في دفع بعض الشبهات عن الاسراء
ذكر علماء أهل السنة والجماعة أن الإسراءُ حق و أنه كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه وهو قولُ ابنِ عباسٍ وجابرٍ وأنَسٍ وعمرَ وحذيفةَ وغيرِهِمْ منَ الصحابةِ وقولُ الإمامِ أحمدَ وغيرِهِ مِنَ الأئمةِ وهو أيضا قولُ الطبريّ وغيرهِ من المفسرين.
قال ابن بطال في شرحه على البخاري: “روى عن ابن عباس فى قوله تعالى: “وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ” -الإسراء: 60-، قال: هى رؤيا عين أريها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة أسرى به إلى بيت المقدس، وليست رؤيا منام، رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قالوا: ولو أسرى بروحه دون جسده، وكان الإسراء فى المنام لما أنكرت قريش ذلك من قوله – صلى الله عليه وسلم – ؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الرؤيا؟ ولا ينكرون أحدًا يرى فى المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل”. انتهى
فهذه الرؤية الحقيقية هي التي تصلح أن تكون فتنة للناس؛ فالناس لا تُفْتَن بالأحلام مهما كانت عجيبة.
وقدْ أُسْرِيَ بالنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أي ذُهِبَ بهِ ليلاً منَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأَقصَى.
والاسراء جاء مصرَّحٌ بهِ في القرءانِ بقولِه تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا” -سورة الإسراء:1-
فلذلكَ يَكْفُرُ منكر أصل الإسراء بإجماع المسلمين؛ لأن الله عز وجل قد جعل ذلك قرآنًا يتلى.
قال يحيى بن أبي الخير بن سالم اليماني، الشافعي الفقيه الأصولي المتكلم، المتوفى سنة 558 هـجري في كتابه “الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار”: “وقد أنكر المعتزلة والقدرية الإسراء، وقالوا إنما كان ذلك رؤية في المنام، والقرآن والروايات تبطل قولهم، قال الله تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا”، وروى حديث الإسراء جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم… ولا ينكر ذلك إلا من ينكر القرآن والأخبار الواردة فيه. ومن الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: “إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى “-يعني جبريل عليه السلام- “فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى” . انتهى
فان قيل أن الٱية، ليست قطعية في الإسراء الجسدي، و أنه يجوز تقدير الآية هكذا : أسرى بروح عبده ليلا .
فجواب ذلك ان يقال أن لفظ العبد إنما يطلق على الروح والجسد معاً ، ولو كان مناماً ، لكان قال : بروح عبده ، وإلى روح عبده.
هذا وقد اتفق الأصوليون على أنَّ النص لا يُؤول إلا لدليل سمعي ثابت أو دليل عقلي قاطع فقالوا: لا يجوز تأويل النص لغير ذلك وإن ذلك عبث والنصوص تُصان عن العبث، ذكر ذلك كثير منهم كصاحب المحصول وغيره
وعليه فليس الاسراء مجرّد رؤيا منامية، أو حالة روحية.
فقد قال القرطبي في تفسيره بعد أن نقل اختلاف الناس حول الاسراء، مل نصه: “وَلَيْسَ فِي الْإِسْرَاءِ بِجَسَدِهِ وَحَالِ يَقَظَتِهِ اسْتِحَالَةٌ، وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِحَالَةِ، وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَقَالَ بِرُوحِ عَبْدِهِ وَلَمْ يَقُلْ بِعَبْدِهِ. وَقَوْلُهُ” مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ” يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ آيَةٌ وَلَا مُعْجِزَةٌ، وَلَمَا قَالَتْ لَهُ أُمُّ هَانِئٍ: لَا تحدث الناس…”. انتهى
وقال: “وَفِي نُصُوصِ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِالْبَدَنِ، وَإِذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِشَيْءٍ هُوَ مُجَوَّزٌ فِي الْعَقْلِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا طَرِيقَ إِلَى الْإِنْكَارِ، لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ”. انتهى
وجاء في فتح القدير للشوكاني، ما نصه: ” وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَصَرْفِ هَذَا النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَمَا يُمَاثِلُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ، وَلَا مُقْتَضًى لِذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ وَتَحْكِيمُ مَحْضِ الْعُقُولِ الْقَاصِرَةِ عَنْ فَهْمِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّهُ لَا يستحيل عليه سبحانه شيء”. انتهى
1- شبهة ابن الأزرق الأنجري المغربي، ان المسجد الأقصى هو غار حراء
زعم ابن الأزرق الأنجري أن ” المسجد الأقصى” الوارد في الٱية هو غار حراء الذي كان معبدا للمتحنثين قبل البعثة. والجواب على هذا الادعاء من وجوه:
-الوجه الأول: غار حراء مكان لا يكاد يتسع لشخصين، و الله عز وجل أخبر أن جيشا من المسلمين سيدخل المسجد الأقصى، وذلك في قوله تعالى في سورة الإسراء: “إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا”.
– الوجه الثاني: غار حراء لم يقل عنه أحد من أهل السير و الأخبار أنه كان مسجدا أو أنه كان يوما ما مُتعبدا للمتعبدين والمتحنثين من قريش.
-الوجه الثالث: المسلمون لم يتخذوا غار حراء قبلة لهم في صلاتهم قبل التحول إلى بيت الله الحرام، فالله تعالى قال: “وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِی كُنتَ عَلَیۡهَاۤ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن یَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن یَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِۚ” -البقرة 143-
والثابت تاريخيا أن قبلة المسلمين الأولى كانت قبل التحول إلى بيت الله الحرام في مكة هو المسجد الأقصى بلا خلاف.
الوجه الرابع: الرسول بيّن مكان المسجد الأقصى كما في سيرة ابن اسحاق، حيث ورد فيها أن ميمونة زوج النبي قالت: “يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال رسول الله صلى عليه وسلم: لا تقدرين على ذلك، يحول بينك وبينه الروم”. انتهى
2- في الكلام عن القول المنسوب لعائشة و معاوية والحسن البصري ان المعراج كان بالروح فقط
زعم بعض الناس أن عائشة رضي الله عنها ومعاوية يقولان بان المعراج كان رؤية منامية، واحتجوا لذلك بما حكاه عنهما ابن اسحاق، مع انه تردد هل كان الاسراء يقظة أو مناما فقال: “فالله أعلم أي ذلك كان، قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله، على أي حاليه كان نائمًا أو يقظان كل ذلك حق وصدق”. انتهى
ذكره عنه ابن هشام في تهذيب سيرته، وهو ظاهر في أن ابن إسحاق لما رأى كلام عائشة ومعاوية تردد في أنه كان في اليقظة أو في النوم، ولم يستطع أن يجزم بشيء، ولكنه لم يستطع أيضًا أن ينفي ما دلت عليه الأخبار أن ذلك كان يقظة عيانًا بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري في تفسيره قول ابن إسحاق، ثم رده أبلغ رد، فقال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله، حمله على البراق حتى أتاه وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال أسري بروحه دون جسده”. انتهى
قال ابن كثير في تفسيره: “وَقَدْ تَعَقَّبَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِالرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّشْنِيعِ، بِأَنَّ هَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ سِيَاقِ الْقُرْآنِ”. انتهى
أ-ما ينقل عن عائشة رضي الله عنها حول الاسراء.
قال الطبري: “حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد – أي ابن اسحاق-، قال: ثني بعض آل أبي بكر، أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه”. انتهى
وقد نقل الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية عن الصالحي الشامي تضعيف هذه الرواية عنها، وقال: “وكل هذا يوهنه، بل الذي يدل عليه صحيح قولها إنه -أي الاسراء- بجسده الشريف لانكارها رؤيته لربه رؤية عين، ولو كانت عندها مناما لم تنكره، وحديثها هذا ليس بالثايت عنها انتهى، يعني لما في متنه من العلة القادحة، وفي سنده من انقطاع و راو مجهول. وقال ابن دحية في التنوير: انه حديث موضوع عليها، وقال في معراجه الصغير: قال امام الشافعية أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح، و انما وضع ردا للحديث الصحيح”. انتهى
وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إبراهيم بن الهيثم البلدي عن محمد بن كثير الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا:
نعم. قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق. فقالوا: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
وقد رواه البيهقي، والحاكم فيما نقله الحافظ ابن كثير، ورواه أيضًا ابن الأثير في أسد الغابة، بإسناده من طريق المفضل بن غسان عن محمد بن كثير الصنعاني، وهذا إسناد صحيح صححه الحاكم ووافقه الحافظ الذهبي، وهو ينقض رواية ابن إسحاق المجهول إسنادها؛ لأن عائشة – رضي الله عنها – ترى أن خبر الإسراء كان من أثره أن كذب من كذب، وارتد من ارتد، وأن أباها الصديق رضي الله عنه صدق الخبر وأبان عن حجته في التصديق، فلو كانت ترى أن ذلك كان بالروح أو أنه كان منامًا لما كان هناك معنى عندها للتصديق والتكذيب، ولا فتنة يفتن بها من ضعف يقينه فيرتد عن دينه؛ ومن الغرائب أن بعض الناس احتجوا بما نقله ابن اسحاق من غير إسناد عن عائشة، ثم أخطأوا في نقلهم خطأ ينقض حجتهم، فإن رواية ابن إسحاق عنها: ما فُقد جسد رسول الله، بالبناء للمجهول، فنقلوها: ما فقدت جسد رسول الله، فجعلوا حجتهم تحمل معول هدمها؛ لأن الثابت الصحيح أن الإسراء كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، ولم تكن عائشة إذ ذاك تزيد سنها على السابعة، ولم تكن في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يدخل بها إلا في المدينة بعد الهجرة، فليس من المنطق السليم أن يحكى عن لسانها أنها تقول: “ما فقدت جسد رسول الله”.
ب-ما ينقل عن معاوية حول الاسراء.
قال الطبري: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
والجواب على هذه الشبهة من ثلاث أوجه:
-الوجه الأول ان يقال أن سند الرواية منقطع.
قال الصالحي الشامي في سبل الهدى و الرشاد: “وهذا المذهب يعزى لمعاوية بن أبي سفيان فإن ابن إسحاق قال: “حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كانت رؤيا من الله تعالى صادقة”. ويعقوب وإن كان ثقة إلا أنه لم يدرك معاوية فالحجة منقطعة”. انتهى
-الوجه الثاني أن يقال: العرب تستخدم كلمة “الرؤيا” لا “الرؤية” للأمر الحقيقي إذا كان عجيبًا نادرًا.
قال الكشميري الهندي في فيض الباري على صحيح البخاري: “واعلم أن ما يرَونه الأنبياءُ عليهم السلام من أشياء الغيب في اليقظة يقال له: الرؤيا أيضًا، لأن الرؤيا التي يراها النائم في نومه لا يراها غيرُه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام يرون أشياء في اليقظة ولا يراها غيرُهم”. انتهى
– الوجه الثالث أن يقال أن جواب معاوية كان متعلقا برؤى الاسراء التي رأها النبي في منامه قبل البعثة، وذلك بحسب ما فهمه معاوية من سؤال السائلين عن ذلك.
ج- ما ينقل عن الحسن البصري حول الاسراء
قال الطبري حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولها -أي عائشة و معاوية- الحسن أن هذه الآية نزلت “وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ” ولقول الله في الخبر عن إبراهيم، إذ قال لابنه “يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى” ثم مضى على ذلك، فعرفت أن الوحي يأتي بالأنبياء من الله أيقاظا ونياما، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقول: “تَنَامُ عَيْني وَقَلْبي يَقْظانُ”. انتهى
وهذا النقل عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه كان يقول بأن الإسراء كان منامًا، نقل خاطئ؛ فإنه لم يرو عنه هذا القول بأي إسناد، و الظاهر أن الذين نقلوا عنه هذا القول قرؤوا كلام ابن إسحاق وفهموه على غير وجهه؛
لأنه نقل روايتي عائشة ومعاوية ثم احتج لتأييدهما بأنه لم ينكرهما أحد؛ لأن الحسن قال: إن قوله – تعالى -: “وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ”- الإسراء: 60- أنزل في ذلك، أي الإسراء والمعراج، فهو يريد الاحتجاج
بكلمة “الرؤيا” لغلبة استعمالها فيما كان منامًا، وبأنه إذا كانت الآية نزلت في هذه الحادثة كان ذلك لا ينفي قول من زعم أن الإسراء والمعراج لم يكونا في اليقظة،
ففهم بعض من قرأ قوله أنه ينقل عن الحسن ما يوافق كلمتي عائشة ومعاوية.
وهذا فهم خطأ يظهر خطؤه واضحًا لمن تأمل سياق الكلام ومعناه.
وقوله تعالى : “وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ”-الإسراء: 60- نزل في شأن الإسراء والمعراج على القول الراجح عند العلماء، ولكن احتجاج ابن إسحاق بذلك لتأييد كلمتي عائشة ومعاوية غير جيد؛ لأن الرؤيا تستعمل أيضًا في الرؤية بالعين، ففي لسان العرب: قال ابن بري: وقد جاءت الرؤيا في اليقظة:
قال الراعي:
فكبر للرؤيا وهش فؤاده … وبشر نفساً كان قبل يلومها
وعليه فسر قوله – تعالى -: “وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ”-الإسراء: 60- وعليه قول أبي الطيب:
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
وقد روى الإمام أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، وليست برؤيا منام، وفي لفظ: شيء أريه النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، رآه بعينه حين ذُهب به إلى بيت المقدس. وليس أصرح من هذا نص ولا أقوى منه حجة؛ لأن ابن عباس – وهو ترجمان القرآن – يفسر به الآية، ويرى أن الإسراء كان في اليقظة، وينقل أن كلمة الرؤيا في هذه الٱية في لغة القرآن بمعنى الرؤية. وابن عباس رضي الله عنهما دعى له الرسول فقال:” اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”. انتهى
3- في بيان معنى رواية حذيفة بن اليمان عن الاسراء و المعراج
جاء في مسند الامام أحمد ما نصه: “حدثنا يونس حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش -وهو من كبار التابعين- عن حذيفة بن اليمان أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم “أُتِيَ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَلَمْ يُزَايِلاَ ظَهْرَهُ هُوَ وَجِبْرِيلُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَعِدَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَأَرَاهُ الجَنَّةَ وَالنَّارَ”. ثُمَّ قَالَ -أي حذيفة- لِي: هَلْ صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا اسْمُكَ يَا أَصْلَعُ؟ إِنِّي لأَعْرِفُ وَجْهَكَ وَمَا أَدْرِي مَا اسْمُكَ. قَالَ: قُلْتُ: أَنَا زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ. قَالَ: فَأَيْنَ تَجِدُهُ صَلَّى؟ فَتَلَوْتُ الآيَةَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَ: فَإِنَّهُ لَوْ صَلَّى فِيهِ لَصَلَّيْتُمْ كَمَا تُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ: قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ: أَرَبَطَ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: أَكَانَ يَخَافُ أَنْ تَذْهَبَ مِنْهُ وَقَدْ أَتَاهُ اللهُ بِهَا؟
وفي رواية : ثم ضحك حتى رأيت نواجذه قال : ويحدثون أنه ربطه لم ؟ أيفر منه ؟ وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة.
فحذيفة نفى في هذه الرواية صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس، وعَلِّل ذلك بالحذر من فرضها على المسلمين، وكذلك نفى ربط البراق خارج المسجد، ثم نفى مزايلة ظهر البراق طوال رحلة الإسراء والمعراج، وهذا كله على خلاف ما ذكره بقية الصحابة، وهو هنا لم ينقل أمرًا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُصرِّح بذلك، والظاهر ان حذيفة اعتمد في كلامه هذا على الروايات التي تصف حادثة الاسراء و المعراج في الرؤيا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تبلغه الروايات الأخرى التي نقلها مالك بن صعصعة، وأنس بن مالك، وأبو ذرٍّ الغفاري، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم، والتي تذكر الاسراء و المعراج الحقيقيين.
كما أن تعليله رضي الله عنه لعدم الصلاة في المسجد الأقصى مخالف لأفعال الصحابة، وفهمهم للأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى في أماكن كثيرة يعلمها الصحابة؛ ولكنهم لم يفهموا وجوب الصلاة فيها. ولا يلزم وجوب الصلاة في بيت المقدس إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلَّى فيه.
ثم ان القاعدة الأصولية تُؤَكِّد على أن الـمُثْبَت مقدَّم على المنفي، وقد أثبت كثير من الصحابة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى، وأثبتوا ربط البراق بالصخرة، كما أثبتوا مزايلة -أي ترك ظهر- البراق أثناء الرحلة، كما ورد في رواية البيهقي، التي أوضحت نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة قبل الوصول إلى بيت المقدس.
ثم إن سياق كلام حذيفة رضي الله عنه، وصف عدم المزايلة في الرحلة من مكة إلى بيت المقدس، ولا يستلزم السياق أن يمتدَّ الأمر إلى رحلة المعراج؛ فقد قال حذيفة رضي الله عنه: “فَلَمْ يُزَايِلاَ ظَهْرَهُ هُوَ وَجِبْرِيلُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَعِدَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ”. فكان وصف عدم المزايلة شارحًا الأمر حتى الانتهاء إلى بيت المقدس، ولا يستلزم الكلام أن يكون قد أكمل الرحلة إلى السماء بالوسيلة نفسها
4- شبهة ان أحاديث الاسراء من وضع بني أمية
زعم بعض أدعياء المشيخة ان أحاديث الاسراء والمعراج، هي مرويات مكذوبة تم اختلاقها زمن بني أمية، و أن وضع تلك الأحاديث وافق زمن حكم عبد الملك بن مروان ومن بعده ابنه الوليد بن عبد الملك، وفي أيامهما تم تلفيق الأحاديث في فضل المسجد الأقصى لترسيخ المشروعية الدينية للدولة الأموية.
والجواب على هذه الشبهة أن يقال بعض أحاديث الاسراء و المعراج رواها بعض السابقين الأولين من كبار الصحابة مثل أبي ذر الغفاري الذي روى عنه البخاري. وحديث أبي ذر يعتبر في أعلى درجات الصحة.
وأبو ذر كان على خلاف ظلهر مع بني أمية، فحين بنى معاوية قصر الخضراء في دمشق قال له أبو ذر: «إن كانت هذه الدار من مال لله فهي الخيانة وإن كانت من مالك فهو الإسراف»
وجاء في حلية الأولياء للحافظ أبي نعيم ما نصه: حدثني سفيان بن وكيع ثنا سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن من سمع أبا ذر رضي الله عنه يقول: “إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل ولبطن الأرض أحب إلي من ظهرها وللفقر أحب إلي من الغنى”. انتهى
ثم لو كانت أحاديث الاسراء و المعراج من وضع بني أمية، فلما لم يزيلوا المقالات المنسوبة لبعض الصحابة كحذيفة بن اليمان الذي قال ان النبي لم يصل في المسجد الأقصى مثلا؟
روابط ذات علاقة
المسجد الأقصى
تاريخ المسجد الأقصى
شبهة ان المسجد الاقصى كان مزبلة زمن الاسراء
رد دعوى بيت المقدس بالجعرانة
المسجد القبلي
ذكر المسجد الأقصى في المخطوطات القرٱنية المبكرة
بيان ان الاسراء كان يقظة
شبهة اسراء موسى
الاسراء والمعراج
شبهة استدلال نفاة المعراج بقوله تعالى: “أَوۡ تَرۡقَىٰ فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَن نُّؤۡمِنَ لِرُقِیِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَیۡنَا كِتَـٰبࣰا نَّقۡرَؤُه”
بيان معنى المعراج، وأنه لم يكن بالبراق
شبهات حول البراق https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=3627527850659268&id=194651207280300
شبهات الملاحدة حول الاسراء
