رسالة الذهبي لابن تيمية
هذه الرسالة ثابتة عن الذهبي الذي كان تلميذًا لابن تيمية.
وقد حاول بعضهم الطعن فيها بشبه واهية منها:
-الأولى: أنها مناقضة لعبارات أخرى وردت في كتب الذهبي في ترجمة ابن تيمية وفيها الثناء الكبير عليه.
-الثانية: أن النسخة الخطية من هذه الرسالة هي بخط ابن قاضي شهبة وهو من ألد خصوم ابن تيمية وشهادة الخصم على خصمه مردودة شرعًا بزعمهم،
-الثالثة: أن الحافظ السخاوي الذي ذكر الرسالة له كلام بخس في حق ابن تيمية
وقد اثبت المحقق بشار عواد صحة هذه الرسالة ، فقال:
“وهي رسالة بعث بها الذهبي إلى شيخه ورفيقه أبي العباس ابن تيمية الحراني ينصحه فيها ويعاتبه في بعض تصرفاته ، وهي رسالة مفيدة في تبيان عقيدة الذهبي وقد ذكرها السخاوي في الاعلان .. وذهب بعضهم إلى القول بأنها مزورة ولا عبرة بذلك”. انتهى
وقال أيضاً : “ومع أن الذهبي قد خالف رفيقه وشيخه – أي ابن تيمية – في مسائل أصلية وفرعية، وأرسل إليه نصيحته الذهبية التي يلومه ، وينتقد بعض آرائه وآراء أصحابه بها ، إلا أنه بلا ريب قد تأثر به تأثراً عظيماً”. انتهى
والجواب على الادعاءات السابقة كما يلي:
أ-الشبهة الأولى جوابها أن يقال: لا مانع أن يثني عالم على شخص معين في بادىء الأمر اعتمادًا على تحسين الظن فيه ثم بعدما يتبين له حاله يقدحه ويذمه، وهذا أمر مشاهد ومعروف.
فقد كان في جملة المثنين على ابن تيمية التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمَّد بن الحريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء غرّ ابن تيمية ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم، فبدأ يذيع بدعًا بين حين وءاخر، وأهل العلم يتسامحون معه باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح، فتخلَّوا عنه واحدًا إثر واحد على توالي فتنه .
ومما يؤكد لنا من أن الذهبي أثنى عليه أول الأمر ثم لما انكشف له حاله أرسل له هذه الرسالة على وجه النصيحة كلام الذهبي نفسه في رسالته ” بيان زغل العلم والطلب ” فقد قال ما نصه: ” فوالله ما رمقت عيني أوسع علمًا ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت أَخَّرَهُ بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفَّروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله المسامحة، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وءاثام أصدقائهم، وما سلَّطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقّون، فلا تكن في ريب من ذلك “. انتهى
وقال الذهبي في موضع ءاخر من رسالته ما نصّه: ” فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة وءاراء الأوائل ومحارات العقول، واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسُّنّة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقاربها، وقد رأيتَ ما ءال أمره إليه من الحطّ عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحقّ وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوَّرًا مضيئًا على مُحَيَّاه سِيْمَا السلف، ثم صار مظلمًا مكسوفًا عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجّالاً أفّاكًا كافرًا عند أعدائه، ومبتدعًا فاضلاً محقّقًا بارعًا عند طوائف من عقلاء الفضلاء “. انتهى
والحق ان العلماء الذين ناظروا ابن تيمية يوجد منهم من هم أورع منه وأعلم منه وأزهد منه، بخلاف قول الذهبي في الأول. وأما قوله أنه خاض في الفلسفة فهذا ثابت عن ابن تيمية، وعن تلميذه ابن القيم.
راجع الرابط التالي:
فتبيّن أن الذهبي ذمّ ابن تيمية لأنه خاض بالفلسفة والكلام المذموم أي كلام المبتدعة في العقيدة كالمعتزلة والحشوية، وهذا القدح في ابن تيمية من الذهبي يضعف الثناء الذي أثنى عليه في تذكرة الحفّاظ بقوله: ” ما رأت عيناي مثله وكأن السُّنّة نصب عينيه “.
ومن جملة ما يقوله الذهبي في حق ابن تيمية ما نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في ” الدرر الكامنة ” عنه ونصه: ” وأنا (أي الذهبي) لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية “.
وقد علق الاستاذ المحقق الصرخي على رسالة الذهبي الموجهة لابن تيمية بقوله : “رسالة من التلميذ إلى أستاذه، من المغرر به إلى المغرر، من التائب المستغفر إلى المغالط والمصر على الإثم والعدوان”. انتهى
ب-الشبهة الثانية جوابها أن يقال: ان ابن قاضي شهبة لم يفتر على ابن تيمية ولم يلفق له أقوالا إنما طعن فيه لما ثبت له من زيغه وفساد عقيدته ، ومن راجع كتب ابن تيمية وجد فيها ما ذكره عنه ابن قاضي شهبة.
ثم إن هذا الأخير لم ينفرد بالطعن بابن تيمية فقد سبقه العديد من العلماء والفقهاء والمحدثين والحفاظ من المذاهب الأربعة المعاصرين له وتبعهم على ذلك خلق كثير، وأمره كما قال الحافظ الفقيه المجتهد تقي الدين السبكي: ” وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور “. انتهى
وهذه النسخة الخطية محفوظة في دار الكتب المصرية ـ القاهرة ـ تحت رقم /18823 ب، وهي مكتوبة بخط الفقيه ابن قاضي شهبة، نقلًا عن خط قاضي القضاة برهان الدين المعروف بابن جماعة ، عن خط الحافظ أبي سعيد العلائي المنسوخ عن خط الذهبي نفسه.
وفيما يلي ترجمتهم.
– الفقيه المؤرخ أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر الأسدي الدمشقي الشافعي المعروف بابن قاضي شهبة: ولد بدمشق سنة 779هـ، وأخذ عن جماعة كالسراج البلقيني وابن حجى والغزي وغيرهم ، وتصدَّى للإفتاء والتدريس، وحدَّث ببلده وبيت المقدس وسمع منه الفضلاء ، وناب في القضاء بدمشق، توفي بها سنة 851هـ. له من الآثار: طبقات الفقهاء الشافعية، ذيل على تاريخ الإسلام للذهبي ، تفسير القرءان الكريم، طبقات النحاة واللغويين، شرح منهاج الطالبين للنووي في فروع الفقه الشافعي وغيرها.
– قاضي القضاة المفسر برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن سعد الله بن جماعة ، ولد بمصر ، وسمع على أبيه وعمه ومن شيوخ مصر كيحيى بن المصري ويوسف الدلاصي والميدومي ومن في طبقتهم، ورحل إلى الشام فلازم المزي والذهبي وأكثر عنهما ، وانتهت إليه رئاسة العلماء في زمانه ، تولى القضاء بمصر ثم تولى قضاء الشام فباشره إلى أن مات سنة 790هـ. وترجمه الذهبي في المعجم المختص فقال فيه: ” الفقيه المحدث المفيد أحد من طلب وعني بتحصيل الأجزاء وقرأ وتميَّز ” ، جمع تفسيرًا في نحو عشر مجلدات.
-الحافظ الفقيه الأصولي أبو سعيد صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي الدمشقي الشافعي ، ولد بدمشق سنة 694هـ، أخذ عن خلق كثير بلغ عددهم بالسماع سبعمائة شيخ جمعهم في فهرس شيوخه، تولى تدريس الحديث بالمدرسة الناصرية ودار الحديث والمدرسة الأسدية وغيرها من المدارس في دمشق والقدس. سمع الحديث بالشام ومصر والحجاز وأفتى وجمع وصنف، توفي بالقدس سنة 761هـ. له الكثير من المصنفات تزيد على الثلاثين في الحديث وغيره.
وقدألحق الدكتور صلاح الدين المنجد النصيحة بكتابه المسمى “شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين”، وقال مُعلّقاً عليها : “شك بعضهم في نسبة هذه النصيحة للذهبي, ولا شك عندنا أنها له, فقد نقلت مخطوطاتها من خط الذهبي, و لم يُنكرها أحد من العلماء الذين نقلوها كتقي الدين بن قاضي شبهة و غيره. ثم إن هذا أُسلوب الذهبي عندما يُهاجم,و يبدو أنه كتبها في آخر عمره”. انتهى
فيتبين بهذا صحة نسبة هذه الرسالة عن طريق العلماء الثقات للذهبي. ونلفت النظر إلى أنه يوجد نسخة خطية أخرى من هذه الرسالة محفوظة في دار الكتب الظاهرية بدمشق تحت رقم/1347.
ج- الشبهة الثالثة جوابها أن يقال: هذه الرسالة ذكرها الحافظ السخاوي في ” الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ” فقال ما نصه: ” وقد رأيت له -أي للذهبي- عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة “. انتهى
والحافظ السخاوي لم يتهمه واحد من العلماء بالكذب أو الوضع حتى على خصومه.
بل كان للسخاوي علم بالمخطوطات ومعرفة بالكتب المزورة.
راجع الرابط التالي:
فيتلخص مما تقدم ان الرسالة ثابتة عن الذهبي بخلاف ما يدعيه اتباع ابن تيمية، منهم:
-محمد بن اسماعيل المقدم في كتابه تبرئة الذهبي من النصيحة المنسوبة اليه.
-محمد بن ابراهيم الشيباني الكويتي في التوضيح الجلي.
-فتحي عيساوي في التعليقات المنهجية
-محمد بن عبد الله أبو الفضل القونوي في كتاب أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي. حيث اتهم ابن السراج بكتابة الرسالة.
بل نجد بعض المعاصرين، رغم متابعتهم لابن تيمية ينتقدونه على جرأته في الطعن في بعض الأحاديث، مثل الألباني حيث قال في كتابه المسمى “السلسلة الصحيحة ” : “فمن العجيب حقا أن يتجرأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث -يعني: الحديث من كنت مولاه فعلي مولاه- وتكذيبه في المنهاج ، كما فعل بالحديث المتقدم هناك “انتهى
ثم قال في الأخير: ” فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث ، إلا التسرع والمبالغة في الر على الشيعة” انتهى




(قول بعضهم في رفض شهادات الأقران “مطلقا”) مردود لا عبرة به.
والصواب أنه ينظر فيه إلى أمور عديدة كنحو الشاهد والقرينة والمتابعة وغير ذلك.
فلو أن أحدا تناول تناول واحدا من أقرانه بالطعن في مسألة مشهورة عن الثاني ثابتة في حقه؛ فلا تُردُّ شهادته بعد ذلك. فإن ما تأكَّد بالرهان ليس كغيره. وكذلك لو جاء ثالث فتابع الأول في ذمه للثاني فإن هذه المتابعة تقوي شهادة الأول في الثاني؛ وهكذا..
وأما لو جاء رجل فطعن برجل ثان معاصر له وكان الثاني ثبتت إمامته وكثر مادحوه؛ وظهرت قرينة يلوح منها أن سبب طعن الأول بالثاني الحسد أو الدنيا أو التزام الطاعن بدعة ضلالة ونحو ذلك؛ فهنا لا يُلتفت لشهادة الأول في الثاني؛ ومن هذا الباب رُدَّت شهادات الطاعنين بأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم.
