#افتراءات_وجهالات_الدكتور_الوهابي_فركوس (2)
قَالَ الْدُّكْتُور الْوَهَّابِي فَرْكُوس فِي حَمْلَتِهِ الْـمَسْعُورَةِ عَلَى “عِلْمِ الْكَلَامِ” كَمَا تَجِدهُ فِي كَلِمَتِهِ الْشَّهْرِيَّة (الْـمُتَنَاقِضَةِ!): ((فأين #أدعياءُ_المالكيَّة مِنْ مقالات مالكٍ ـ رحمه الله ـ وكبارِ أصحابه وأئمَّةِ السُّنَّة الفحول في #ذمِّهم_لطريقة_أهل_الكلام والجدل والفلسفة #مِنَ_الأشاعرة وغيرهم؟!…))(1)
الْتَّعْلِيق:
قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْرَّدِّ عَلَى هَذَا الْوَهَّابِي، أَجِدُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ ذِكْر فَذْلَكَةٍ حَوْلَ هَذَا الْعِلْمِ الْأَصِيل وَالْفَنِّ الْنَّبِيلِ عَلَى وِفْقِ مَا قَرَّرَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُم اللهِ…
نَعَمْ؛ قَالَ الْعَلَّامَة الْإِمَام الْفَقِيه الْأُصُولِي الْنَّظَّار الْحَسَن بْن مَسْعُود الْيُوسِي (ت:1102هـ): ((يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِي هَذَا الْـمَقَامِ أَنَّ مَبَادِئَ الْعِلْمِ الَّتِي تُذْكَرُ بَيْنَ يَدَي الْشُّرُوعِ فِيْهِ عَشْرَةٌ، وَهِيَ: اسْمُهُ، وَحَدُّهُ، وَمَوْضُوعُهُ، وَوَاضِعُهُ، وَاسْتِمْدَادُهُ، وَمَسَائِلُهُ، وَنِسْبَتُهُ، وَفَائِدَتُهُ، وَحُكْمُهُ، وَفَضْلُهُ. وَهَذِهِ كُلّهَا مُحْتَاجٌ إِلَى مَعْرِفَتِهَا فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضهَا أَوْكَد مِنْ بَعْضٍ))(2)…
وَنَكْتَفِي مِنْ هَذِهِ الْـمَبَادِئ الْعَشْرَة بِذِكْرِ مَا يَلِي:
أَوَّلًا: تَعْرِيْفُ فَنِّ “عِلْمِ الْكَلَام”؟!
قَالَ الْعَلَّامَة ابْن خَلْدُون (ت:808هـ) مَا نَصُّهُ: ((هُوَ عِلْمٌ يَتَضَمَّنُ الْحِجَاجَ عَنِ الْعَقَائِدِ الْإِيْمَانِيَّةِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْرَّدِّ عَلَى الْـمُبْتَدِعَةِ الْـمُنْحَرِفِيْنَ فِي الاِعْتِقَادَاتِ عَنْ مَذَاهِبِ الْسَّلَفِ وَأَهْلِ الْسُّنَّةِ. وَسِرُّ هَذِهِ الْعَقَائِدِ الْإِيْمَانِيَّةِ هُوَ: الْتَّوْحِيدُ))(3) وَبَعْدَ أَنْ تَكَلَّم فِي سَبَبِ حُدُوثِ هَذَا الْعِلْم قَالَ: ((وَ بِالْجُمْلَةِ فَمَوْضُوعُ “عِلْمِ الْكَلَامِ” عِنْدَ أَهْلِهِ إِنَّمَا هُوَ الْعَقَائِدُ الْإِيْمَانِيَّةُ بَعْدَ فَرْضِهَا صَحِيْحَةً مِنَ الْشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَتُرْفَعُ الْبِدَعُ وَتَزُولُ الْشُّكُوكُ وَالْشُّبَهُ عَنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَالَ الْفَنِّ فِي حُدُوثِهِ وَكَيْفَ تَدَرَّجَ كَلَامُ الْنَّاسِ فِيْهِ صَدْرًا بَعْدَ صَدْرٍ وَكُلُّهُم يَفْرِضُ الْعَقَائِدَ صَحِيْحَةً وَيَسْتَنْهِضُ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ عَلِمْتَ حِيْنَئِذٍ مَا قَرَّرْنَاهُ لَكَ فِي مَوْضُوعِ الْفَنِّ وَأَنَّهُ لَا يَعْدُوهُ))(4)…
ثَانِيًا: الْأَسْمَاءُ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْفَنِّ “عِلْم الْكَلَامِ”؟!
قَالَ الْإِمَام الْيُوسِي (ت:1102هـ): ((أَمَّا اسْم هَذَا الْعِلْمِ، فَاعْلَم أَنَّهُ يُسَمَّى بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ وَهِيَ: عِلْمُ أُصُولِ الْدِّيْنِ، وَعِلْمُ الْتَّوْحِيدِ، وَعِلْمُ الْكَلَامِ، وَيُقَالُ بِحَذْفِ لَفْظَةِ “عِلْم” فِي الْثَّلَاثَةِ فَتَكُون الْأَلْقَاب سِتَّة، وَبَعْضُهُم يُسَمِّيهِ أَيْضًا: الْعِلْمُ الْإِلَهِي فَتَكُون سَبْعَة.
أَمَّا تَسْمِيَته بِالْأَوَّلِ [عِلْمُ أُصُولِ الْدِّيْنِ]: فَلِأَنَّ سَائِر الْعُلُومِ الْدِّيْنِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ، وَأَصْل الْشَّيْءِ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الْشَّيْء…غَيْر أَنَّ هَذَا اللَّقَب لَا يُخْتَصُّ بِهَذَا الْعِلْمِ، بَلْ يُشَارِكُهُ فِيْهِ أُصُول الْفِقْهِ، لِأَنَّ الْدِّيْنَ ضَرْبَانِ: اعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَصْلٌ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَصْلُ الْدِّيْنِ، لَكِنْ كَثُرَ إِطْلَاقهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَتَسْمِيَةُ الْثَّانِي: أُصُول الْفِقْهِ.
وَأَمَّا تَسْمِيَتهُ بِالْثَّانِي [عِلْمُ الْتَّوْحِيدِ]: فَلِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَوْحِيْدِ اللهِ تَعَالَى تَسْمِيَة لَهُ بِأَشْرَفِ أَجْزَائِهِ.
وَأَمَّا بِالْثَّالِثِ [عِلْمُ الْكَلَامِ]: فَلِأَنَّ أَهْل الْكَلَامِ يُصَدِّرُونَ مَبَاحِثهم بِقَوْلِهِم: “الْكَلَامُ فِي كَذَا”، “الْكَلَامُ فِي هَذَا الْـمَبْحَثِ كَذَا”. وَقِيْلَ: لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِيْهِ، لِأَنَّ صَاحِبهُ يَتَكَلَّمُ فِي الْوُجُودِ الْـمُطْلَقِ أَوْ الْـمَعْلُومِ. وَقِيْلَ: لِأَنَّ أَهْل الْظَّاهِرِ كَانُوا إِذَا سُئِلُوا عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِ قَالُوا: “هَذَا مِمَّا نُهِيْنَا عَنِ الْكَلَامِ فِيْهِ” فَاشْتُهِرَ بِذَلِكَ حَتَّى وَقَعَت الْإِضَافَة. وَقِيْلَ: لِأَنَّ مَسْأَلَة الْكَلَامِ، أَهُوَ قَدِيْمٌ أَمْ حَادِثٌ؟ سَبَبٌ لِوَضْعِ الْتَّصَانِيفِ فِيْهِ. وَقِيْلَ: لِأَنَّهُ كَثُرَ فِيْهِ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ الْخُصُومِ وَالْرَّدِّ عَلَيْهِم مَا لَـمْ يَكْثُر فِي غَيْرِهِ. وَقِيْلَ: لِأَنَّهُ يُورِثُ قُدْرَةً عَلَى الْكَلَامِ فِي الْشَّرْعِيَّاتِ كَالْـمَنْطِقِ فِي الْفَلْسَفِيَّاتِ. وَقِيْلَ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى كَلَامًا، كَمَا يُقَالُ لِلْأَقْوَى مِنَ الْكَلَامَيْنِ هَذَا هُوَ الْكَلَامُ. وَقِيْلَ غَيْر ذَلِكَ.
وَأَمَّا بِالْرَّابِعِ [الْعِلْمُ الْإِلَهِي]: فَلِأَنَّ الْـمَقْصُود مِنْ هَذَا الْعِلْم، مَعْرِفَة الْإِلَهِ تَعَالَى))(5)…
ثَالِثًا: مَوْضُوعُ هَذَا الْفَنِّ “عِلْم الْكَلَامِ”؟!
قَالَ الْإِمَام الْيُوسِي (ت:1102هـ) فِي قَانُونِهِ: ((وَأَمَّا مَوْضُوعهُ: فَمَاهِيَّاتُ الْـمُمْكِنَاتِ، مِنْ حَيْثُ دَلَالَتهَا عَلَى وُجُودِ مُوْجِدهَا وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ،…وَقِيْلَ: الْـمَعْلُوم مِنْ حَيْثُ هُو، وَقِيْلَ: الْـمَوْجُود، وَقِيْلَ: ذَاتُ اللهِ تَعَالَى))(6)…
رَابِعًا: فَائِدَةُ هَذَا الْفَنِّ “عِلْم الْكَلَامِ”؟!
قَالَ الْإِمَام الْيُوسِي (ت:1102هـ) فِي قَانُونِهِ: ((وَأَمَّا فَائِدَتهُ: وَهِيَ الْغَرَضُ وَالْغَايَةُ، وَإِنَّـمَا تَخْتَلِفُ الْأَسَامِي بِالاِعْتِبَارِ، فَـمَا حَصَلَ عَن الْشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ حُصُوله عِنْدَه فَائِدَة وَثَـمْرَة، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنه مَطْلُوبًا مِنْهُ غَرَضٌ وَبَاعِثٌ وَعِلَّةٌ، وَمِنْ حَيْثُ الاِنْتِهَاء إِلَيْهِ غَايَة وَعِلَّة غَائِيَّة، فَهِيَ فِي الْدُّنْيَا: حُصُول الْيَقِيْن، وَالاِرِتِفَاع عَنْ حَضِيْضِ الْتَّقْلِيْدِ، وَإِرْشَاد الْـمُسْتَرْشِدِيْنَ، وَإِفْحَام الْـمُعَانِد، وَحِفْظ قَوَاعِد الْدِّيْنِ عَنْ شُبَهِ الْـمُبْطِلِيْنَ، وَصِحَّة الْنِّيَّة وَالاِخْلَاص، وَغَيْر ذَلِكَ. وَفِي الاَخِرَةِ: الْفَوْز بِالْسَّعَادَةِ، وَنَاهِيْكَ بِهَذَا كُلِّهِ))(7)…
وَقَالَ أَيْضًا فِي حَوَاشِيه عَلَى كُبْرَى الْسَّنُوسِي: ((وَأَمَّا فَائِدَةُ هَذَا الْعِلْمِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ لَهُ فَوَائِد أُخْرَوِيَّة، كَالْسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْـمُرَتَّبِ عَلَى الْكُفْرِ وَسَيِّئِ الاِعْتِقَادِ، وَدُنْيَوِيَّة كَرَفْعِ الْقَتْلِ وَانْتِظَامِ الْـمَعَاشِ بِالْعَدْلِ، وَرَفْعِ الْجُوْرِ وَالْتَّظَالُـمِ))(
…
خَامِسًا: فَضْلُ “عِلْم الْكَلَامِ”؟!
قَالَ الْإِمَام الْيُوسِي (ت:1102هـ) فِي قَانُونِهِ: ((وَأَمَّا رُتْبَتهُ: أَيْ مَنْزِلَتهُ مِنَ الْشَّرَفِ وَهِيَ الْفَضْل، فَتَابِعَةٌ لِشَرَفِ الْغَايَةِ مَعَ الْـمَوْضُوع وَالْـمَعْلُوم وَالْدَّلِيْل، وَلَا شَكَّ أَنَّ غَايَةَ هَذَا الْعِلْمِ أَشْرَف الْغَايَاتِ، وَمَوْضُوعهُ أَعْلَى الْـمَوْضُوعَاتِ، وَمَعْلُومهُ أَجَلّ الْـمَعْلُومَاتِ، وَأَدِلَّتهُ بَرَاهِيْنَ تَطَابَقَ عَلَيْهَا الْعَقْل وَالْنَّقْل، فَهَذَا غَايَة الْشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَشْرَف الْعُلُومِ))(9)…
سَادِسًا: وَاضِعُ هَذَا الْفَنِّ “عِلْم الْكَلَامِ”؟!
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْيُوسِيُّ (ت:1102هـ) فِي قَانُونِهِ: ((وَأَمَّا وَاضِعُهُ [عِلْمُ الْكَلَامِ] فَقِيلَ: هُوَ الْشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَوَّنَ هَذَا الْعِلْمَ، وَهَذَّبَ مَطَالِبَهُ، وَنَقَّحَ مَشَارِبَهُ، فَهُوَ إمَامُ أَهْلِ الْسُّنَّةِ غَيْر مُدَافَعٍ، وَلَكِنْ عَدُّهُ وَاضِعًا غَيْرُ بَيِّنٍ؟!، فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ لَهُ عُلَمَاءُ يَخُوضُونَ فِيهِ، كَالْقَلَانِسِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَّابٍ، وَكَانُوا قَبْلَ الْشَّيْخِ يُسَمَّوْنَ بِالْمُثْبِتَةِ، لِإِثْبَاتِهِمْ مَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَيْضًا عِلْمُ الْكَلَامِ كَمَا مَرَّ صَادِقٌ بِقَوْلِ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ، وَالْشَّيْخُ كَانَ يَدْرُسُهُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَقِصَّتُهُ مَعْلُومَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ وَاضِعًا؟!.
وَالْأَوْلَى أَنَّهُ عِلْمٌ قُرْآنِيٌّ، لِأَنَّهُ مَبْسُوطٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، بِذِكْرِ الْعَقَائِدِ، وَذِكْرِ الْنُّبُوَّاتِ، وَذِكْرِ الْسَّمْعِيَّاتِ، وَذَلِكَ مَجْمُوعُهُ، مَعَ ذِكْرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُود الْصَّانِعِ تَعَالَى مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ، الْمُشَارِ إلَيْهِ بِخَلْقِ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْنُّفُوسِ وَغَيْرِهَا، وَالْإِشَارَةُ إلَى مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ كَالْمُثَلَّثَةِ، وَالْمَثْنِيَّةِ، والْطَّبَائِعِيِّينَ، وَإِنْكَارُ هَذَا عَلَيْهِمْ، وَالْجَوَابُ عَنْ شُبَهِ الْمُبْطِلِينَ الْمُنْكِرِينَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إمْكَانًا أَوْ وُجُودًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾[الأنبياء:104] وقَوْله تَعَالَى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾[يس:79]، وقَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا﴾[يس:80] وَذَكَرَ حُجَجَ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إقْرَارًا لَهَا، وَحِكَمَ لُقْمَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ الْنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ كَإِبْطَالِهِ اعْتِقَادَ الْأَعْرَابِ فِي الْأَنْوَاءِ، وَفِي الْعَدْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرًّا.
وَهَذَا إذَا اُعْتُبِرَ الْكَلَامُ مَعْزُولًا عَنْ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، وَأَمَّا إنْ اُعْتُبِرَ الْإِلَهِيَّ، وَأَنَّهُ الْمَأْخُوذُ فِي الْمِلَّةِ بَعْدَ تَنْقِيحِهِ، بِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَتَصْحِيحِ الْصَّحِيحِ، فَلَا إشْكَالَ أَنَّ وَضْعَهُ قَدِيمٌ))(10) وَهَذَا تَحْقِيْقٌ نَفِيْسٌ…
وَقَالَ الْعَلَّامَة الْأُصُولِي الْإِمَام الْهُمَام بَدْر الْدِّين الْزَّرْكَشِي (ت:794هـ) (ت:794هـ): ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ [الْقُرْآن] قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ اسْتِنْبَاطُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ فَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِتَغَيُّرِ الْصِّفَاتِ عَلَيْهِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهُوَ آيَةُ الْحُدُوثِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي احْتِجَاجِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الْسَّلَام اسْتِدْلَاله بِحُدُوثِ الْأَفْلِ(11) عَلَى وُجُودِ الْمُحْدِثِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحُكْمِ الْنَّيِّرَاتِ الْثَّلَاثِ وَهُوَ الْحُدُوثُ، طَرْدًا لِلْدَّلِيلِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مَدْلُولُهُ، لِتَسَاوِيهَا فِي عِلَّةِ الْحُدُوثِ وَهِيَ الْجِسْمَانِيَّةُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، بِدَلَالَةِ الْتَّمَانُعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾[الْأَنْبِيَاء:22]؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ لَكَانَ لَا يَجْرِي تَدْبِيرُهُمَا عَلَى نِظَامٍ، وَلَا يَتَّسِقُ عَلَى إِحْكَامٍ، وَلَكَانَ الْعَجْزُ يَلْحَقُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا؛ وَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَ جِسْمٍ، وَأَرَادَ الْآخَرُ إِمَاتَتَهُ، فَإِمَّا أَنْ تُنَفَّذَ إِرَادَتُهُمَا فَتَتَنَاقَضَ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَجْرِيَ الْفِعْلُ إِنْ فُرِضَ الِاتِّفَاقُ، أَوْ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْضِّدَّيْنِ إِنْ فُرِضَ الِاخْتِلَافُ. وَإِمَّا لَا تُنَفَّذُ إِرَادَتُهُمَا فَيُؤَدِّيَ إِلَى عَجْزِهِمَا، أَوْ لَا تُنَفَّذُ إِرَادَةُ أَحَدِهِمَا فَيُؤَدِّيَ إِلَى عَجْزِهِ، وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ عَاجِزًا))(12)…
وَقَالَ الْبَدْر الْزَّرْكَشِي (ت:794هـ) أَيْضًا: ((اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ؛ وَمَا مِنْ بُرْهَانٍ وَدَلَالَةٍ وَتَقْسِيمٍ وَتَحْدِيدٍ يَنْبَنِي مِنْ كُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْسَّمْعِيَّةِ إِلَّا وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ نَطَقَ بِهِ، لَكِنْ أَوْرَدَهُ تَعَالَى عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ دُونَ دَقَائِقِ طُرُقِ أَحْكَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِسَبَبِ مَا قَالَهُ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[إِبْرَاهِيم:4] الْآيَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَائِلَ إِلَى دَقِيقِ الْمُحَاجَّةِ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِالْجَلِيلِ مِنَ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُفْهِمَ بِالْأَوْضَحِ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَتَخَطَّ إِلَى الْأَغْمَضِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْأَقَلُّونَ وَلَمْ يَكُنْ مُلْغِزًا، فَأَخْرَجَ تَعَالَى مُخَاطَبَاتِهِ فِي مُحَاجَّةِ خَلْقِهِ فِي أَجَلِّ صُورَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَدَقِّ دَقِيقٍ، لِتَفْهَمَ الْعَامَّةُ مِنْ جَلِيلِهَا مَا يُقْنِعُهُمْ وَيُلْزِمِهُمُ الْحُجَّةَ، وَتَفْهَمُ الْخَوَاصُّ مِنْ أَثْنَائِهَا مَا يُوَفِّي عَلَى مَا أَدْرَكَهُ فَهْم الْخِطَابِ. وَعَلَى هَذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: “إِنَّ لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدًّا وَمَطْلَعًا” لَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَنْ كَانَ حَظُّهُ فِي الْعُلُومِ أَوْفَرَ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ. وَلِذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ تَعَالَى حُجَّةً عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ أَتْبَعَهَا مَرَّةً بِإِضَافَتِهِ إِلَى أُوْلِي الْعَقْلِ، وَمَرَّةً إِلَى الْسَّامِعِينَ، وَمَرَّةً إِلَى الْمُفَكِّرِينَ، وَمَرَّةً إِلَى الْمُتَذَكِّرِينَ، تَنْبِيهًا أَنَّ بِكُلِّ قُوَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى يُمْكِنُ إِدْرَاكُ حَقِيقَتِهِ مِنْهَا. وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[الْرَّعْد:4]، وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ))(13)…
يُتْبَعُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى…
______________________
(1) الْـمَوْقِع الاِلِكْتْرُونِي لِلْوَهَّابِي عَلَى الْرَّابِط:
(2) حَوَاشِي الْيُوسِي عَلَى كُبْرَى الْسَّنُوسِي (1/306)، مَطْبَعَةُ الْفُرْقَانِ لِلْنَّشْرِ الْحَدِيثِ: الْدَّار الْبَيْضَاء، الْطَّبْعَةُ الْأُوْلَى: 2008م
(3) مُقَدِّمَة ابْن خَلْدُون (1/580)، دَار الْفِكْر لِلْطِّبَاعَةِ وَالْنَّشْرِ وَالْتَّوْزِيعِ: بَيْرُوت-لُبْنَان، طَبْعَة: 1421هـ-2001م
(4) مُقَدِّمَة ابْن خَلْدُون (1/590-591)
(5) حَوَاشِي الْيُوسِي عَلَى كُبْرَى الْسَّنُوسِي (1/306-307)
(6) الْقَانُون فِي أَحْكَامِ الْعِلْمِ وَأَحْكَامِ الْعَالِـمِ وَأَحْكَامِ الْـمُتَعَلِّمِ (ص:181)، تَأْلِيف: الْإِمَام أَبِي الْـمَوَاهِب الْحَسَن بْن مَسْعُود الْيُوسِي، مَطِبَعَةُ شَالة: الْرِّبَاط، الْطَّبْعَةُ الْأُوْلَى: 1998م
(7) الْقَانُون لِلْعَلَّامَة الْيُوسِي (ص:181)
(
حَوَاشِي الْيُوسِي عَلَى كُبْرَى الْسَّنُوسِي (1/311)
(9) الْقَانُون لِلْعَلَّامَة الْيُوسِي (ص:182)
(10) الْقَانُون لِلْعَلَّامَة الْيُوسِي (ص:182-183)
(11) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾[الْأَنْعَام:76]
(12) الْبُرْهَانُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ لِلْإِمَام بَدْر الْدِّيْن الْزَّرْكَشِي (2/147-148)، دَارُ الْـمَعْرِفَةِ: بَيْرُوت-لُبْنَان، الْطَّبْعَةُ الْأُوْلَى: 1410هـ-1990م
(13) الْبُرْهَانُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ لِلْإِمَام بَدْر الْدِّيْن الْزَّرْكَشِي (2/148-149)
