تعقيب على مقال كلود جيليو حول مصادر القرآن
في مقاله المنشور بعنوان
“Le Coran, production littéraire de l’Antiquité tardive ou Mahomet interprète dans le «lectionnaire arabe» de la Mecque”
في مجلة
Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée
العدد 129، سنة 2011، صحيفة. 31-56، ذهب المستشرق الفرنسي كلود جيليو
Claude Gilliot
إلى القول بأن القرآن الكريم ليس وحياً إلهياً، بل هو ـ بحسب تصوره ـ مجرد تجميع لنصوص دينية ذات جذور نصرانية وغيرها، جُمعت بهدف تشكيل كتاب ليتورجي عربي يُستخدم في الشعائر والصلوات، وزعم أن هذا الكتاب كان يسمى “قريانا”.
وانطلق جيليو من هذا الافتراض ليقول إن لفظ “قرآن” مشتق من اللفظ السرياني “قريانا” الدال على القراءة الليتورجية. غير أنّ هذه الدعوى تخالف ما أثبته أهل اللغة والتاريخ، إذ إنّ كلمة “قرآن” عربيةٌ صميمة، استُعملت في الجاهلية والإسلام بمعنى الكلام المقروء والمنظوم المتلوّ. ومن الشواهد على ذلك ما أورده الدقيقي في كتاب “اتفاق المباني وافتراق المعاني” حيث ذكر أن أبا بكر الصديق سأل عن «قرآن مسيلمة» أي: الكلام الذي كان يزعمه ويدّعي نزوله عليه ويقرؤه على أتباعه. كما وصف ابن الأثير في “المثل السائر” كتاب الشاهنامة بأنه «قرآن القوم»، أي كتابهم المتداول والمتلوّ الذي يعظمونه، وتسمية بعض المؤرخين لقرآن برغواطة، أي الذي كان يقرؤه بربر برغواطة، مما يدل على رسوخ استعمال كلمة قرآن في العربية باستقلالية عن أي مصدر سرياني.
وقد عمد جيليو إلى إطلاق مصطلحين وهما:
“قرآن المنبع” le Coran en amont
ويقصد به ـ بحسب زعمه ـ النصوص أو التقاليد الدينية السابقة التي يفترض أنها كانت «أصل» القرآن.
“قرآن المصبّ” (le Coran en aval):
أي القرآن الذي وصل إلينا بصيغته المدونة في المصاحف العثمانية.
وتقوم هذه الفرضية على إنكار الوحي والرسالة، وردّ القرآن إلى بنية نصية مركبة سابقة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو تصور يعكس منهجاً استشراقياً يقوم على إعادة تفسير النص القرآني خارج إطاره التاريخي واللغوي والديني العربي الإسلامي، مع إغفال واضح لأصالة البنية اللغوية للقرآن، وتجاهل حجية الاستعمال العربي المباشر للفظ قرآن قبل البعثة وبعدها، وكذلك إغفال الخصائص البلاغية والنسقية التي تميّز النص القرآني عن سائر النصوص الدينية.
كما ادّعى كلود جيليو كذلك أنّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن المؤلف الوحيد لما سماه «القريانة العربية»، بل كان معه ـ حسب زعمه ـ فريق من المعاونين يتولّى جمع نصوص من أسفار اليهود والنصارى وغيرها، ثم يقوم بانتقاء ما يصلح منها لاستخدامه في الصلوات والعبادات وصياغتها العربية. غير أنّ هذا الادعاء يُثير عدداً من التساؤلات المنهجية والواقعية البالغة الإحراج لأصحابه قبل غيرهم:
فإذا كان هؤلاء المزعومون معلمين ومعاونين، فلماذا لم يظهر أحد منهم ليشارك محمداً في المكانة والدور؟ وكيف بقي جميعهم ـ على فرض وجودهم ـ في الظل تماماً، فلم يذكرهم أحد من معاصريهم، ولم يدّعِ أحد منهم يوماً أنه صاحب فضل أو مشاركة؟ إنّ التصوّر الإنساني البسيط يدلّ على أنّ النفوس قد تجنح إلى التنافس والغيرة والمزاحمة في مثل هذه المواضع، فكيف ـ إذاً ـ انعدمت هذه الطبائع تماماً هنا؟
ويذهب جيليو أبعد من ذلك حين يلمح إلى أنّ لغات بعض هؤلاء «المعاونين» قد تكون العبرية أو السريانية أو الآرامية، وكأنّ مكة في القرن السابع الميلادي كانت تضم معهداً أكاديمياً لتدريس اللغات الشرقية، أو مركزاً للترجمة المقارنة وتشغيل اللغويين، مع أن البيئة المكية في تلك الفترة كانت في معظمها شفوية، ولم تكن الترجمة إلى العربية أو منها قد استقرت بعدُ على أي نحو مؤسسي أو منهجي. بل إنّ الترجمات التي ظهرت بعد ذلك بقرون ـ كترجمات حنين بن إسحاق ومدرسته في العصر العباسي ـ تُظهر بوضوح أثراً للعجمة وصعوبة في الأسلوب وتفاوتاً في الصياغة، رغم كونها ناتجة عن مدرسة علمية مكتملة ومؤسسة حقيقية للترجمة. فكيف يُعقل أن تنتج ترجمة دينية دقيقة فائقة البيان في مكة قبل قرنين كاملين من ظهور حركة الترجمة نفسها؟
إنّ الفرضية التي يصوّرها جيليو لا تختلف في بنائها السردي عن مشهدٍ روائيّ: مجموعة تجتمع في الخفاء، تختار نصوصاً، تترجمها، تُعيد صياغتها في بنية لغوية محكمة، ثم تراجعها مراجعة دقيقة حتى تخلو من آثار النقل والترجمة. ولكن هذه الصورة، فضلاً عن بعدها عن الواقع التاريخي واللغوي، تفتقر إلى أي شاهد نقلي أو وثيقة أو أثر. فشخصيات الدائرة الأقرب للنبي صلى الله عليه وسلم معلومة بالاسم والسيرة من مراحل ما قبل البعثة إلى نزول الوحي وما بعده: خديجة، أبو بكر، علي، عثمان، الأرقم بن أبي الأرقم وغيرهم. وكلهم معروفون بماضيهم وما كانوا يقومون به، ولا يوجد في سيرهم ما يدل على مشاركتهم في مشروع ترجمة أو تأليف جماعي من هذا النوع.
وهذا كله يستدعي خلوّ بال هؤلاء من مقلقات العيش ومتطلبات الحياة، وهو ما يستلزم وجود مؤسسة تنفق على هذا المشروع وعلى من يقومون به عن سعة.
كما أن الرواية الاستشرقية التقليدية التي تزعم تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالرهبان والقساوسة إبان رحلاته التجارية تعاني من الصعوبة نفسها؛ إذ إنّ رحلات التجارة لم تكن فردية، بل كانت قوافل كبيرة تحت أعين الرفاق والتجّار، ومنهم ميسرة غلام خديجة الذي رافقه في السفر. وهذا يجعل فكرة اللقاءات السرّية المطوّلة المتخصصة في النصوص الدينية أمراً غير ذي معقولية تاريخية.
وبناءً على ذلك، فإنّ هذه الفرضيات، سواء في شقها اللغوي أو التاريخي أو السوسيولوجي، تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى البحث العلمي الرصين. فهي تُبنى على الافتراض لا على الوثيقة، وعلى الاحتمال لا على الشاهد، وعلى التفسير المتكلّف لا على فهم البيئة اللغوية والثقافية للحجاز في القرن السابع.
هذا وقد انبرى توماس كارلايل
Thomas Carlyle
في كتابه المشهور «عن البطولة وعبادة الأبطال»
On Heroes, Hero-worship, and the Heroic in History
للرد على هذه المزاعم الاستشراقية، مسفِّهاً الرواية التي يستند إليها بعضهم في القول إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد تلقّى تعاليم النصرانية عن الراهب بحيرا في رحلته إلى الشام وهو صغير، ثم احتفظ بها حتى صاغ منها لاحقاً ما دعا إليه من دين. وقد بيّن كارلايل أن هذه القصة لا تقوم على أساس عقلي ولا تاريخي، لأن محمدًا ـ كما يقول ـ كان صبيًّا في الرابعة عشرة من عمره، واللقاء المزعوم كان في حضور رجال مكة، ولم يكن ثمة مجال ولا ظرف يسمحان بمناقشة قضايا دينية عميقة في مثل تلك الأحوال. ثم إن النبي لم يكن يعرف لغة غير العربية، مما يجعل إمكان تلقيه علوم النصرانية ـ التي كانت تخاطَب بالسريانية واليونانية والقبطية ـ أمراً متعذراً من الأساس.
حيث قال كارلايل:
“I know not what to make of that ‘Sergius, the Nestorian Monk,’ whom Abu Thaleb and he are said to have lodged with; or how much any monk could have taught one still so young. Probably enough it is greatly exaggerated, this of the Nestorian Monk. Mahomet was only fourteen; had no language but his own.”
والترجمة هو قوله:
«لا أعلم ما الذي يمكن أن أقوله عن الراهب النسطوري (سيرجيوس/بحيرا) الذي يُقال إن أبا طالب ومحمدًا قد نزلا عنده، ولا مقدار ما يمكن لراهب أن يعلّمه لصبي في مثل تلك السن. والأرجح أن قصة الراهب النسطوري هذه مبالغ فيها إلى حد كبير. لقد كان محمد في الرابعة عشرة فقط، ولم يكن يعرف إلا لغته العربية.». انتهى
وبذلك يؤكد كارلايل ـ وهو من أبرز أعلام الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر ـ أن هذه الرواية التي يتشبث بها بعض المستشرقين ليست إلا افتراضاً هزيلًا، حُشد لخدمة أطروحة مسبقة، دون أن يُسندها تاريخ ولا عقل ولا سياق واقعي.
كما رُوِّج كذلك في الأدبيات الاستشراقية والمبشرية أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم استقى دينه من الحنفاء الذين كانوا قبل البعثة يدعون إلى التوحيد وينكرون عبادة الأصنام. غير أن هذا الزعم يواجه إشكالاً جوهرياً يتجاهله أصحابه تماماً، وهو أن هؤلاء الحنفاء أنفسهم قد أسلموا أو أسلم أبناء من مات منهم، بل وأسلمت أسرهم من بعدهم. فلو كان النبي ـ كما يزعمون ـ مجرد تلميذ لهم، وكانوا هم الأساتذة، لكان من الطبيعي أن يدّعي أحدهم السبق والفضل، أو على الأقل أن يرفضوا اتباعه، لا أن يؤمنوا به عن قناعة ويسلموا قيادهم للوحي الذي جاء به.
ثم إن منطق الأشياء وسنن البشر لا يخلو من التنافس والحسد والمباهاة؛ فكيف يكون هؤلاء المعلمون المزعومون قد رأوا تلميذهم ـ الذي يدّعون أنهم لقّنوه ـ يخرج على الناس برسالة كونية، تهدم ما عند غيرها من الشرائع المحرّفة، وتصحح التوحيد، وتُقيم دولة، ثم يصمت الجميع صمتاً مطبقاً، فلا يظهر واحد منهم ليقول: «أنا الذي علمته»، أو: «هذه المعارف من صناعتنا». إن هذا غياب تام للصوت المضاد، وهو أمر لا يمكن تفسيره إلا بانعدام أصل الدعوى نفسها.
وبالمثل، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلم من القساوسة والرهبان أو أخذ من اليهود والنصارى، فمن المنطقي أن يقوم واحد منهم، على الأقل، بفضح ذلك حين صار الإسلام يناقض عقائدهم، وينتقد تصوراتهم عن الله، ويجاهر بتوحيد خالص ينقض أصولهم اللاهوتية. فكيف لم يظهر معارض واحد فقط ممن زُعم أنهم علّموه أو ساعدوه؟ وكيف ظل هذا «السر» ـ إن وُجد ـ مكتوماً على مدى عشرات السنين في بيئة قبلية تقوم على التنافس والافتخار والتكاثر بالإنجازات؟
إن هذا الصمت الكلي، عبر الزمن، عن «معلّمين مزعومين»، مع ما نعرفه تاريخياً من أسماء من رافقوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، ومن أسلموا ومن عارضوا، ومن كتبوا عنه ورصدوا دقائق سيرته، يجعل هذه الدعوى ساقطة من أساسها. فهي مبنية على الاحتمال والتخمين، لا على واقعة تاريخية موثقة، ولا على وثيقة نصية، ولا على شهادة معاصرة.
ولا تقف هشاشة هذا الادعاء عند حدود غياب الدليل التاريخي، بل تتبدى أكثر حين نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خصوم متعددون من النصارى والمنافقين واليهود والوثنيين، ممن كانوا يتربصون به ويتتبعون كل ما يمكن أن ينال من دعوته أو يشكك في نبوته. فلو كانت هناك حقيقة لما يسمونه «القريانة العربية» أو لو كان النبي قد تلقّى تعليمه الديني على أيدي نصارى أو حنفاء، لكانت تلك فرصة ثمينة لا تفوّت لأعدائه في حياته، قبل أن تستثمر بعد قرون في كتابات المستشرقين.
فها هو زوج رملة بنت أبي سفيان ممن هاجر إلى الحبشة، ثم تنصّر هناك، وجاهر باستهزائه بالمسلمين وادعائه أنه «أبصر» وهم «ما زالوا في العمى»، ومع ذلك لم يتهم النبي قط بأنه مجرد تابع للنصرانية أو أنه كان بصدد إنشاء كتاب ليتورجي عربي.
وكذلك أمية بن أبي الصلت، الذي كان يتطلع للنبوة، ويُروى عنه أنه كان يعتقد أنه هو النبي المنتظر، وقد خاصم النبي صلى الله عليه وسلم وأضمر له الضغينة. ولو كان في يد أمية شيء من تلك الدعوى، لكان يكفيه مجرد التصريح بها لنسف دعوة الإسلام من أصلها، ولكسب لنفسه المكانة التي كان يطمح إليها. ومع ذلك لم يذكر شيئاً من ذلك قط.
وهذا وفد نجران الذي قدم إلى المدينة لمناظرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعوا إلى المباهلة فنكصوا عنها وآثروا دفع الجزية. ولو كان في حوزتهم أي دليل على أن النبي متأثر بعقائد النصارى أو أنه يأخذ عن «اليعاقبة» ـ كما يدعي بعض الباحثين المعاصرين ـ لكان هذا موضعه الأمثل لإظهاره، لا أن يختاروا الانسحاب ودفع الجزية.
ومثل ذلك جَبَلة بن الأيهم الذي ارتد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهرب إلى الروم وصار من مقرّبيهم. ولو كان يعلم شيئاً من هذا «السر المزعوم» لكشفه في بلاط الروم، ولوجد فيه وسيلة للنيل من الإسلام وإعلاء مكانته بينهم. لكنه لم يقل شيئاً من ذلك.
أما يهود المدينة فقد اشتهرت عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحربهم له حرباً فكرية وعقدية وسياسية. ولم يتورع بعضهم عن الذهاب إلى مكة في أوج الصراع ليقولوا للمشركين: “دينكم خير من دين محمد”. فلو كان لديهم أدنى علم أو شبه دعوى تتعلق بتلقي النبي دينه من النصارى أو الحنفاء، لكان هذا هو سلاحهم الأول في المواجهة.
إن سكوت جميع هؤلاء الخصوم من مختلف الاتجاهات، وفي سياقات الصراع المباشر، رغم امتلاكهم الدافع القوي والطاقة الجدلية والفضاء السياسي والإعلامي المناسب، يدل بوضوح على انعدام أصل الدعوى. فلو كان هناك ما يستر ويُكتم لظهر منذ اللحظة الأولى، ولتحوّل إلى أشدّ أسلحة الخصومة شراسة.
فالسبب في هذا الصمت العام ليس إلا أنه لم يكن ثمّة شيء من هذا كله، وأن ما يُطرح اليوم في بعض الكتابات المعاصرة مجرد افتراضات ذهنية لا تسندها وثيقة ولا شهادة ولا سياق تاريخي منضبط.
ملاحظة: المستشرق القسيس الفرنسي كلود جيليو انتحر
في 15/3/2025
عن سن تناهز أربع وثمانين سنة
وبقيت ظروف وفاته مجهولة حتى وقفت المجلة الأسبوعية الفرنسية
[باري ماتش PARIS MATCH]
على تقرير الشرطة الفرنسية الذي تضمن اكتشاف كمية من العقاقير الطبية التي تناولها في شقته التي كان يعيش فيها وحيدا.
رابط ذو علاقة
