مُوافقة الإسلام للعقل وثُبوت النُّبُوَّات بدلالة التَّواتُر
وردُّ شُبُهات المُشتغِلين بعلم الآثار
ليعلم أن العقل شاهد لصحة دين الإسلام، وهو دين يُوافق العقل السَّليم في أحكامه الأصليَّة الثَّلاثة:
– الواجب العقليِّ: وهُو ما لا يقبل العقل عدمَه.
– المُمكن العقليِّ: وهُو ما يقبل العقل وُجوده تارة وعدمَه تارة أُخرَى.
– المُستحيل العقليِّ: وهُو ما لا يقبل العقل وجودَه.
فالإله الخالق واجب الوُجود؛ لأنَّ العقل السَّليم لا يقبل فِعلًا بدون فاعل ولا كتابة بدون كاتب فكذلك لا يقبل العقل وُجود المخلوقات بدون خالق أزليٍّ قادر مُريد وليس كمثله شيء لأنَّه لو كان يُشبهُهُم لجاز عليه ما يجوز عليهم مِن القهر والعجز والفناء وهذا يُناقض (واجب الوجود).
أمَّا سائر المخلوقات فهي مُمكنات عقليَّة؛ وأمَّا الشَّريك لله تعالَى فهذا مُستحيل لا يقبل العقل وُجوده لأنَّه لو كان خالقانِ قادرانِ مُريدانِ لجاز اختلافُهُما ولنفذت مشيئة أحدهما؛ فيكون الثَّاني مقهورًا عاجزًا وهذا لا يكون إلها فثبت -في العقل السَّليم- أنَّ الشَّريك لله تعالَى مُستحيل.
والأصل في النَّظر في الدِّيانات؛ أنْ يُقدَّم النَّظر في الأُصول والعقائد فإذا ناقضت عقيدة ما؛ أحكام العقل السَّليم؛ علمنا فسادها وثبت عندنا بُطلانها لأنَّ الدِّين الصَّحيح لا يأتي بالمُستحيل العقليِّ. وأمَّا إذا كانت العقيدة صحيحة في مُوافقة أحكام العقل السَّليم: فعند ذلك يُنظر في فُروعها.
ثم انَّه يجب على النَّاس تصديق الأنبياء فيما جاءُوا به مِن أُمور يُبَلِّغُونها عن الله سُبحانه وتعالَى؛ لأنَّ المُعجزة الَّتي يُظهرونها هي دليل صدقهم فيما يدَّعون مِن بلاغ ومقام؛ والمُعجزة: أمر خارق للعادة يأتي على يد مَنِ ادَّعَى النُّبُوة سالم مِن المُعارضة بالمثل مُوافق لدعوته.
وذلك أنَّ العقل السَّليم يقبل صدق مَن جاء بما لا يستطيعُه غيرُه مِن خوارق للعادة بالشُّروط المذكورة آنفًا؛ فإنَّ الأُمور الخارقة للعادة ليست خارقة لأحكام العقل وليست مِن صنف المُستحيل العقليِّ فإنَّ (خرق العادة) شيء يقبل العقل وُجوده ومِن الأمثلة عليه: وُجود بحر مِن الزِّئبق.
وعند المسلمين: كُلُّ الأنبياء مُعظَّمون و هُم صادقون أُمناء فطنون؛ وتجب لهُمُ العصمة مِن الكُفر والكبائر والكذب والخسائس والرَّذالة والسَّفاهة والبلادة ومِنَ الأمراض المُنفِّرة وكُلِّ ما يُنفِّر عنِ الاتِّباع لأنَّ الله تعالَى حكيم لا يأمُر النَّاسَ باتِّباع أنبياء أو رسُل فيهم صفات تُنفِّر عن الاتِّباع.
مِن هُنا؛ فإنَّ دعوات بعض المُعاصرين للمُقارنة بين النبي مُحمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- وبين نبيِّ الله عيسَى عليه السَّلام: هي دعوة مرفوضة تمامًا لأنَّ أولئك المُتنطِّعين إنَّما يفهمون مِن وُجوه المُقارنة هذه تنقيصَ واحد مِن النَّبيَّين الكريمَين، وهذا ما لا يجوز لنا في ديننا.
وهذا لا يمنع أنْ يقال: إنَّ النبيَّ مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم هُو أعظم الخلق وأفضل الأنبياء وأعلَى الرُّسُل مقامًا ودرجة وأنَّه أتقَى العالمين في قول وفعل ولكنّ لا يقال ذلك على وجه تنقيص أحد مِن إخوانه الأنبياء عليهمُ السَّلام وإنَّما يقال لبيان عُلُوِّ مقام النبي مُحمَّد عند الله تبارك وتعالَى.
وأمَّا قولُهُم: “إنَّ مُحمَّدا قتل وسبَى وغزا وغنِم وأمَّا المسيح فلم يفعل شيئًا مِن ذلك” فيُقال في الجواب عليه: لمَّا ثبت صدق مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم في نُبُوَّته وجب تصديق أنَّه إنَّما قاتل المُشركين التزامًا بأمر الله تعالَى؛ ونسبتُه إلى طاعة ربِّه: مدح وثناء في حقِّه ليس ذمًّا.
وإنَّه جاء فيما يُسمَّى العهد القديم الأمر بقتل الرِّجال والأطفال وسبي النِّساء اللَّواتي لم يتزوَّجن فقال ما نصُّه: “فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُلُّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلًا بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا. لكِنْ جَمِيعُ الأَطْفَالِ مِنَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَمْ يَعْرِفْنَ مُضَاجَعَةَ ذَكَرٍ أَبْقُوهُنَّ لَكُمْ حَيَّاتٍ” انتهَى.
فلماذا يأخُذون على النبي مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم قتال المُشركين والغزو في سبيل الله وما يتبع ذلك ولا يأخُذون على ما في الكتاب الَّذي يُؤمنون به مِن الأمر بقتل الرِّجال والأطفال وسبي النِّساء وتدمير المدن وإبادة أهلها وغير ذلك ممَّا لا زال مسطورًا فيما يُسمَّى بالعهد القديم!
فإنْ قالوا: “هذا ليس في العهد الجديد” قُلنا: لكنَّكُم تنسبون إلى المسيح فيما يُسمَّى بالعهد الجديد أنَّه قال: “لا تظنُّوا أنِّي جئت لأنقُض النَّاموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقُض بل لأُكمل”. انتهَى
وفيه: “لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا عَلَى الْأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا بَلْ سَيْفًا” انتهَى.
مِن هُنا نقول: إنَّ مَن أراد المُناظرة حول تفاصيل الدين و المعجزات وما ورد في السيرة ينبغي مناظرته أولا في العقائد وأُصول الدِّين لأنَّ ثُبُوت النُّبُوَّات يلزم منه اعتقاد تعظيم الأنبياء واعتقاد أنَّهُم لا يفتحون أبواب الشُّرور وأنَّ طاعاتهم لخالقهم عزَّ وجلَّ أفعال شريفة كريمة لا يُلامون عليها ولا يُعاتبون على فعلها بل نسبتُها إليهم مدح في حقِّهم.
وليعلم أنَّ الأحكام العقليَّة الثَّلاثة المذكورة سابقًا أقوَى مِن الكلام في الفلسفة لأنَّ الفلسفة يدخُلُها الوهم وأمَّا أحكام العقل السَّليم فهي مُحصَّنة مِن أنْ يدخُلَها الوهم،
فحيث غلب الوهم بعض الفلاسفة فقالوا: “إنَّ كُلَّ جُزء لا بُدَّ أنَّه يقبل التَّجزئة مهما تناهَى في الصِّغر والكميَّة” انتهَى وأمَّا العقل السَّليم فيقول إنَّه لا بُدَّ أنْ تصل التَّجزئة إلى جُزء تناهَى في الصِّغر والكميَّة فلا يقبل التَّجزئة بعد ذلك ونُسمِّيه (الجوهرَ الفرد) وهُو الجُزء الَّذي لا يقبل الانقسام.
والجُزء الذي لا يقبل الانقسام؛ لا يرى بالعين المُجرَّدة؛ ولكن يدل البُرهان العقليُّ على وُجوده وذلك أنَّ الجُزء لو كان قابلًا للتَّجزئة بلا نهاية: فإنَّ هذا يُنافي كونه محدودًا، فإذا ثبت كونُ الجُزء محدودًا -في طول وعرض وعُمق-: بطل كونُه قابلًا للانقسام إلى ما لا نهاية له.
فلو حملنا في أيدينا حَجَرًا وأحاطت به أنظارُنا؛ دَلَّنَا البُرهان العقليُّ أنَّه لو كان الحجر يقبل الانقسام بلا نهاية لَمَا استطاعت أيدينا وأنظارنا الإحاطة به مِن كُلِّ النَّواحي بل ولا مِن ناحية واحدة ولكنَّ أيدينا وأنظارنا أحاطت به مِن كُلِّ النَّواحي: فثبت أنَّه غير قابل للانقسام بلا نهاية.
ولو أردنا تجاوُز (بلاطة) على الأرض في الطَّريق أمامَنا؛ فلو كان كُلُّ جُزء منها ينقسم بلا نهاية: سنعجِز عن تجاوُزه فلا نصل إلى الجُزء الَّذي يليه وبالتَّالي لن نتمكَّن مِن تجاوُز (البلاطة) لا في سنة ولا في مائة ألف سنة، فلمَّا مشينا وتجاوزناها: ثبت أنَّها لا تقبل الانقسام بلا نهاية.
ثم يقال: إنَّ النُّبُوَّاتِ قديمة في النَّاس فأوَّل البَشَر هُو آدم وهُو أوَّل الأنبياء ثُمَّ شيث ثُمَّ إدريس ثُمَّ نُوح ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ إسمعيل وإسحق ويعقوب ثُمَّ يُوسُف ثُمَّ مُوسَى وبينهم كثير ممَّن لا نعلم أسماءهُم ثُمَّ عِيسَى ثُمَّ سيِّدنا مُحمَّد صلوات الله وسلامُه عليه وعلى جميع إخوانه النَّبيِّين.
ويقال أيضا: إنَّه قد تواتر وُجود الأنبياء، وكلمة (التَّواتُر) هي صفة لخبر يحكي حدثًا يشهدُه عدد كبير مِن النَّاس لا يقبل العقل تواطُؤَهُم على الكذب وينقُلُه في كُلِّ طبقة مِن طبقات ناقليه عدد كبير كذلك لا يقبل العقل تواطُؤَهُم على الكذب، ولهذا يجب تصديق الخبر المنقول بالتَّواتُر.
مِن هُنا؛ فإنَّه لا يُشوِّش على الإيمان بالأنبياء أنَّ الأركيولوجيِّين يزعُمون أنَّهُم لم يجدوا فيها ذكرًا صريحًا للأنبياء، وذلك لأنَّ الاحتجاج بالخبر الَّذي ينقُلُه عدد كبير مِن النَّاس -لا يقبل العقل تواطُؤَهُم على الكذب- دلالتُه أقوَى مِن دلالات النُّقوش الحجريَّة.
ويقال: إنَّ مِن شأن النَّاس أنَّهُم حرَّفوا شرائع كثير مِن الأنبياء بعد موتهم؛ وأنَّهُم بدَّلوا في حكاياتهم وحوادث أيَّامهم؛ فليس خبر طُوفان نُوح عليه السَّلام مأخوذًا مِن قصَّة جلجامش وإنَّما قصَّة جلجامش نُسخة مُحرَّفة مِن خبر الطُّوفان حرَّفها النَّاس بعد نوح بزمان طويل.
كما يجب الايمان بالتَّوراة والإنجيل وأنَّهُما كتابان سماويَّان كما أنَّ القُرآن الكريم كتاب سماويٌّ ولكن هذين الكتابَين الكريمَين وقع فيهما التَّحريف؛ وأمَّا القُرآن الكريم فحُفِظ بالتَّواتر.
ثم إنَّ العُلوم الدِّينيَّة هي أشرف العُلوم لأنَّها تتعلَّق بما هُو أشرف ممَّا تتعلَّق به العُلوم الدُّنيويَّة -كالفيزياء والكيمياء والهندسة مع الإقرار بكونها عُلومًا مُهمَّة-. والعلم أوسع ممَّا تدُلُّ عليه التَّجربة ولذلك فمِن السُّخف ادِّعاء أنَّ ما لا يقوم على التَّجربة لا يصحُّ تسميتُه عِلمًا.
ويقال: إنَّ المُشتغِلين بالآثار أنشأوا شُبُهاتٍ لا معنَى لها وذلك أنَّهُم يزعُمون أنَّ التَّواتُر مُختلَف في حُجِّيَّته، لأنَّ القول بعدم حُجِّيَّة التَّواتُر -على تقدير وُجوده- ليس قولًا مُعتَبَرًا في الحقل العلميِّ.
وليسَ كُلُّ خلافٍ جاءَ مُعتَبَرًا * إلَّا خلافٌ لهُ حظٌّ مِنَ النَّظَرِ
