُجود التَّاريخيِّ للأنبياء عليهمُ السَّلام
لوحة المجاعة وعبارات التَّوحيد والتَّنزيه في مُتون الأهرام
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
وبعدُ فإنَّ التَّواتُر حُجِّيَّتُه أقوَى مِن النُّقوش والآثار لأنَّ التَّواتُر لا يكون فيه نقل إلَّا عن الجمع الكبير الَّذي يمتنع فيه اجتماعُهُم على الكذب؛ هكذا في كُلِّ طبقات النَّقل؛ ولا يُوجد ما يمنع الكذب في النُّقوش والآثار، ووُجود الأنبياء ثابت بالتَّواتُر وهُو حُجَّة حتَّى على الباحثين في النُّقوش والآثار.
ثُمَّ لا يختلف اثنان في أنَّ المجهول مِن تاريخ الأُمم السَّالفة أكثر بأضعاف مُضاعفة مِن المعلوم منه وهذا بإقرار كُلِّ الباحثين في الآثار؛ فإذا صحَّ هذا -وهُو صحيح- وأفادنا التَّواتُرُ ما أفادنا؛ لم يضُرَّ شيئًا أنَّ ما عُثر عليه مِن النُّقوش والآثار ليس فيه ذكر للأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه.
ثُمَّ إنَّه لا يثبُت بطريق مقطوع به متَى كان زمان إبراهيم وإسحق ويعقوب ويُوسف وموسَى وسُليمان وغيرهم مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام فقد يكون وُجودُهُم سابقًا للعُهود الَّتي راجت فيها الكتابة والنَّقش ونحو ذلك على أنَّ في الآثار الكثير مِن الإشارات الَّتي قد تدُلُّ على وُجود الأنبياء تاريخيًّا.
ولا نطلُب استقصاء تلك الإشارات ولكن نذكُر واحدة؛ ففي جزيرة سُهيل بأسوان يُوجد صخرة منحوتة معروفة باسم “لوحة المجاعة” تتحدَّث عن سبع سنوات مِن انحباس النِّيل والجفاف في مصر وعن منام رآه الملك يُبشِّر بانتهاء المجاعة وهُو قريب ممَّا جاء في قصَّة يُوسُف عليه السَّلام.
وهذه الإشارة لم تكُن معروفة بين النَّاس عند نُزول الوحي على حبيبنا رسول الله مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وهذا يزيد الإشارة قوَّة دلالة؛ وتكرُّر أجزاء مِن القصَّة في تُراث العراق ليس دليلًا على تعدُّدها وإنَّما قد يكون اقتباسًا لأخذ العبرة أو تحريفًا على عادة الأُمم في استعارة حكايات غيرها.
ولوحة المجاعة؛ يُقال إنَّها نُحتت في عصر البطالمة الَّذين حكموا مصر مِن 332 إلى 31 قبل الميلاد وعاصمتُهُم الإسكندريَّة بغضِّ النَّظر هل هذا صحيح ثابت أم لا؛ ولكنَّها تتحدَّث بحسب ترجمتها عن عهد الملك زوسر الَّذي يُقال إنَّ عهده يرجع إلى نحو أكثر مِن 4500 سنة مِن اليوم.
وينبغي أنْ لا يغفل الباحث أنَّ النَّقش يعملُه الحُكَّام غالبًا ورُبَّما يكون نادرًا مِن عمل بعض المُؤسَّسات الَّتي تتبع للحُكَّام وتدين بما يدينون به؛ وأكثر الحُكَّام الَّذين يطلُبون الفخر والذِّكر والسُّمعة بين النَّاس بالتَّعظيم والتَّبجيل لا يكونون على منهاج النُّبُوَّة؛ فليس غريبًا إنْ أسقط هؤُلاء ذكر الأنبياء.
وكما سكتت الآثار عن ذكر الأنبياء عليهمُ السَّلام فقد سكتت كذلك عن ذكر أيِّ شيء يتعلَّق بأبرز المعالم في مصر ولذلك لا يتوفَّر دليل علميٌّ قاطع في تحديد زمان بناء الهرم الأكبر أو سبب بنائه أو طريقة بنائه، ويختلف الجيولوجيُّون مع الباحثين في الآثار في عُمْر أبي الهَول..
يقول الدُّكتور أحمد فخري في كتاب [الأهرامات المصريَّة]: <ونحن لا نكاد نعرف شيئًا عن الهرم الأكبر خلال أيَّام الدَّولة الوُسطَى بل لم تصل إلينا أيُّ وثيقة قديمة تجعلُنا نجزم بشيء.. وساد الصَّمت نفسُه خلال أيَّام الدَّولة الحديثة ولم نسمع شيئًا عن الهرم الأكبر وكُلُّ ما وصل إلينا ما أشاروا به في بعض اللَّوحات إلى هيكلَي خوفو وخفرع> انتهَى.
وكُلُّ هذا لا يعني أنَّ كُلَّ ما تذكُرُه كُتُب التَّفسير مِن حكايات تاريخيَّة ثابت أو صحيح بل تشتمل هذه الكُتُب وغيرُها على الثَّابت وغير الثَّابت، نعم قد يكون فرعون عربيًّا وقد تكون لُغة قُدماء المصريِّين إحدَى اللَّهجات العربيَّة القديمة المُندثرة ولكن يوجد إلى جانب هذا أخبار أُخرَى لا تثبُت نقلًا.
فقد سُئل الحافظ العبدري الشافعي عن الحكمة مِن بناء إدريس عليه السَّلام للأهرام فقال: <كَأَنَّهُ جَعَلَهَا مَخْزَنًا لِعُلُومٍ كَوْنِيَّةٍ، عَلَى أنَّهُ مَا ثَبَتَ مِن حَيْثُ النَّقْلُ عَنِ النَّبِيِّ وَلَا عَن أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ حِكَايَةٍ> انتهَى
وقال ما معناه إنَّه لا يثبُت أنَّ سيِّدنا إدريس بنَى ثمانين مدينة.
وذكر أيضا أنَّ كُلَّ الأنبياء كانوا يقرأون المكتوب إلَّا سيِّدَنا مُحمَّدًا عليه الصَّلاة والسَّلام لأنَّ ذلك أبلغ في مُعجزته؛ وأنَّ الحديث الَّذي ورد عن نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام في حقِّ إدريس عليه السَّلام و(أنَّه أوَّل مَن خطَّ بالقلم) اختلف حُفَّاظ الحديث في صحَّته.
وممَّا يدُلُّ على وُجود الأنبياء عليهمُ السَّلام تاريخيًّا [كتاب المَوتَى] عند قُدماء المصريِّين ويُسمَّى كذلك [مُتون الأهرام] فإنَّ فيه ما ترجمتُه: <[يا ربُّ] أنت الإله الواحد الأحد الَّذي لا شريك لك ليس قبلَك شيء وليس بعدك شيء> إلخ.. وفيه: <ليس مثلي أحد> إلخ.. وفيه توحيد وتنزيه صريح.
وقد ثبت في الحديث: <أنت الأوَّل فليس قبلَك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء> رواه البيهقيُّ وسمعتُ أحد الخبراء يقول إنَّ مُتون الأهرام فيها: (لا يُمكن لأحد معرفة اسمِه) ولعلَّها تحريف لعبارة: له الوصف الَّذي لا يُوصف به غيره وهو معنَى قوله تعالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ}.
ومُتون الأهرام هذه كانت تُوضع في قُبور قُدماء المصريِّين قبل ما يزيد عن 5 آلاف سنة؛ ولا شكَّ أنَّ التَّوحيد والتَّنزيه يُناقضان عقائد الوثنيِّين؛ فهذه العبارات في متون الأهرام تدُلُّ أنَّ بعضهُم على الأقلِّ كان على منهاج دعوة الأنبياء ثُمَّ عادة النَّاس تحريف الشَّرائع بعد فوات زمان الأنبياء.
وخُلاصة هذا المقال أنَّ الوُجود التَّاريخيَّ للأنبياء عليهمُ السَّلام ثابت بلا شكٍّ ولا ريب وأنَّ النُّقوش والآثار مُشتملة على ما يدُلُّ على ذلك.
