《عَمائِمُ على رُؤوسِ جُهّالٍ!!》(21)
《التَّحْذِيرُ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ》
وَحَيْثُ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَعَلَى مَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ أَنْ يَحْتَاطَ غَايَةَ الِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَدَوَاتِ التِّقْنِيَّةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ الشُّيُوخِ، وَلَا تَحُلُّ مَحَلَّ الأَئِمَّةِ، وَلَا تُلْغِي الطَّرِيقَةَ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ طَالِبَ العِلْمِ. فَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَعَلَّمُوا، إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ). قال الحافظُ اللغويُّ محمد مرتضى الزّبيديُّ في شرح الإحياء ما نصه: واستِماعُ العِلْمِ النَّافعِ في الآخِرَةِ أفضلُ من اشتغالهِ بالنّوافلِ مِن الصَّلواتِ، فقد رَوَى أبو ذَرٍّ جُنْدَُبُ بنُ جُنَادَةَ رضيَ الله عنه عَنِ النَّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إنَّ حُضُورَ مجلسِ عِلْمٍ أفضلُ مِن صلاةِ ألفِ رَكْعَةٍ” أي مِن النّوافِل، وفي خَبَرٍ ءاخرَ: “لَأَنْ يَتَعَلَّمَ أَحَدُكُمْ بابًا من العِلْمِ أو يُعَلِّمَهُ خيرٌ لهُ مِن صلاةِ ألفِ رَكْعَة”، أي مِن النّوافِل، قيلَ: يا رسولَ اللهِ ومِنْ قراءةِ القرءانِ أيضًا؟ قال: “وهل تَنْفَعُ قِراءةُ القُرءانِ إلا بعِلْمٍ”، انتهى كَلامُ الزَّبيدِيِّ. وَإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ لَا يَكْتَفِي فِي مُعَالَجَةِ نَفْسِهِ طِبِّيًّا بِالبَحْثِ فِي مَوَاقِعِ الْإِنْتِرْنِتْ، بَلْ يَسْتَشِيرُ الأَطِبَّاءَ المُخْتَصِّينَ، فَكَيْفَ بِهِ فِي أُمُورِ دِينِهِ؟! فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ التَّابِعِيِّ الجَلِيلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ هَذَا العِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ». وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ أَدَبِ المُفْتِي وَالمُسْتَفْتِي لِلْحَافِظِ ابْنِ الصَّلَاحِ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُفْتِي فِي المَسْأَلَةِ، وَلَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ». وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَسْتَسْهِلُ الكَلَامَ فِي المَسَائِلِ الفِقْهِيَّةِ، بَيْنَمَا لَوْ عُرِضَتْ هَذِهِ المَسَائِلُ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَجَمَعَ لَهَا كِبَارَ الصَّحَابَةِ لِيَسْتَشِيرَهُمْ فِيهَا، فَكَيْفَ يَسْتَسْهِلُ بَعْضُ النَّاسِ اليَوْمَ الإِفْتَاءَ دُونَ عِلْمٍ أَوْ دَلِيلٍ؟!
《اعملُوا على نشرِه مُخلِصينَ النِّيّةَ للهِ تعالَى》
✿❁✿❁࿐❁✿❁✿
جَزَىٰ اللّٰـهُ خَيْرًا كُلّ مَنْ يدعَمُنَا، وَيُسَاهم بِنَشْر القَنَوَات، فَالدَّالُ علَى الخَيرِ كفَاعِلِه.
《مَكَانَةُ العُلَمَاءِ الحَقِيقِيِّينَ فِي الفَتْوَى》
إِنَّ الفَتْوَى لَيْسَتْ أَمْرًا يُسْتَهَانُ بِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي سِيرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ أَنَّ الإِمَامَ مَالِكًا قَالَ: «مَا جَلَسْتُ لِلْفَتْوَى حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ شَيْخًا أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ» فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ كِبَارِ الأَئِمَّةِ، فَكَيْفَ بِنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا؟! وَرَوَى الصَّيْمَرِيُّ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيَّ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، «اسْتُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ، فَلَمْ يَعْرِفِ السَّائِلَ، فَاسْتَأْجَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: إِنَّ الحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ اسْتُفْتِيَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ، فَمَنْ كَانَ أَفْتَاهُ الحَسَنُ بِشَيْءٍ، فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَمَكَثَ أَيَّامًا لَا يُفْتِي حَتَّى وَجَدَ السَّائِلَ وَأَعْلَمَهُ بِخَطَئِهِ». فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ العُلَمَاءِ الَّذِينَ أُقِرَّ لَهُمْ بِالعِلْمِ، فَكَيْفَ نَرَى اليَوْمَ بَعْضَ مُتَمَشْيِخِي الْإِنْتِرْنِتْ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ قَوْلِ “لَا أَدْرِي”، وَيَرْفُضُونَ الِاعْتِرَافَ بِالخَطَأِ، وَيَتَكَبَّرُونَ عَنْ نُصْحِ النَّاصِحِينَ؟! اللهُ تبَاركَ وتعالى يَقُولُ في كتابهِ المُبين: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ هذه الآيَةُ فيهَا بَيَانٌ فيهَا أنَّ مِنَ المَعَاصِي ما يَحصُلُ باللِّسَانِ، وأنَّ مِنَ المَعَاصِي ما يَحصُلُ بالقَلبِ، وأنَّ مِنَ المَعَاصِي ما يَحصُلُ بالجَوَارِحِ بالأعضَاءِ. اللهُ تعالى قال: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ هذه الآيةُ فيها نَهيٌ عَنِ الإفتَاءِ بِغَيرِ عِلْمٍ، لا يَجُوزُ للوَاحِدِ مِنَّا أنْ يَتكلَّمَ في دِينِ اللهِ تَباركَ وتعالى بِغَيرِ عِلمٍ، مَنْ أفتَى بِغَيرِ عِلمٍ فعَلَيهِ لعنَةُ اللهِ والمَلائِكةِ والنَّاسِ أجمَعين حتى لو وافَقَت فَتوَاهُ الصَّوَابَ، هو ما تَعلَّمَ الحُكمَ، سُئِلَ عَنْ أمرٍ فأجَابَ مِنْ غَيرِ أنْ يَتَعَلَّمَهُ مِنْ غَيرِ أنْ يَعرِفَ حُكمَهُ مِنْ أهلِ العِلمِ، أفتَى بغيرِ عِلمٍ، لو وافَقَت فَتواهُ الصَّوابَ وقعَ في الحَرَامِ لأنَّهُ أفتَى بِغَيرِ عِلمٍ، أمَّا لو وافَقَت فَتوَاهُ الخَطَأ لو لم تَكُنْ فَتوَاهُ صَوَابًا لَزَادَ شَرُّهُ والعِيَاذُ باللهِ تعالى لأنَّهُ بهذِهِ الفَتوَى التي أفتَاهَا بِغَيرِ عِلمٍ ولم تُوَافِقِ الصَّوَابَ أهلَكَ نَفسَهُ وأهلَكَ غَيرَهُ.
《اعملُوا على نشرِه مُخلِصينَ النِّيّةَ للهِ تعالَى》
التَّحْذِيرُ مِنَ الاسْتِهَانَةِ بِأَمْرِ الفَتْوَى》
إِنَّ السَّلَامَةَ فِي الدِّينِ لَا يُعَدِلُهَا شَيْءٌ، وَمِنَ المَصَائِبِ الَّتِي تَفَشَّتْ فِي زَمَانِنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ صَارُوا يَسْتَسْهِلُونَ الفَتْوَى، فَيَخُوضُونَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بِرَأْيِهِمِ السَّقِيمِ. وَالحَقِيقَةُ أَنَّ العِلْمَ كُلَّهُ ثَقِيلٌ، كَمَا قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ حِينَما سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: «لَا أَدْرِي»، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَسْأَلَةٌ سَهْلَةٌ، فَغَضِبَ وَقَالَ: «لَيْسَ فِي العِلْمِ شَيْءٌ خَفِيفٌ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المُزَّمِّلِ: 5]» (أَدَبُ المُفْتِي وَالمُسْتَفْتِي). فَالعِلْمُ كُلُّهُ ثَقِيلٌ (أَيْ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ) وَبِخَاصَّةٍ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ تَرْمِي صَاحِبَهَا فِي الحَضِيضِ وَتُفْقِدُهُ الثِّقَةَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، وَكَمْ نَرَى مِمَّنْ يَتَصَدَّرُ لِلْعِلْمِ وَلَيْسَ أَهْلًا لِمَا أُنِيطَ بِهِ، فَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ هَلَكُوا وَأَهْلَكُوا غَيْرَهُمْ بِسَبَبِ تَسَرُّعِهِمْ فِي الخَوْضِ فِي المَسَائِلِ بِغَيْرِ هُدًى بَلْ بِالقِيَاسِ الفَاسِدِ كَشَأْنِ كَثِيرٍ مِنَ المُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ فِي عَصْرِنَا هَذَا. وَالفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ خَطَأٍ عَابِرٍ، بَلْ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى فِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَكَمْ مِنْ دِمَاءٍ سُفِكَتْ بِسَبَبِ فَتَاوَى بَاطِلَةٍ، وَكَمْ مِنْ أَعْرَاضٍ انْتُهِكَتْ بِسَبَبِ أَقْوَالٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَكَمْ مِنْ مُجْتَمَعَاتٍ فُرِّقَتْ بِسَبَبِ أَحْكَامٍ ظَالِمَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ. بَلْ إِنَّ بَعْضَ الفَتَاوَى الضَّالَّةِ صَرَفَتِ البُنْدُقِيَّةَ عَنِ العَدُوِّ الحَقِيقِيِّ فِي فِلَسْطِينَ، وَوَجَّهَتْهَا إِلَى صُدُورِ المُسْلِمِينَ!
《اعملُوا على نشرِه مُخلِصينَ النِّيّةَ للهِ تعالَى》
《وُجُوبُ التَّحَرِّي فِي الفَتْوَى》
وَأَمَامَ هَذَا الوَاقِعِ الخَطِيرِ، عَلَيْنَا أَنْ نَتَحَرَّى لِدِينِنَا، وَأَلَّا نَنْخَدِعَ بِالمَظَاهِرِ، فَقَدْ قِيلَ:
لَا تَأْخُذَنَّ مِنَ الأُمُورِ بِظَاهِرٍ… إِنَّ الظَّوَاهِرَ تُخْدِعُ الرَّائِينَ
فَمَنْ يَدَّعِي الِاجْتِهَادَ اليَوْمَ وَيُخَالِفُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ المُتَقَدِّمُونَ، أَوْ يَأْتِي بِفَتَاوَى تَتَعَارَضُ مَعَ الإِجْمَاعِ، فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَشْهُورًا أَوْ يَظْهَرُ عَلَى الفَضَائِيَاتِ أَوْ يُلَقَّبُ بِـ”العَالِمِ العَلَّامَةِ” أَوْ “البَحْرِ الفَهَّامَةِ”! فَلَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ أَنْ يَفْتَحَ النَّاسُ اليَوْمَ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَالفَتْوَى دُونَ عِلْمٍ أَوْ ضَوَابِطَ. فَبَعْدَ كُلِّ هَذَا، كَيْفَ يَجْرُؤُ أَحَدٌ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ آخَرَ رَأْيَهُ فِي مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَيُعْطِيهِ رَأْيًا مِنْ هَوَاهُ دُونَ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؟! وَكَأَنَّ الأَمْرَ أَهْوَنُ مِنْ شُرْبَةِ مَاءٍ! وَهَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ! وَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنَ المَخَاطِرِ الجَمَّةِ الَّتِي تَأْتِي عَنْ طَرِيقِ الْإِنْتِرْنِتْ، وَهُوَ مَا يَسْتَدْعِي مِنَّا أَنْ نَتَصَدَّى بِحَزْمٍ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ، لِنَحْفَظَ أَنْفُسَنَا وَأَهْلِينَا وَأَجْيَالَنَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَفْحِلَ هَذَا الشَّرُّ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ. فَقَدْ أَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلَكُوا غَيْرَهُمْ بِهَذِهِ الفَوْضَى. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيُحْسِنَ خَاتِمَتَنَا. وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا.
《اعملُوا على نشرِه مُخلِصينَ النِّيّةَ للهِ تعالَى》
