معنى حديث حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه

معنى حديث: «حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه»

روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ” لا تَزالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ: هلْ مِن مَزِيدٍ، حتَّى يَضَعَ فيها رَبُّ العِزَّةِ، تَبارَكَ وتَعالَى، قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وعِزَّتِكَ ويُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ”. انتهى

وروى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ” تَحاجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ؛ فَقالتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمُتَكَبِّرِينَ والمُتَجَبِّرِينَ، وقالتِ الجَنَّةُ: ما لي لا يَدْخُلُنِي إلَّا ضُعَفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهُمْ؟ قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى لِلْجَنَّةِ: أنْتِ رَحْمَتي، أرْحَمُ بكِ مَن أشاءُ مِن عِبادِي، وقالَ لِلنَّارِ: إنَّما أنْتِ عَذابِي، أُعَذِّبُ بكِ مَن أشاءُ مِن عِبادِي، ولِكُلِّ واحِدَةٍ منهما مِلْؤُها، فأمَّا النَّارُ فلا تَمْتَلِئُ حتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنالِكَ تَمْتَلِئُ ويُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ، ولا يَظْلِمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ مِن خَلْقِهِ أحَدًا، وأَمَّا الجَنَّةُ فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُنْشِئُ لها خَلْقًا”. انتهى

وقد عمد بعض المشبهة المجسّمة إلى تحريف معنى هذا الحديث فقالوا إن الله يضع رجله فى جهنم لكنها لا تحترق والعياذ بالله. هؤلاء لو كانوا يؤمنون بالقرءان لوقفوا عند قول الله تعالى: ” لو كان هؤلاء ءالهة ما وردوها” وذلك فى توبيخ الكفار حين يجدون فى النار معهم ما كانوا عبدوه فى الدنيا من نحو الأصنام، وغيرها.

وقد نصّ القرآن الكريم صراحةً على أن ملءَ جهنّم يكون من الجنّ والإنس الذين استحقّوها، قال تعالى: “وتمّت كلمةُ ربِّكَ لأملأنّ جهنّم من الجِنّة والناس أجمعين” – هود: 119-

وقال سبحانه: “ولكن حقّ القول مني لأملأنّ جهنم من الجِنّة والناس أجمعين” – السجدة: 13-

والمفهوم من هاتين الآيتين أن امتلاء جهنم يتحقّق بخلقٍ من خلق الله ممّن استوجبوا العقاب، لا بوضع جزءٍ من الذات الإلهي ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرل- داخل النار. ومن نسب إلى الله تعالى وضع عضوٍ منه في النار فقد خالف صريح القرآن الكريم، ووقع في التشبيه الذي جلّ الله تعالى عنه، ولزمه القول بالحلول الذي يوافق عقائد الجهمية، وهذا خروج من الدين.

و تدلّ كلمة «قَدَم» في لسان العرب، إضافةً إلى معناها الحسيّ المعروف الذي يفيد الجارحة، على ما يُقدَّم ويُسبق به، ومنه قوله تعالى: ” لهم قدمُ صدقٍ عند ربهم”؛ أي: عملٌ صالحٌ قدّموه. وبهذا المعنى فسّر عدد من أهل العلم لفظ «القدم» الوارد في الحديث.

وعليه فتفسير الحديث هو أن الله تعالى لا يُدخل في جهنم الكفار، دفعة واحدة إنما دفعة بعد دفعة، فقال الرسول: لا تَزَالُ جَهَنَّمُ تقولُ هلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ” أى الفوج الأخير من أهلها الذين يقدمهم إليها فتمتلئ بهم.

وقد نُقل عن عدد من السلف توجيهٌ لهذا الحديث ينسجم مع دلالة القرآن الكريم:

– الحسن البصري المتوفى سنة 110 هجري: فسّر «القدم» هنا بما قدّمه الله للنار من الخلق المستحقين لها، وجعل «القدم» بمعنى «القادم»، كما يقال: خادم/خدم، فالقادم/قدم.

وهذا المعنى نقله عنه

الإمام الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170

هـجري، حيث قال في كتاب العين: “وقوله تعالى ﴿لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أيْ سبق لهم عند الله خير، وللكافرين قَدَمُ شر. وفي الحديث «إن جهنم لا تسكن حتى يضع الله قَدَمه فيها» قال الحسن «حتى يجعل الله الذين قَدَّمَهم من شرار خلقه فيها، فهم قَدَمُ الله للنار والمسلمون قَدَمٌ للجنة.»” انتهـى

و البيهقي المتوفى سنة 458 هجري، و أبو المظفّر منصور بن محمد السمعاني المتوفى سنة 489 هجري

و القاضي عياض اليحصبي المتوفى سنة 544 هجري

و أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفى سنة 597 هجري

– النضر بن شُمَيل: قال: أي من سبق في علمه أنه من أهل النار. نقله القرطبي في تفسيره.

وقال البيهقي فب كتاب الأسماء والصفات: ” قال الشيخ أحمد وفيما كتب إلي أبو نصر بن قتادة من كتاب أبي الحسن بن مهدي الطبري حكاية عن النضر بن شميل أن معنى قوله ” حتى يضع الجبار فيها قدمه” أي من سبق في علمه أنه من أهل النار”. انتهى.

و جاء في التوحيد لابن خزيمة المتوفى سنة 311 هجري : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ: حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَوْلَى الْحُرَقَةِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” ….وَيَبْقَى أَهْلُ النَّارِ , فَيُطْرَحُ مِنْهُمْ فِيهَا فَوْجٌ , ثُمَّ يُقَالُ: هَلِ امْتَلَأَتِ؟ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ ثُمَّ يُطْرَحُ فِيهَا فَوْجٌ آخَرُ , فَيُقَالُ: هَلِ امْتَلَأَتِ؟ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ ثُمَّ يُطْرَحُ فِيهَا فَوْجٌ آخَرُ , فَيُقَالُ: هَلِ امْتَلَأَتِ؟ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى إِذَا أُوعِبُوا فِيهَا وَضَعَ الرَّحْمَنُ قَدَمَهُ فِيهَا , فَانْزَوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: قَطْ، قَالَتْ: قَطْ قَطْ، فَإِذَا صُيِّرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ , وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّار، أُتِيَ بِالْمَوْتِ مُلَبَّبًّا فَيُوقَفُ عَلَى السُّوَرِ الَّذِي بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ , فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ , ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ , فَيَطَّلِعُونَ مُسْتَبْشِرِينَ فَرِحِينَ لِلْشَفَاعَةِ وَالِهِينَ، فَيُقَالُ: لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَلِأَهْلِ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ: قَدْ عَرَفْنَاهُ، هَذَا الْمَوْتُ، الَّذِي وُكِّلَ بِنَا , فَيُضْجَعُ , فَيُذْبَحُ ذَبْحًا عَلَى السُّوَرِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ , خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ”. انتهى

وهذا الأثر يفسر آخره ما جاء في أوله، فقوله: ” وَضَعَ الرَّحْمَنُ قَدَمَهُ فِيهَا” ، يفسره قوله؛ ” فَإِذَا صُيِّرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ , وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّار”، أي ان القدم معناه أهل النار

وقال ابن حبان المتوفى سنة 354 هجري في صحيحه بعد إخراجه للحديث : هذا من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عصي الله فيها فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب فيها موضعا من الأمكنة المذكورة فتمتلئ لأن العرب تطلق القدم على الموضع ، قال تعالى : أن لهم قدم صدق يريد موضع صدق . انتهى

وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي المتوفى سنة 371 هجري: ” القدم قد يكون اسما لما قدم كما يسمى ما خبط من ورق خبطا ، فالمعنى ما قدموا من عمل”. انتهى

نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري

وجاء في الإبانة الكبرى لابن بطة، عن الأثرم، ما نصه: “قلت لأبي عبد الله: حَرْبٌ مُحَدِّثٌ، وأنا عنده بحديث: «يضع الرحمن فيها قدمه»، وعنده غلام، فأقبلَ على الغلام فقال: إن لهذا تفسيراً؟ فقال أبو عبد الله: انظر كما تقول الجهمية سواء”. انتهى

وهذا معناه أن أحمد كان يرى الإقرار والتفويض دون تحديد معنى بعينه، فأي محاولة لتحديد معنى بعينه هو تصرف مساوٍ لتصرف الجهمية عنده، لأنهم كانوا يضعون تفاسير فاسدة وتأويلات بعيدة للنصوص المتشابهة.

وأما رواية ” رجله” فقد اختلف حولها العلماء على وجهين:

أ – فريق أكّد أن الحديث ورد بلفظ «القدم»، لكن بعض الرواة رووه بالمعنى فاستعملوا لفظ «الرجل».

وقد نبّه الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتابه دفع شبه التشبيه إلى أن رواية «الرجل» إنما هي اجتهادٌ من بعض الرواة وليست لفظًا ثابتًا. ومال إلى هذا الحكم أبو بكر ابن فورك، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، مؤكدًا أن اللفظ الصحيح هو «القدم»، وأن «الرجل» ليست محفوظة.

ب- فريق قال أن رجل معناه الفوج الذين تمتلئ بهم جهنم، ففي اللغة يقال رجل من جراد أى فوج من جراد.

وقد نقل البيهقي في الأسماء والصفات عن أبي سليمان الخطابي أنه قال: ” قد تأول بعضهم الرجل على نحو من هذا، قال والمراد به استيفاء عدد الجماعة الذين استوجبوا دخول النار. قال والعرب تسمي جماعة الجراد رجلا كما سموا جماعة الظباء سربا وجماعة النعام خيطا، وجماعة الحمير عانة، قال وهذا وإن كان اسما خاصا لجماعة الجراد، فقد يستعار لجماعة الناس على سبيل التشبيه، والكلام المستعار والمنقول من موضعه كثير، والأمر فيه عند أهل اللغة مشهور. قال أبو سليمان رحمه الله وفيه وجه آخر، وهو أن هذه الأسماء أمثال يراد بها إثبات معان لا حظ لظاهر الأسماء فيها”. انتهى

وهذه النقول تؤكد أن السلف قدّموا تأويلًا معتبرًا للفظ “القدم” و “الرجل” بما يرفع الإشكال، والفهم السقيم الذي وقع فيه المجسمة فزعموا أن قدمي معبودهم تارة على الكرسي، و تارة في جهنم والعياذ بالله.

وبذلك ينسجم هذا الحديث مع دلالة القرآن الكريم، وتنتفي لوازم التشبيه والتجسيم، ويستقرّ الفهم الصحيح في إطار التنزيه الذي اتفقت عليه الأمة.