مررت اليوم على تدوينة فيها ذُكر بعضهم بالشيخ المحقق فاستوقفني هذا اللفظ وأزعجني هذا الوصف لبعده عن بلوغ المرام وإيهامه ما يُرام.
اعلم أن العالِم المحقِّق غير ذاك الذي “حقق” جملة مستكثرة من المخطوطات مظهرا لها للعموم بنشرها بين الناس مع أن هذا الفن لا يختلف اثنان في فائدته وعودة بركته على صاحبه إن قصد به وجه الله بإبراز بعض الذخائر مما لم يصل إلى أهل العلم في زماننا. وقد خاض فيه اليوم من فقهه ومن لم يفقهه على تفاوت في رتب بعضهم مما أدى إلى تفاوت في التحقيق فتجد في تلك الكتب المحققة الغث والسمين، كثيرا ما تجد فيها ما خلا من أدنى شروط التحقيق العلمية وقد تجد فيها نعم الذخير والعقدة ونعم الجليس والعمدة، إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، كنحو تحقيقات أستاذنا الدكتور نور الدين الجلاصي Noureddine Jelassi ووالدنا Younes Abdelwahed وأخينا الدكتور علي العلايمي وأخينا الدكتور د. كريم بلحاج وأخينا الأستاذ أيمن بن حميدة Aymen Ben Hmida ، والقائمة تطول، وذا من العبد الفقير ليس تزكية بل شهادة بما وجدنا في واقع الحال عند الاطلاع على جملة من تحقيقاتهم.
أما قول أهل العلم متقدميهم ومتأخريهم عن عالم إنه من العلماء المحققين فمرادهم غير ذلك. مرادهم أن المحقق، زيادة على النقل وهو جمع النصوص وعرض الأقوال وضبط المسائل الخلافية وتحريرها مع حفظ أدلتها، تجده محصلا لملكة أخرى وهي تنقيح الأدلة ومناقشتها وترجيح بعضها على بعض بالمقارنة بين منازع كل منها واستمداداتها مع التعليل وإثبات الفضل في أحد جانبي المتقابلين واقتران الأمارة بما تقوى بها على معارِضتها، وهذا لا يكون إلا للراسخين في العلم.
لذلك فإننا نرى قولهم بعد ذكرهم الخلاف في بعض المسائل وبيان الراجح من المرجوح “وهذا الذي عليه المحققون من أهل الفن”
وهم لعمري في كل فن كثر، رافعون فيه لواء التحقيق، مميَّزون عن غيرهم من النقلة على التحقيق.
فمن المتكلمين أبو بكر الجرجاني والأستاذ أبو بكر ابن فورك وأبو إسحق الإسفراييني وأبو منصور البغدادي وأبو ذر الهروي وأبو نصر القشيري وأبو المعين النسفي والعضد الإيجي والسعد التفتازاني ومحمد بن يوسف السنوسي.
ومن الأصوليين أبو إسحق الشيرازي وإمام الحرمين الجويني وفخر الإسلام البزدوي وشمس الأئمة السرخسي والشريف التلمساني وأبو عمرو ابن الحاجب والسيف الآمدي.
ومن الفقهاء أمثال أبي الوليد الباجي وابن الصائغ وابن رشد الجد وابن شاس من المالكية. وأمثال فخر الإسلام الرُّوياني وأبي القاسم الرافعي والشمس ابن الرفعة من الشافعية. وأماثل موسى بن سليمان الجوزجاني والبرهان المرغيناني وعثمان الزيلعي والشمس البابرتي من الحنفية. وأمثال أبي بكر الخلال وابن قدامة المقدسي والشمس ابن مفلح من الحنابلة.
ومن المحدثين هشام الدستوائي وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري والحافظ ابن عساكر وعبد الرحمن بن الجوزي والحافظ المزي والحافظ العراقي والحافظ ابن حجر والحافظ السيوطي والحافظ السخاوي.
ومن النحويين سيبويه وأبو إسحق الزجاج وأبو على الفارسي وابن الأنباري وابن يعيش الموصلي وابن مالك الأندلسي وابن هشام الأنصاري وأبو حيان الأندلسي. وغير من ذكرنا كثيرون لا يدخلون تحت الحصر.
وقد يطلق بعض أهل العلم وصف المحققين على المستأهلين لتحقيق المناط ولا يخفى ما في هذا من وصف بنوع اجتهاد. وتحقيق المناط هو النظر في معرفة العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها، سواء كانت معروفة بنص أو إجماع أو استنباط كما حده الآمدي، أو إثبات مضمون الحكم الشرعي التكليفي المستفاد من نص أو إجماع أو اجتهاد في الوقائع الجزئية أثناء التطبيق، والتحقق من مدى اشتراك الأصل والفرع في العلة عند القياس كما حده الشاطبي.
فانظر رحمك الله إلى المذهبين في معنى التحقيق تجدهما بعيدين تمام البعد عن تحقيق المخطوط المشار إليه آنفا، فليتحر امرؤ في أمر التجوز في الألفاظ لأنه مدعاة لتسمية الأسماء بغير مسمياتها وهو من درجات التنطع والزيادةِ على الحد ولقد صدق ابن العماد حين أنشد:
وما التنطع إلا نزعة وردت *** من مكر إبليس فاحذر سوء نكبته
