عقيدة الترمذي المتوفى سنة 279 هجري في نفي الكيف.
يُعَدّ الإمام أبو عيسى الترمذي من أبرز أعلام الحديث في القرن الثالث الهجري، وقد نقل في جامعه تقريرًا واضحًا لمنهج أهل السنة في التعامل مع نصوص الصفات، وبخاصة الأحاديث المتعلقة بنزول الرب سبحانه وتعالى أو غيرها من الصفات الخبرية. يقول الإمام الترمذي في جامعه: “قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا قد تثُبتُ الرَّواياتُ في هَذَا ويُؤمنُ بِها ولا يُتَوَهَّمُ ولا يُقَالُ كَيفَ ؟ هكذا روي عن مالك و سفيان بن عيينة و عبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة” انتهى
وهنا يحدد الإمام الترمذي أربع مقامات في التعامل مع هذه النصوص وفق مذهب أهل السنة في زمانه:
– المقام الأول : إثباتها وعدم نفيها. وهذا فيه رد على الجهمية.
– المقام الثاني : الإيمان بها
– المقام الثالث: فيه إشارة واضحة لنفي كل ما يمكن أن يتوهمه العقل أو يدور في خلد الإنسان بخصوص هذه الروايات ، والمعنى الواضح من ذلك نفي أي مشابهة بين هذه الصفات وبين الخلق فإن كل ما قام بذهنك فالله بخلافه. وهذا المقام لا يتفق والقول بحمل هذه الألفاظ على ظاهرها اللغوي لما في ذلك من توهمه ومساواة في المعاني بين الخالق والمخلوق.
– المقام الرابع: نفي الكيفية عن الله سبحانه و تعالى خلافا للمجسمة الذين يثبتونها لله عز وجل. وقد أكد على ذلك بقوله أولا ” ولا يقال كيف” وقوله ثانيا: “قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف” ،
وهذه نصوص صريحة منه في نفي الكيفية لا في “تفويض الكيف” كما تزعم المجسمة، بل هو نفيٌ لكل كيفية؛ لأن إثبات كيفية –ولو مجهولة– يُوقع في التشبيه وإثبات ما هو من خصائص الحوادث، فلو قال القائل بزعمه: لا نشبه كيفية صفات الله بكيفية صفات المخلوقات”. فهذا لا ينفعه ولا يبرؤه من التشبيه.
ونفي التكييف من تمام التوحيد والتنزيه، لأن إثبات كيفية للصفات يقتضي مماثلة للمخلوقات، وهو محال. فإثبات الكيفية لله ولو قولنا إنها مجهولة يستلزم الاحتمال قطعًا، ولهذا كان السلف يُنكرون أصل السؤال عن الكيف، لأن مجرد افتراض وجود “كيفية” يفتح باب التخييل والتمثيل والاحتمال.
ثم قال الإمام الترمذي أيضا: “وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات- أي حديث النزول و غيره- وقالوا هذا تشبيه وقد ذكر الله عز و جل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده وقالوا إن معنى اليد ههنا القوة”. انتهى
والإمام الترمذي رحمه الله كان يعتقد أن اليد صفة من صفات الله بلا كيف، زائدة على القدرة و ليست بجارحة، وهي صفة كالسمع والبصر وغيرها من الصفات. لذلك أنكر رحمه الله تفسير اليد بالقوة أو بالقدرة. وليس معنى كلامه أنه ينكر التأويل أصلا، بل ثبت عنه أنه نقل تأويلات أهل العلم من السلف الصالح، في الصفات.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1CV3UEVtPH/
و الكلام الذي قاله الترمذي يُفسر من وجهين:
أ- الوجه الأول أن يقال: إن طريقة بعض الأشاعرة في تأويل هذه النصوص مخالف لتأويل الجهمية لعدة أسباب منها: أن بعض علماء الأشاعرة لا ينكرون صفة اليد لله تعالى، بل يثبتونها إثباتًا إجماليًا، ولا ينكرون ورودها في النصوص.
و منهم من احتج حتى بكلام الترمذي لبيان عقيدته، كابن الشيخ المالكي.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1FW3SGMAoP/
ثم الذين اختاروا منهم التأويل قالوا بجواز تأويل اليد بمعنى القوة اي القدرة الأزلية.
أما الجهمية فإنهم أنكروا ما ورد من ذكر صفة اليد في الأحاديث ، ولما لم يجدوا سبيلا إلى إنكار ما ورد منها في آيات القرآن المتواتر عمدوا إلى تأويل تلك الآيات وتفسيرها بغير ما فسره به أهل العلم بل قالوا بوجوب تأويلها بالقوة و القدرة المخلوقة.
قال المباركفوري في شرح كلام الإمام الترمذي : قال الحافظ في “مقدمة الفتح”: “الجهمية من ينفي صفات الله تعالى التي أثبتها الكتاب والسنة، ويقول: القرآن مخلوق” وقالوا هذا تشبيه” وذهبوا إلى وجوب تأويلها “. انتهى
وقال أيضا:”وقالوا – أي الجهمية -: “إن الله لم يخلق آدم بيده”، وقالوا: إنما معنى اليد القوة” فغرضهم من هذا التأويل هو نفي اليد لله تعالى ظناً منهم أنه لو كان له تعالى يد لكان تشبيهاً، ولم يفهموا أن مجرد ثبوت اليد له تعالى ليس بتشبيه”. انتهى
وتأويل اليد عند الجهمية بالقدرة و القوة ليس على معنى الصفة القائمة بذات الله لأنهم معطلة، يجحدون الصفات أصلا فلا يثبتون القدرة صفة قائمة بذات الله. فالقوة والقدرة عندهم هي مخلوقة لله ومنفصلة عنه.
فعلم بذلك أن تأويل الجهمية لليد بالقوة ليس على معنى الصفة القائمة بذات الله.
أما بعض الأشاعرة، فتأويلهم اليد بالقدرة، فهو على معنى الصفة القائمة بذاته سبحانه و تعالى.
والتأويل في أصل اللغة العربية هو الرجوع إلى الأصل والمآل والعاقبة، و هو تفسير لمعنى صحيح مراد أو محتمل، لا إلغاء للمعنى، أو إفراغ اللفظ من دلالته كما يزعم المجسمة.
ب- الوجه الثاني أن يقال: لعل نسبة تأويل اليد بالقوة للجهمية هو سهو من الإمام الترمذي لأن الثابت عن الجهمية هو أنهم تأولوا اليد في قوله تعالى: “لما خلقت بيدي “بالنعمة و ليس بالقدرة كما أشار إلى ذلك الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله في عارضة الأحوذي شرح الترمذي حيث قال معقبا على كلام الترمذي: ” لما كان أبو عيسى – أي الإمام الترمذي – من أهل العلم بالحديث لم يتحصل له قول الجهمية فوهم في بعض الجهمية أصحاب جهم وهو مبتدع أنكر صفات الباري تعالى وتقدس عن قولهم فقالوا ليس لله قدرة و لا قوة ولا علم ولا سمع ولا بصر وقالوا إن اليد بمعنى النعمة والنعمة خلق من خلق الله, خلق به آدم وما شاء من المخلوقات، وأما الذي يقولون إن اليد هي القدرة فهم طائفة من أهل السنة. انتهى
و يشهد لذلك أيضا ما ورد في كتاب الرد على الجهمية المنسوب للدارمي، حيث قال ما نصه: ” قال هؤلاء – أي الجهمية – ليس لله يد وما خلق آدم بيديه إنما يداه نعمتاه ورزقاه فادعوا في يدي الله أوحش مما ادعته اليهود قالت اليهود يد الله مغلولة المائدة. وقالت الجهمية يد الله مخلوقة لأن النعم والأرزاق مخلوقة لا شك فيها وذاك محال في كلام العرب فضلا أن يكون كفرا لأنه يستحيل أن يقال خلق آدم بنعمته ويستحيل أن يقال في قول الله تبارك وتعالى بيدك الخير آل عمران بنعمتك الخير” انتهى
ملاحظة: تأويل اليد بالنعمة في قوله تعالى: “مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ” ليس قول المحققين من الأشاعرة. فلا يكون الراد لهذا التأويل رادا على الأشاعرة أصلا. لكن منع هذا التأويل بخصوصه لا يعني منع التأويل مطلقا ، فالتأويل الباطل يُرد ، والتأويل الصحيح يُقبل . و متكلمي أهل السنة يتأولون اليد الواردة في الآيات القرآنية بحسب السياق فتارة يـؤولونها بالقدرة و أحيانا بالنعمة و غيرها. فلا تُؤول اليد في كل الآيات القرآنية بالنعمة ولا تأول أيضا في كل النصوص بمعنى القدرة. إنما بحسب السياق. ومن العلماء الذين منعوا تأويل اليد بالنعمة في هذا الموضع الفخر الرازي رحمه الله فقد قال في مفاتيح الغيب عند تفسيره لسورة ص : “لو كانت اليد عبارة عن النعمة ، فنقول : النعمة مخلوقة لله ، فحينئذ لا يكون آدم مخلوقا لله تعالى ، بل يكون مخلوقا لبعض المخلوقات ، وذلك بأن يكون سببا لمزيد النقصان أولى من أن يكون سببا لمزيد الكمال” . انتهى
