شبهة اقتباس سورة القدر من مصادر أهل الكتاب

شبهة اقتباس سورة القدر من مصادر أهل الكتاب

يُعدّ المستشرق اليهودي أبرهام غيغر Abraham Geige

من أبرز الباحثين الذين سعوا إلى الربط بين القصص القرآني والتراث الديني اليهودي، وذلك في كتابه المعروف:

Was hat Mohammed aus dem Judenthume aufgenommen?

وقد تبعه في هذا المسلك عدد من المستشرقين النصارى، محاولين العثور أيضا على أصول نصرانية في النص القرآني. ومن السور التي تناولها هؤلاء بالبحث؛ سورة القدر، حيث ادّعى فريق أنّ أصولها يهودية، بينما ذهب آخرون إلى أنها ذات جذور نصرانية.

ويرى الفريق الأول أنّ معرفة النبي ﷺ بالمزامير كانت مبكرة، وأن قوله تعالى في سورة القدر: ” لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾”، هو اقتباس من نص المزمور (84: 11): «إِنَّ يَوْمًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ».

غير أنّ هذا الربط يفتقر إلى الأسس العلمية والمنهجية، ويمكن مناقشته في ضوء النقاط الآتية:

– الصيغة العددية: التعبير بالأعداد الكبيرة للدلالة على المبالغة في القيمة أو الكثرة هو أسلوب بلاغي شائع، وهو معروف أيضا في اللغات السامية.

– اختلاف طبيعة المقارنة: المقارنة في النص القرآني محددة وواضحة بين ليلة القدر و ألف شهر. أمّا في المزمور، فالمقارنة بين يوم في ديار الرب و ألف يوم دون تحديد لمعنى “الديار” أو سياقها التعبدي.

– خصوصية المفهوم التعبدي: مفهوم ليلة القدر مفهوم خاص بالإسلام، لا وجود له في شريعة داود ولا في الشرائع السابقة، مما يُسقط دعوى الاقتباس من الناحية التاريخية واللاهوتية.

– اختلاف الموضوع والسياق: سورة القدر تتحدث عن نزول الملائكة والروح وانتشار السكينة حتى مطلع الفجر. أما نص المزمور، فغايته تعبير وجداني شخصي يتضرع فيه داود للحماية من أعدائه. وبالتالي فالاختلاف في البنية والمقاصد واضح، ولا يلتقي النصّان إلا في استخدام دلالة عددية عامة.

ومع ذلك، لا يمتنع من الناحية الدينية أن تكون بعض العبادات في الشرائع السابقة لها أوقات تتضاعف فيها الأجور. فاليهود، مثلاً، يرون أن يوم «كيبور» (يوم الغفران) يمحو الخطايا، أي أن أجره الروحي كبير عندهم.

أمّا الفريق الثاني، الذي ادّعى أن أصل السورة نصراني، فاستند إلى بعض نصوص مار أفرام السرياني، ومنها قوله: «لا نحسب سهرنا سهراً عادياً، بل هو عيد يفوق أجره مائة ضعف.»

ويرى هؤلاء تشابهاً بين هذا التعبير وبين آية سورة القدر، بدعوى أن كليهما يربط بين السهر الليلي والمكافأة الروحية.

غير أنّ الفرق بين السياقين واضح كذلك:

نص مار أفرام مرتبط بطقس الاحتفال بميلاد المسيح في النصرانية، وهو خطاب وعظي يعتمد على المبالغة البلاغية.

بينما النص القرآني مرتبط بليلة القدر، ويضع قياساً عددياً محدداً: «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».

كما أنّ مضاعفة الأجر في بعض الشرائع أمر معروف، فقد ورد في إنجيل متّى (19:29): «وكل من ترك بيوتًا أو إخوة… من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية.»

ثم إنّ تأريخ مخطوطات ترانيم الميلاد المنسوبة لمار أفرام ليس قطعياً ولا يمكن الجزم بأنها سابقة للبعثة النبوية، كما تشير الدراسات المشار إليها في الرابط التالي: https://www.facebook.com/share/p/17Q9ViHR7a/

وبالتالي فالقول بأن سورة القدر مقتبسة من المزامير اليهودية أو من كتابات مار أفرام السريانية لا يستند إلى دليل لغوي أو تاريخي معتبر. فالتشابه المدّعى لا يتجاوز نطاق استخدام أسلوب المبالغة العددية، وهو أسلوب بلاغي مشترك في اللغات السامية، وفي الشرائع السابقة، ولا يصلح في مناهج النقد اللغوي أو التاريخي أن يكون دليلاً على الاقتباس أو التناص المباشر. وعليه، تبقى آيات سورة القدر ذات استقلال بنيوي ومقاصدي وعقائدي، منسجمة مع خصوصية الوحي القرآني والشريعة المحمدية.