رد دعوى أن بيت المقدس بالجعرانة

رد دعوى أن بيت المقدس بالجعرانة

زعم بعض الملاحدة أن الواقدي والطبري وكثيرًا من علماء الإسلام الأوائل، قد بينوا أن المسجد الأقصى المقصود في سورة الإسراء هو ذلك الذي على طريق الطائف بالجعرانة.

وهذا الادعاءات مجرد أكاذيب يتناقلها هؤلاء ويقومون بترويجها بين أتباعهم.

فالواقدي في مغازيه، لم يذكر المسجد الأقصى الذي بالجعرّانة إلا في سياق حكاية المكان الذي أحرم منه النبي، صلى الله عليه وسلم، في عمرته من الجعرّانة بعد أن قدم إليها من الطائف، ذاكرًا في السياق نفسه وجود مسجدين واحد أدنى وثان أقصى، مما يشير إلى صفة مكانية تميز المسجدين عن بعضهما لا أكثر، لكونهما من الحلّ الذي ينبغي الإحرام منه بالعمرة لمن كان في مكة، ولم يذكره في سياق رحلة الإسراء التي لم يأت على ذكرها أبدًا في مغازيه، كما لم يذكر أي فضل، مما هو معلوم للمسجد الأقصى، لذلك المسجد الذي بالجعرّانة.

و الواقدي نفسه، قد ذكر بيت المقدس في موضع آخر، في حكاية تشير أولاً إلى أن هذه التسمية كانت معروفة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما يدعيه هؤلاء الملاحدة بأن المسلمين لم يعرفوا إلا اسم “إيلياء” للموضع الذي فتحوه بفلسطين وأعطوا فيه الأمان لساكنيه من النصارى، بل إن الأحاديث النبوية التي نصّت على شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى، قد ذكرته حينًا باسم المسجد الأقصى، وحينًا باسم مسجد بيت المقدس، وحينًا باسم مسجد إيلياء أو إيليا، كما في موطأ مالك ومسند أحمد وصحيح ابن حبان ومسند الحميدي، ما يدل على ترادف هذه التسميات، وأنّ المسجد الأقصى المقدس هو الذي بإيلياء التي في فلسطين والتي هي نفسها بيت المقدس. فقد نقل الواقدي في مغازيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزوجه ميمونة، عن بيت المقدس: “يحول بينك وبينه الروم”، ولم يكن ثمة روم بين الجعرّانة والمدينة، أو بين الجعرّانة ومكة.

وقد تكلم عاتق بن غيث في كتابه “معالم مكة التأريخية والأثرية” عن اسم جعرانة وأوضح، أن اللغويين اتفقوا على ضبط الاسم ليُنطق بكسر أول حروفها وسكون ثانيها وتخفيف رائها، وأن هذا المكان لم يكن مجهولاً قبل الإسلام، فكان يستضيف وقائع أحد أهم أحداث مكة، وهو “سوق مجنة”، الذي ناظر “سوق عكاظ” في شهرته ومكانته. كما سبق وأن ورد ذِكره في شِعر ما قبل الإسلام، فهذا الشاعر الذي يتمنى لو أنه يقطن جوار حبيبته يقول:

فيا ليت بالجعرانة اليوم دارها وداري ما بين الشآم فكبكب

و يحكي مقاتل بن سليمان في تفسيره الشهير للقرآن عن امرأة قرشية اسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرّة، ضُرب بها المثل في الحماقة بآية سورة النحل “ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة”، لأنها كانت حمقاء تحكم الغَزْل ثم تنقضه دون سبب، ويضيف الطبري أن القرآن اتخذ من هذا التشبيه مثلاُ لنهي المسلمين عن نقض الأيمان بعد توكيدها. هذه المرأة كان لقبها “الجعرانة” ويقال، أن المنطقة أخذت منها لقبها. كما تحدث الشيخ حسن الجواهري في كتاب “بحوث في الفقه المعاصر”، عن “الجعرانة” موضحاً أن الروايات التاريخية كلها أكدت أن الرسول أحرم من هذا المكان لعمرته الثالثة، وفيها مسجده الذي يقع بالعدوة القصوى، ويُعرف بالمسجد الأقصى، لوجود مسجد آخر بُني من قِبَل أحد المحسنين يعرف بالمسجد الأدنى، وكلاهما بُنيا في القرن الثالث الهجري، وفقاً لما رواه الأزرقي. تمت تسمية المسجدين طبقاً لقُرب الواحد منهما من الكعبة أو بُعده، فالأقرب لُقب بالمسجد الأدنى (مسجد التنعيم أو مسجد عائشة)، والثاني هو المسجد الأبعد أي الأقصى.

عن “المسجد الأدنى”، ينقل لنا أبو الطيب المكّي في كتابه “شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام” رواية ابن خليل عن ابن جريج، بأن اسم “المُحسن” الذي أقامه، قائلاً إن الذي بناه هو رجل قريشيّ يُدعى عبد الله بن خالد الخزاعي

وأما الطبري فلم يذكر المسجد الأقصى الذي بالجعرّانة أبدًا لا في تفسيره ولا في تاريخه، ولم يتحدث إلا عن المسجد الأقصى الذي ببيت المقدس، كما في قوله مثلاً في تفسيره: “وقوله: “إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى” يعني: مسجد بيت المقدس”.

حتمًا لا ترتق ادعاءات تافهة مثل هذه، لتنسف المعرفة المتواترة العميقة لدى المسلمين بمساجدهم، كما لم تنسفها من قبل نصوص انشقاقية، كما في بعض مصادر الشيعة كتفسير العياشي مثلاً، والتي نسبت لجعفر الصادق قوله بأن المسجد الأقصى في السماء، وبأن مسجد الكوفة خير من مسجد بيت المقدس، ولن تنسفها أي جهود أخرى حتى لو كانت تنطلق من دوافع سياسية ، كما في محاولات كمال صليبي في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب”، وفاضل الربيعي في كتابه “فلسطين المتخيلة: أرض التوراة في اليمن القديم”، فتلك المحاولات على ما فيها من فذلكة وتمحّل ومقاربات فونيطيقية متكلّفة، جاءت لنفي أي تاريخ لليهود في فلسطين، وللقول، بأن اليهودية لم تكن أكثر من دين عربي قديم في جزيرة العرب. فاعجب بعد ذلك لهؤلاء