شبهة ذكر الجهة في كلام القرطبي كقوله وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ

شبهة ذكر الجهة في كلام القرطبي
كقوله: “وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ”

قال القرطبي في الأسنى شرح أسماء الله الحسنى 2/ 132 ما نصه: ” وأظهر هذه الأقوال -وإن كنت لا أقول به ولا أختاره – ما تظاهرت به الآي والأخبار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا جملة مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات حسب ماتقدم”. انتهى

ولا يلزم من كلامه هذا أنه ظهر له الحق ولم يأخذ به كما ادعى بعض الجهال، هذا ينزه عنه عالم متبحر كالقرطبي، لأنه طعنٌ صريح في ديانته. وهذه الشبهة يرد عليها من عدة وجوه:

– الوجه الأول أن يقال أن الإمام القرطبي لا يميل إلى طريقة السلف الذي هو ترك التأويل وإن كان هو أظهر الأقوال و أقواها و أسلمها بل يميل إلى طريقة التأويل وهو مذهب جمهور الخلف لضرورة الزمان و لكثرة أهل الضلال و العصيان. فالأولى في هذا الزمان التأويل لرد شبه هؤلاء الذين يجرّون العامّة إلى ” التجسيم” لبعد الكثير منهم عن لغة العرب وفهم المعاني فاختار رحمه الله هذه الطريقة لأنها الأنفع لأهل عصره، ومعلوم أن الدواء بحسب الداء.

فلم يبقى بعد هذا البيان معنى لاعتراض السفاريني الحنبلي المتوفى سنة 1188 هـجري على كلام القرطبي, حيث قال في كتابه “لوئح الانوار السنية”: “وفي قوله رحمه الله تعالى: “وإن كنت لا أقول به” غاية العجب لأنه اعترف بتظافر الآيات القرآنية عليه ودلالة الأخبار النبوية إليه وتعويل السلف الصالح الأخيار عليه فكيف يليق من مثله أن يقول “وإن كنت لا أقول به ولا أختاره” مع الدلالات القرآنية والأحاديث النبوية، وكونه معتقد الرعيل الاول والحزب الذي عليه المعمول ، ولعله إنما خاف من دسائس الحساد ودسائس أهل الزيغ والفساد وإفتراء ذوي البدع والإلحاد والله تعالى الموفق”. انتهى

وليعلم أن طريقة السلف في ترك التأويل لا تعني أنهم يقولون بظاهر النص، بل هم ينزهون الله عما لا يليق به لكن لا يتكلفون تفسيره لعدم وجود الحاجة في زمانهم لكشف تمويهات أهل الضلال من مجسمة و معتزلة و غيرهم.

– الوجه الثاني أن يقال: لقد نقل ابن تيمية في مجموع فتاويه هذه العبارة بدون قوله “وإن كنت لا أقول به ولا أختاره” فربما تكون هذه العبارة مدسوسة.
ونص عبارة ابن تيمية: ” ثم قال – أي القرطبي- بعد أن حكى أربعة عشر قولا: وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار : أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف . بائن من جميع خلقه . هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله الثقات عنهم”. انتهى

وقوله أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه أي أن الله فوق العرش فوقيه قدر و قهر و استعلاء لا فوقية مكان بدليل قوله “بلا كيف” وهذا اللفظ صريح في نفي الكيف عن الله عز وجل و ليس الأمر كما توهمه هؤلاء المجسمة أن ذلك تفويضا للكيف و أن الله له كيف مجهول. ومعنى قوله “بائن من جميع خلقه” أي بلا حلول أو مماسة أو مشابهة. قال البيهقي في الأسماء و الصفات نقلا عن بعض أهل العلم: “وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أنها لا تحله ولا يحلها ولا يمسها ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوًا كبيرًا”. انتهى

وليعلم أن القرطبي قد دسّ عليه المشبهة كما قال العلامة محمّد العربي بن التَّـبَّانِي في كتابه براءة الأشعريين الجزء 1 صحيفة 64 تحت باب دس التشبيه في كتب العلماء فقال: “و دسهم التشبيه أيضا في تفسير القرطبي عند قوله تعالى ” وهو القاهر فوق عباده” فمن طالعه يجده متضاربا”. انتهى

وما قاله الشيخ التباني غاية في التحقيق، فلينظر لكلام القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القران، حيث قال: ” وَالْأَكْثَرُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ تَنْزِيهُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ عَنِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ وَلَوَاحِقِهِ اللَّازِمَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَادَتِهِمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَنْزِيهُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ الْجِهَةِ، فَلَيْسَ بِجِهَةِ فَوْقٍ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَتَى اخْتَصَّ بِجِهَةٍ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ حَيِّزٍ، وَيَلْزَمُ عَلَى الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ لِلْمُتَحَيِّزِ، وَالتَّغَيُّرُ وَالْحُدُوثُ. هَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ، بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ. وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً”. انتهى

والنص الذي تم اقحامه في كلامه يبدأ من عبارة “هَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ”. و الظاهر أن الذي قام بتحريف النص جاهل بالعقائد لقوله: ” وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ، بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ”. انتهى

والا فأين في كتاب الله وكلام نبيّه اثبات لفظ الجهة ، بل أين في كلام السلف الأول النطق والتصريح باثباتها؟
السلف الصالح نقل عنهم الطحاوي في عقيدته نفي الجهة، و الثابت عن اكثر علماء السلف التصريح بنفي الكيف والكف عن تفسير المتشابهات، ونفي الكيف وحده كاف لدحض القول بالجهة الحسية التي يتمسك بها المشبهة.