سجع الكهان في الجاهلية
قال الدكتور شوقي ضيف في كتابه العصر الجاهلي مل نصه: “ومن كُهّانهم في أواخر العصر الجاهلي سواد بن قارب الدوسي وقد أدرك الإسلام ودخل فيه ، ومنهم المأمور الحارثي، كاهن بني الحارث بن كعب ، وخنافر الحميري ، وكان يقول إنه أسلم بمشورة تابعه « شيصار» . وأكهنهم عُزى سلمة، يقول الجاحظ : « أكهن العرب وأسجعهم سلمة بن أبي حية وهو الذي يقال له عزى سلمة . ومن قوله : ( والأرض والسماء ، والعقاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفّر المجد بني العشراء للمجد والسناء . ونجد بجانب هؤلاء الكهان جماعة من الكاهنات ، وربما كن في الأصل من يهبن أنفسهن للآلهة ومعابدها ، ومن أشهرهن الشعثاء وكاهنة ذي الخلصة والكاهنة السعدية والزرقاء بنت زهير والغيطلة القرشية و زبراء كاهنة بنى رئام، ويروى أنها أنذرتهم غارة عليهم فقالت : « واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنجم الطارق والمزن الوادق ، إن شجر الوادي ليأدوختلا، ويحرق أنياباً عصلا ، وإن صخر الطود لينذر ثكلا ، لا تجدون عنه معلا.
ونحن لا نطمئن إلى ما يروى فى كتب التاريخ والأدب من أقوال جرت على ألسنة هؤلاء الكهان والكاهنات، فإن بعد المسافة بين عصور التدوين والعصر الجاهلي يجعلنا نتهم مثل هذه الأقوال ، إذ من الصعب أن تروى بنصها وقد مضى
من عليها نحو قرنين من الزمان . وإنما استشهدنا ببعض منها لندل على أنه ثبت في أذهان تحدثوا عن الكهان والكاهنات فى الجاهلية أنهم كانوا يعتمدون على السجع في كلامهم ، ولذلك حين أجروا ألسنتهم بالكلام جعلوه مسجوعاً على شاكلة ما رويناه من أقوالهم. ومعنى ذلك أنه وجد في العصر الجاهلي الكهان ، وقد اختلط الأمر على بعض قريش فى أول نزول الذكر الحكيم ، فقرنوه بسجع كهنتهم ورد عليهم القرآن الكريم بمثل قوله جل وعز : (ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ) وقال سبحانه وتعالى : ( فذكر ، فما أنت بنعمة ربك بكاهن) وقال : (إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ) .
ومما يدل على أن كهنتهم كانوا يسجعون ، بل كانوا لا يتكلمون إلا بالسجع : الحديث المروي عن أبي هريرة، فقد حدث أنه « اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى رسول الله أن دية جنينها غرة : عبد أو وليدة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها … فقال حمل بن النابغة الهذلي : يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ، فمثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هذا إخوان الكهان، من
يطل من أجل سجعه الذي سجع.
ويقول الجاحظ : « كان حازى ( كاهن) جهينة وشيق وسطيح وعزَّى سلمة وأشباههم يتكهنون ويحكمون بالأسجاع. وإذا صح
أن ما يروى فى كتب التاريخ والأدب من سجع الكهان تقليد
دقيق لما كانوا يأتون به من هذا السجع لاحظنا أنهم لم يكونوا يسجعون فحسب ، بل كانوا يعمدون أيضاً إلى ألفاظ غامضة مبهمة ، حتى يتركوا فسحة لدى السامعين كي يؤول كل منهم ما يسمعه حسب فهمه وظروفه . ومن ثم دخل الرمز في كثير من أقوالهم ، إذ يومئون إلى ما يريدون إيماء ، وقلما صرحوا أو وضحوا ، بل دائماً يأتون المعاني من بعيد ، بل قل إنهم كانوا لا يحبون أن يصوروا في وضوح معنى ، و يتخذوا له أشباحاً واضحة من اللفظ تدل عليه، لأن ذلك يتعارض مع تنبئهم الذي يقوم على الإبهام والوهم واختيار الألفاظ التي تخدع السامع وجوهاً من الخدع ، ومن ثم كان من أهم ما يميز أسجاعهم عدم وضوح الدلالة وأن يكثر فيها الاختلاف والتأويل
وليس هذا كل ما يلاحظ على السجع الذى يضاف إليهم، فإنه يلاحظ عليه أيضاً كثرة الأقسام والأيمان بالكواكب والنجوم والرياح والسحب والليل الداجي والصبح المنير والأشجار والبحار وكثير من الطير . وفى ذلك ما يدل على اعتقادهم في هذه الأشياء وأن بها قوى وأرواحاً خفية ، ومن أجل ذلك يحلفون بها ، ليؤكدوا كلامهم وليبلغوا ما يريدون من التأثير في نفوس هؤلاء الوثنيين.
وهذا السجع الديني كان يقابله – كما قدمنا – سجع آخر في خطابتهم ، بل في كلامهم وأمثالهم التي دارت بينهم . ولعل في ذلك كله ما يدل على أن الجاهليين عنوا بنثرهم كما عنوا بشعرهم ، فقد ذهبوا يحاولون تحقيق قيم صوتية وتصويرية مختلفة فيه ، تكفل له جمال الصياغة وروعة الأداء”. انتهى
ومن السجع الذي يزعم بعضهم أنه وصلنا من الجاهلية، نصّ ورد في أمالي القالي يتحدث عن ثلاث بطون من قضاعة: بنو ناعب، وبنو داهن، وبنو رئام، وكانت بنو رئام أقلهم عدداً وأشدهم بأساً. ويذكر النص امرأة من بني رئام تُدعى خويلة، وكانت لها أَمَةٌ تُسمّى زبراء، وكانت زبراء كاهنة تنطق بالسجع وتنذر قومها بوقائع مقبلة بزعمهم. كما تضمن النص وصفاً لعرس اجتمع فيه رجال بني رئام، وذكروا أن زبراء نطقت بسجع إنذاري يتضمن إشارات رمزية إلى حرب محتملة. وقد قوبل كلامها بالاستهجان والاستخفاف من القوم.
ونصه: “وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا السكن بن سعيد، عَنْ محمد بن عباد، عَنْ هشام بن محمد، عَنْ أبي مخنف، عَنْ أشياخ من علماء قضاعة قالوا: كان ثلاثة أبطن من قضاعة مجتورين بين الشحر وحضر موت: بنو ناعب، وبنو داهنٍ، وبنو رئام، وكانت بنو رئام أقلهم عددا وأشجعهم لقاء، وكانت لبنى رئام عجوز تسمى خويلة، وكانت لها أمة من مولدات العرب تسمى زبراء، وكان يدخل عَلَى خويلة أربعون رجلا كلهم لها محرم، بنو إخوة وبنو أخوات، وكانت خويلة عقيما، وكان بنو ناعب وبنو داهن متظاهرين عَلَى بنى رئام، فاجتمع بنو رئام ذات يوم فِي عرس لهم وهم سبعون رجلا كلهم شجاع بئيس، فطعموا وأقبلوا عَلَى شرابهم، وكانت زبراء كاهنة، فقَالَت لخويلة: انطلقي بنا إِلَى قومك أنذرهم، فأقبلت خويلة تتوكأ عَلَى زبراء، فلما أبصرها القوم قاموا إجلالا لها، فقَالَت: يا ثمر الأكباد، وأنداد الأولاد وشجا الحساد، هذه زبراء، تخبركم عَنْ أنباء، قبل انحسار الظلماء، بالمؤيد الشنعاء، فاسمعوا ما تقول. قالوا: وما تقولين يا زبراء؟ قَالَت: واللوح الخافق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادى ليأدو ختلا، ويحرق أنياباً عصلاً، وإن صخر الطود لينذر ثكلا، لا تجدون عنه معلا، فوافقت قوما أشارى سكارى، فقالوا: ريح خجوج، بعيدة ما بين الفروج، أتت زبراء بالأبلق النتوج”. انتهى
و هذه الرواية لا يمكن الركون إليها من حيث التاريخ أو الدلالة الأدبية، إذ يغلب عليها طابع القصص الأسطوري الذي شاع في كتب الأخبار المتأخرة، حيث يتم توظيف الكهانة والسجع في إطار تفسير أحداث مجهولة أو محاولة منحها بعداً درامياً.
ويلاحظ أن السجع المنسوب لزبراء لا يخلو من عبارات تتداخل مع ألفاظ قرآنية أو مشيرة لها، مما يعزز احتمال كونه من صنع الرواة المتأخرين أو من صيغ أهل الأخبار، ومن ثمّ، فإن نسبة هذا الكلام إلى شخصية تاريخية – إن ثبت لها وجود أصلاً- تبقى موضع شك.
ثم إن فحص سند هذا النص يُظهر ضعفاً شديداً يمنع من قبوله، سواء أكان من جهة المتن أو من جهة الإسناد:
1. هشام بن محمد بن السائب الكلبي
اتهمه أئمة الجرح والتعديل بالتساهل في الرواية والإكثار من القصص، قال الإمام أحمد بن حنبل: «إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحداً يحدث عنه». وقال الدارقطني: «متروك الحديث». وذكره ابن عساكر بأنه «رافضي ليس بثقة».
2. أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي
وهو أشهر من يُتّهم بالهوى والتشيع والتوسع في القصص. جاء في ميزان الاعتدال:
أخباري تالف، لا يوثق به. تركه أبو حاتم وغيره. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم».
3. : ” أشياخ من علماء قضاعة”
هذا تعبير مجمل يفتقر إلى التعيين، والجهالة هنا قادحة في الإسناد، إذ لا يمكن الاعتماد على خبر منقول عن جهات غير مسمّاة.
وبناءً على ما سبق، فإن هذه الرواية لا يمكن اعتبارها مصدراً موثوقاً للتاريخ أو للأدب الجاهلي، ولا تصلح للاستشهاد على وجود شخصية تاريخية باسم زبراء أو نسبة هذا السجع إليها. فهي أقرب إلى النموذج القصصي الذي أعيد تركيبه في العصور الإسلامية المتأخرة لاستحضار رموز قبلية. وعليه، فإن التعامل معها ينبغي أن يكون بوصفها مادة فولكلورية أو سردية ثقافية لا بوصفها وثيقة تاريخية.
ملاحظة:
ذكر بعض العلماء أنه لا يقال أنه في القرآن سجع؛ بل يقال: توافق الفواصل، قال السيوطي في “ألفيته” في البلاغة:
وفي القرآن قل فواصل ولا يقال أسجاع فعنها قد علا
لأن السجع في الأصل اسمٌ لهدير الحمام، والقرآن يشرف أن يستعار له لفظ، وهو في أصل وضعه طائر، ولأن السجع كان من شعار الكهان. وقد أُخذ اسم الفواصل من قوله تعالى: ” كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” – فصلت: 3-
رابط ذو علاقة:
بيان أن القرآن هو نسق لم تعرفه العرب قديما:
