افتراءات وجهالات الدكتور الوهابي فركوس (6)

#افتراءات_وجهالات_الدكتور_الوهابي_فركوس (6)

قَالَ الْدُّكْتُور الْوَهَّابِي فَرْكُوس فِي حَمْلَتِهِ الْـمَسْعُورَةِ عَلَى “عِلْمِ الْكَلَامِ” مُحَاوِلًا تَحْرِيْف كَلَام الْإِمَام مَالِك لِوَافِقَ مَشْرَبه، مَا نَصُّهُ: ((فقَدِ اعتبر الإمام مالكٌ ـ رحمه الله ـ أهلَ الكلام هم أهلَ البِدَع، فعن أَشهبَ بنِ عبد العزيز قال: سَمِعْتُ مالكَ بنَ أنسٍ يقول: «إِيَّاكُمْ وَالبِدَعَ» قِيلَ: «يا أبا عبد الله، وما البِدَع؟» قال: «أهل البِدَع الَّذين يتكلَّمون في أسماء الله وصِفَاتِه وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عمَّا سَكَت عنه الصَّحابةُ والتَّابعون لهم بإحسانٍ»(٢٠).

ـ وروى عبد الرَّحمن بنُ مهديٍّ عن مالكٍ أنَّه قال: «لو كان الكلام علمًا لَتكلَّم فيه الصَّحابةُ والتَّابعون كما تكلَّموا في الأحكام والشَّرائع، ولكنَّه باطلٌ يدلُّ على باطلٍ»(٢١).

ـ وقال الإمام مالكٌ ـ أيضًا ـ: «أفكُلَّما جاءنا رَجلٌ أجدلُ مِنْ رَجلٍ تَرَكْنا ما نَزَل به جبريلُ عليه السَّلام على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم لجدلِه؟!»(٢٢).

ـ وعن أبي ثورٍ: سمِعْتُ الشَّافعيَّ يقول: «كان مالك بنُ أنسٍ إذا جاءه بعضُ أهل الأهواء قال: «أَمَا إنِّي على بيِّنةٍ مِنْ ربِّي ودِيني، وأمَّا أنتَ فشاكٌّ؛ اذهَبْ إلى شاكٍّ مِثلِك فخاصِمْه»»، وعن ابنِ وهبٍ عن مالكٍ مِثْلَه(٢٣).

ـ وقال أبو طالبٍ المكِّيُّ: «كان مالكٌ أبعدَ النَّاس مِنْ مذاهب المتكلِّمين وأشدَّهم بغضًا للعراقيِّين(٢٤)، وأَلزمَهم لسنَّةِ السَّالفين مِنَ الصَّحابة والتَّابعين»(٢٥)))(1)

الْتَّعْلِيق:

يُقَالُ لِهَذَا الْوَهَّابِي (الْـمُتَنَاقِض!):

أَوَّلًا: لَوْ كَانَ اسْتِدْلَالكَ بِكَلَامِ الْإِمَامِ مَالِك صَحِيْحًا لَلَزِمَ إِسْقَاط حُكْم الْبِدْعَة عَلَيْكَ وَعَلَى سَلَفِكَ الْتَّيْمِيَّةِ (الْـمُجَسِّمَةِ!) بِدَرَجَةٍ أُوْلَى؟!(2)…

هَلْ قَالَ الْسَّلَفُ بِأَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَالَـمِ فَوْقِيَّةَ (مُـمَاسَّةٍ!) وَ(مُلَاصَقَةٍ!) لِلْصَّفْحَةِ الْعُلْيَا لِلْعَرْشِ كَمَا يَدَّعِي شَيْخُكُم ابْن تَيْمِيَّة فِي بَيَانِ تَلْبِيْسِهِ؟!(3)…

هَلْ قَالَ الْسَّلَفُ بِأَنَّ يَد اللهِ (آلَةٌ!) يَفْعَلُ بِهَا جَلَّ وَعَزَّ كَـمَا يُدَنْدِنُ شَيْخكُم الْحَرَّانِي؟!(4)…

هَلْ قَالَ الْسَّلَف بِأَنَّ اللهَ (مَحْدُودٌ!) مِنْ (جَانِبِهِ الْتَّحْتَانِي!) بِالْصَّفْحَةِ الْعُلْيَا لِلْعَرْشِ وَأَنَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ (مَــحْدُودٌ!) مِنْ (الْجِهَاتِ!) الْخَمْسَةِ الْـمُتَبَقِيَّةِ كَمَا هُوَ صَرِيْح كَلَامِ شَيْخِكَ ابْن تَيْمِيَّة فِي بَيَانِ تَلْبِيْسِهِ؟!…

هَلْ قَالَ الْسَّلَفُ بِأَنَّ كَلَام اللهِ قَدِيْم الْنَّوْعِ حَادِث الْأَفْرَادِ كَمَا يَلْهَجُ بِتَرْدِيْدِهِ شَيْخكَ ابْن تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي؟!…

هَلْ…الخ؟!

فَإِنْ قُلْتَ: اضْطُرَّ ابْن تَيْمِيَّة لِلْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْـمَسَائِل لِلْتَّعْبِيرِ بِلِسَانِ الْعَصْرِ عَمَّا يَرَاهُ مِنْ عَقِيْدَةِ سَلَفِهِ (الْـمُجَسِّمَةِ!)؟!

يُقَالُ لَكَ: قَدْ كِلْتَ بِالْصَّاعِ الْوَافِي فَكِلْ لِغَيْرِكَ بِمِثْلِهِ؟!. ثُـمَّ إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّ الْإِمَام مَالِك قَدْ ذَمَّ “عِلْم الْكَلَامِ” لِذَاتِهِ هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، وَلَا اعْتِبَارٍ لِلْحَقِّ الَّذِي فِيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي قَدْ يَعْتَرِيْهِ، فَـمَنْ ذَا الَّذِي أَبَاحَ لَكُم وَلِشَيْخِكُم ابْن تَيْمِيَّة مَا تُحَرِّمُونَهُ عَلَى غَيْرِكُم؟!…

ثَانِيًا: مَا جَاءَ عَنْ الْإِمَام مَالِك مِنْ رِوَايَاتٍ فِي هَذَا الْشَّأْن فَقَدْ حَمَلهُ عُلَمَاء الْـمَذْهَبِ عَلَى مَحَامِل حَسَنَةٍ تَتَوَافَق مَعَ مَنْهَجِ الإِمَامِ نَفْسه، وَلْيُنْظَر مَثَلًا فِي الْرِّوَايَةِ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَ الْوَهَّابِي بِلَا فَهْمٍ!: ((قَالَ مَالِكٌ: إِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ. قِيلَ: وَمَا الْبِدَعُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عِلْمًا لَتَكَلَّمُوا فِيهِ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَحْكَامِ))؟!

فَالْظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْرِّوَايَة أَنَّ مُجَرَّد الْكَلَام فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِـمَا لَـمْ يَثْبُت عَلَى وَجْهِهِ مِنْ قَوْلِ الْسَّلَفِ الْكِرَام فَهُوَ: بِدْعَةٌ ضَلَالَةٌ؟!…

نَعَمْ؛ فَظَاهِر هَذِهِ الْـمَقُولَة أَنَّ أَهْل الْأَهْوَاء عِنْدَ الْإِمَام مَالِك هُم:

(أ‌) الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؟!

(ب‌) وَلَا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الْصَّحَابَةُ وَالْتَّابِعُونَ؟!

فَلَوْ تُرِكَ هَذَا الْكَلَام عَلَى إِطْلَاقِهِ لَحُكِمَ بِالْبِدْعَةِ حَتَّى عَلَى مَنْ يُحَرِّرُ الْكَلَام فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى تَحْرِيْرًا صَحِيْحًا سَلِيْمًا؟! فَلَازِمُ هَذَا الاِطْلَاقِ الْحُكْم عَلَى كُلِّ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الَّذِيْنَ كَتَبُوا فِي بَيَانِ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى بِالْبِدْعَةِ وَأَنَّهُم مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ؟! فَهَذَا الْفَهْم (الْـمَنْكُوس!) مِنَ الْدُّكْتُور فَرْكُوس لِعِبَارَةِ الْإِمَام مَالِك يَجْعَل مِصْدَاق الْاِطْلَاقِ فِي الْـمَقُولَةِ يَطَالُ الْـمُحِقَّ فِي تَقْرِيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامِهِ، كَـمَا يَطَالُ الْـمُبْطِلَ فِي هَذَيَانِهِ؟! فَمُجَرَّدُ الْكَلَام فِي الْصِّفَاتِ يُقْحِمُ الْـمَرْء فِي مُسْتَنْقَعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ؟!

هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا (الْخَبَالُ!) فِي الْفَهْمِ وَ(الْوَبَالُ!) فِي الْحُكْمِ هُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ مَالِك؟! أَيُعْقَلُ أَنْ يَحْكُمَ الْإِمَام مَالِك بِالْبِدْعَةِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ عَلَى أَئِمَّةِ الْسَّلَفِ الَّذِيْنَ حَرَّرَ عَقِيدَتهم الْإِمَام أَبُو جَعْفَر الْوَرَّاق الْطَّحَاوِي (239هـ-321هـ) فِي عَقِيْدتهِ الْمَشْهُورَة فَقَالَ فِي مُسْتَهَلِّ عَقِيْدته هَذِهِ: ((هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أهْلِ الْسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْـمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ الْنُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُف يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهيِمَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْـحَسَنِ الْشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ-؛ وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الْدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ))(5) وَقَالَ فِي الْـمَتْنِ: ((وَتَعَالىَ [الله] عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ لَا تَحْوِيْهِ الْجِهَاتُ الْسِّتُّ كَسَائِرِ الْـمُبْتَدَعَاتِ))(6)؟! وَقَالَ أَيْضًا: ((مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيْمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا، كَذَلِكَ لَايَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا. لَيْسَ بَعْد خَلْقِ الْخَلْقَ اسْتَفَادَ اسْمَ “الْخَالِقِ”، وَلَا بِإِحْدَاثِهِ الْبَرِيَّةَ اسْتَفَادَ اسْمَ “الْبَارِي”. لَهُ مَعْنَى الْرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ. وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْـمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا، اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْـخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ))(7)؟!…الخ؟!

أَيُعْقَلُ أَنْ يَحْكُمَ الْإِمَام مَالِك بِالْبِدْعَةِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ عَلَى كُلِّ مَنْ يُقَرِّرُ مَثَلًا بِأَنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَتَعَلَّقُ بِالْـمُمْكِنَاتِ لاَ بِالْـمُسْتَحِيْلَاتِ؟! أَوْ مَنْ يُقَرِّرُ بِأَنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْـمُسْتَحِيْلَاتِ، بِالْجُزْئِيَّاتِ وَبِالْكُلِّيَّاتِ؟! وَمَنْ يُقَرِّرُ أَنَّ الله لَا يَحِلُّ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا تَحِلُّ فِيْهِ؟! وَأَنَّ الله مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْجِسْمِيَّةِ وَصِفَاتِ الْـمُحْدَثَاتِ؟! وَ…الخ؟! كَلَا وَأَلْف كَلَا؟!

فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ فَهْمٍ صَحِيْحٍ لِعَبَارَاتِ الْإِمَامِ مَالِك وَالْسَّلَفِ، وَلَا يُعْقَلُ بِحَالٍ أَنْ يُفَسَّر مَا صَدَرَ مِنَ أَئِمَّةِ الْسَّلَفِ فِي حَقِّ “عِلْم الْكَلَامِ” بِمَا هُوَ ظَاهِر الْبُطْلَانِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ حَتَّى عِنْدَ الْصِّبْيَانِ؟!…

ثَالِثًا: اسْتَمِع يَا عَبْد اللهِ لِكَلَامِ بَعْضِ فَطَاحِل أَئِمَّةِ الْسُّنَّةِ فِي تَفْسِيْرِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ:

قَالَ الْإِمَامُ شِهَابُ الْدِّيْن الْقَرَافِي الْـمَالِكِي (ت:684هـ): ((وَرَأَيْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَوَابًا لِكَلَامٍ كَتَبَ بِهِ إِلَيْهِ مَالِكٌ: “إِنَّكَ تَتَحَدَّثُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَإِنَّ الْسَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ”.

فَأَجَابَ بِأَنَّ: “الْسَّلَفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ تَكُنِ الْبِدَعُ ظَهَرَتْ فِي زَمَانِهِمْ فَكَانَ تَحْرِيكُ الْجَوَابِ عَنْهَا دَاعِيَةً لِإِظْهَارِهَا فَهُوَ سَعْيٌ فِي مُنْكَرٍ عَظِيمٍ فَلِذَلِكَ تُرِكَ”، قَالَ: “وَفِي زَمَانِنَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فَلَوْ سَكَتْنَا كُنَّا مُقِرِّينَ لِلْبِدَعِ، فَافْتَرَقَ الْحَالُ”.

وَهَذَا جَوَابٌ سَدِيدٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ ظَهَرَتْ بِبِلَادِهِ بِالْعِرَاقِ، وَمَالِكٌ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِبَلَدِهِ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامِ الْإِمَامَيْنِ.

وَعَنِ الْشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “لَوْ وَجَدْتُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَضَرَبْتُهُمْ بِالْحَدِيدِ”. قَالَ لِي بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الْشَّافِعِي تَحْرِيمُ الِاشْتِغَالِ بِأُصُولِ الْدِّينِ.

قُلَتُ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ الْيَوْمَ فِي عُرْفِنَا إِنَّمَا هُوَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَلَمْ يُدْرِكُوا الشَّافِعِيَّ وَلَا تِلْكَ الطَّبَقَةَ الْأُولَى. إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَانِ الْشَّافِعِيِّ عَمْر بْنُ عَبِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْضَّلَالَةِ، وَلَوْ وَجَدْنَاهُمْ نَحْنُ ضَرَبْنَاهُمْ بِالْسَّيْفِ فَضْلًا عَنِ الْحَدِيدِ، فَكَلَامُهُ ذَمٌّ لِأُولَئِكَ لَا لِأَصْحَابِنَا. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْقَائِمُونَ بِحُجَّةِ اللَّهِ وَالنَّاصِرُونَ لِدِينِ اللَّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَظَّمُوا وَلَا يُهْتَضَمُوا لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ بِفَرْضِ كِفَايَةٍ عَنِ الْأُمَّةِ، فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَرْضُ كِفَايَةٍ.

قَالَ لِي ذَلِكَ الْشَّافِعِيُّ: يَكْفِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالْسُّنَّةُ!، قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُمَا كَيْفَ تُقَامُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ بِهِمَا؟! فَسَكَت))(😎

وَقَالَ الْإِمَامُ الْـمُفَسِّرُ الْقُرْطُبِي (ت:671هـ): ((قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَإِنَّمَا ظَهَرَ الْتَّلَفُّظُ بِهَا فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا تُرْجِمَتْ كُتُبُ الْأَوَائِلِ وَظَهَرَ فِيهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَوْهَرِ وَثُبُوتِهِ، وَالْعَرَضِ وَمَاهِيَّتِهِ؛ فَسَارَعَ الْمُبْتَدِعُونَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ إِلَى حِفْظِ تِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتِ، وَقَصَدُوا بِهَا الْإِغْرَابَ عَلَى أَهْلِ الْسُّنَّةِ، وَإِدْخَالَ الْشُّبَهِ عَلَى الْضُّعَفَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ. فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ، وَصَارَتْ لِلْمُبْتَدِعَةِ شِيْعَةٌ، وَالْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَى الْسُّلْطَانِ؛ حَتَّى قَالَ الْأَمِيرُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ!، وَجَبَرَ الْنَّاسَ عَلَيْهِ!، وَضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى ذَلِكَ. فَانْتدبَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْسُّنَّةِ كَالْشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُلَّابٍ وَابْنِ مُجَاهِدٍ وَالْمُحَاسِبِيِّ وَأَضْرَابِهِمْ؛ فَخَاضُوا مَعَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي اصْطِلَاحَاتِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ بِسِلَاحِهِمْ. وَكَانَ مَنْ دَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ وَالْسُّنَّةِ، مُعْرِضِينَ عَنْ شُبَهِ الْمُلْحِدِينَ، لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ؛ عَلَى ذَلِكَ كَانَ الْسَّلَفُ.

قُلْتُ: وَمَنْ نَظَرَ الْآنَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ حَتَّى يُنَاضِلَ بِذَلِكَ عَنِ الْدِّيْنِ فَمَنْزِلَتُهُ قَرِيبَةٌ مِنَ الْنَّبِيِّينَ. فَأَمَّا مَنْ يُهَجِّنُ مِنْ غُلَاةِ الْمُتَكَلِّمِينَ طَرِيقَ مَنْ أَخَذَ بِالْأَثَرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَحُضُّ عَلَى دَرْسِ كُتُبِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْحَقَّ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا بِتِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتِ فَصَارُوا مَذْمُومِينَ لِنَقْضِهِمْ طَرِيقَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُخَاصَمَةُ وَالْجِدَالُ بِالْدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ فَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي الْقُرْآنِ))(9)

وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ الْظُّلُماتِ وَالنُّورَ﴾[الْأَنْعَام:1] ذَكَرَ بَعْدَ خَلْقِ الْجَوَاهِرِ [الْسَّمَاوَات وَالْأَرْض] خَلْقَ الْأَعْرَاضِ [الْظُّلُماتِ وَالنُّورَ] لِكَوْنِ الْجَوْهَرِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، وَمَا لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. وَالْجَوْهَرُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ الْحَامِلُ لِلْعَرَضِ؛ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ “الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى” فِي اسْمِهِ “الْوَاحِدِ”. وَسُمِّيَ الْعَرَضُ عَرَضًا؛ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ فِي الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ فَيَتَغَيَّرُ بِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالْجِسْمُ هُوَ الْمُجْتَمِعُ، وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِسْمِ جَوْهَرَانِ مُجْتَمِعَانِ؛ وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكِتَابِ وَالْسُّنَّةِ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا الْعُلَمَاءُ وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، وَبَنَوْا عَلَيْهَا كَلَامَهُمْ، وَقَتَلُوا بِهَا خُصُومَهُمْ))(10)

وَقَالَ الْإِمَام الْعَلَّامَة أَبُو الْحَسَن عَلِي بْن عَبْد الْرَّحْمَن الْيَفْرُنِي الْطَّنْجِي (ت:734هـ): ((وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْنَّظَرَ فِي هَذَا الْعِلْـمِ [عِلْم الْكَلَامِ] حَرَامٌ لِـمَا وَرَدَ عَنِ الْسَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْتَّشْدِيْدِ؟،

فَالْـجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى: وَاجِبَة بِالْإِجْمَاعِ، وَالاِشْتِغَال بِهَذَا الْعِلْـمِ وَالْـمَقْصُود مِنْهُ إِنَّـمَا هُوَ مَعْرِفَة اللهِ تَعَالَى بِـمَا يَجِبُ لَهُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا يَسْتَحِيْلُ، فَـمِنْ أَيْنَ تَحْرُمُ مَعْرِفَة اللهِ تَعَالَى بِالْدَّلِيْلِ؟، وَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْر الْحُجَّةِ وَالْــمُطَالَبَة بِهَا، وَالْبَحْث عَنِ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَاَلى مَحْظُوْرًا؟، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيَّهِ عَلَيْهِ الْسَّلَام: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الْبَقَرَة:110]، وَقَالَ: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾[الْأَنْعَام:150]، وَقَوْله تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾[الْبَقَرَة:257]، فَمَدَحَهُ الله تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾[الْأَنْعَام:84]؟

وَأَمَّا كَلَام الْسَّلَفِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَـمْ تَظْهَر الْبِدَع فِي زِمَانِهِم، وَلِصِفَاءِ أَذْهَانِهِم، وَصِحَّة عَقَائِدهم، وَقِلَّة مَنْ يُحْوِجهُم إِلَى ذَلِكَ، قَالَ الْشِّهَابُ الْقَرَافِي: “رَأَيْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ جَوَابًا عَنْ كَلَامٍ كَتَبَ بِهِ مَالِكٌ إِلَيْهِ: إِنَّكَ لَتَتَحَدَّثُ فِي أُصُولِ الْدِّيْنِ، وَإِنَّ الْسَّلَفَ الْصَّالِحَ لَـمْ يَكُونُوا يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ؟.

فَأَجَابَ بِأَنَّ: الْسَّلَفَ لَمْ تَكُنِ ظَهَرَتْ الْبِدَعُ فِي زَمَانِهِمْ، فَلِذَلِكَ تَرَكُوهُ، وَفِي زَمَانِنَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ، فَلَوْ سَكَتْنَا عَنِ الْجَوَابِ لَكُنَّا مُقِرِّينَ لَهَا، فَافْتَرَقَ الْحَالُ”، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ”.

وَذَكَرَ الْزُّبَيْدِيُّ فِي “طَبَقَاتِ الْنُّحَاةِ” لَهُ: “أَنَّ الْعِلَـمَ الَّذِي كَانَ يَخْتَلِفُ مَالِك فِيْهِ لِابْنِ هُرْمُز سَنِيْنَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ عِلْم أُصُولِ الْدِّيْنِ، وَمَا يَرُدُّ بِهِ مَقَالَة أَهْلِ الْزَّيْغِ وَالْضَّلَالِ”.

وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: “كَانَ ابْنُ هُرْمُز بَصِيْرًا بِالْكَلَامِ، وَكَانَ يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ”، وَقَدْ سُئِلَ مَالِك عَنْ مُنَاظَرَةِ أَهْل الْأَهْوَاءِ، فَقَالَ: “أَمَّا لِلْمُسْتَبْحرِ: فَنَعَم، وَأَمَّا لِغَيْرِهِ: فَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَهَنٌ فِي الْدِّيْنِ”.

وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِ الْشَّافِعِي -أَيْ فِي أَهْلِ عِلْمِ الْكَلَامِ-: “أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيْدِ”، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيْمِ الْكَلَامِ فِي أُصُولِ الْدِّيْنِ؟، فَلَيْسَ الْأَمْر كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْـمُتَكَلِّمِيْنَ عِنْدَنَا الْيَوْم، إِنَّـمَا هُوَ الْأَشْعَرِي وَأَصْحَابه، كَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاق، وَالْإِسْفِرَايِنِي، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْر، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرهم، وَهُم الْقَائِـمُونَ بِحُجَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَنَاصِرُونَ لِدِيْنِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعَظَّمُوا؛ لِأَنَّهُم قَائِمُونَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا الَّذِيْنَ قَالَ الْشَّافِعِي فِيْهِم مَا قَالَ، إِنَّـمَا هُوَ: عَمْرُو بْن عُبَيْد مِنَ الْـمُعْتَزِلَةِ، وَحَفْص الْفَرْد مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، فَلَوْ أُدْرَكُوا الْيَوْمَ لَضُرِبُوا بِالْسُّيُوفِ، فَضْلًا عَنِ الْجَرِيْدِ، وَلِذَلِكَ لَـمَّا مَرِضَ الْشَّافِعِي، دَخَلَ عَلَيْهِ حَفْص الْفَرْد فَقَالَ: “مَنْ أَنَا؟..”. فَقَالَ: “أَنْتَ حَفْص الْفَرْد، لَا حَفِظَكَ اللهُ، وَلَا رَعَاكَ حَتَّى تَتُوبَ مِـمَّا أَنْتَ فِيْهِ”))(11)

وَقَالَ الْعَلَّامَة الْإِمَام الْفَقِيه الْأُصُولِي الْنَّظَّار الْحَسَن بْن مَسْعُود الْيُوسِي (ت:1102هـ) فِي ثَنَايَا تَحْرِيْرِهِ لِسَبَب وَضْعِ شَتَّى الْعُلُوْمِ الْشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ بَيْنِهَا “عِلْم الْكَلَامِ” مَا نَصُّهُ: ((كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ [الاِعْتِقَادَاتِ] سَلِيْمَةً، وَلَـمَّا تَكَاثَرَت الْأَهْوَاء وَالْشِّيَع، وَافْتَرَقَتْ الْأُمَّة كَمَا أَخْبَرَ الْصَّادِق الْـمَصْدُوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِرَقٍ، وَكَثُرَ الْخُبْثُ فِي الْدِّيْنِ، وَغَطَّت عَلَى الْحَقِّ شُبَه الْـمُبْطِلِيْنَ، انْتَهَضَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَعُظَمَاءُ الْـمِلَّةِ إِلَى مُنَاضَلَةِ الْـمُبْطِلِيْنَ بِاللِّسَانِ، كَـمَا كَانَ الْصَّدْر الْأَوَّل يُنَاضِلُونَ عَلَى الْدِّيْنِ بِالْسَّنَانِ، وَأَعَدُّوا لِجِهَادِ الْـمُبْطِلِيْنَ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّةٍ، فَاحْتَاجُوا إِلَى مُقَدِّمَاتٍ كُلِّيَّة وَقَوَاعِد عَقْلِيَّة، وَاصْطِلَاحَاتٍ وَأَوْضَاعٍ يَجْعَلُونَهَا مَحَلَّ الْنِّزَاعِ وَيَتَفَهَّمُونَ بِهَا مَقَاصِدَ الْقَوْمِ عِنْدَ الْدِّفَاعِ، فَدَوَّنُوا ذَلِكَ وَسَمَّوْهُ: “عِلْم الْكَلَامِ” وَ “أُصُول الْدِّيْنِ”، لِيَكُونَ بِإِزَاءِ أُصُول الْفِقْهِ))(12) وَقَالَ أَيْضًا: ((الْدِّيْن كُلّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالْسُّنَّةِ وَالْسَّلَفِ الْصَّالِحِ عَنِ الْنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾[الْـمَائِدَة:3]، وَإِنَّـمَا زَادَ الْعُلَمَاءُ فِي الْتَّآلِيْفِ الْكَلَامِيَّةِ: الْتَّقْرِيْرَات وَالْتَّفْسِيْرَات وَبَيَان كَيْفِيَّةِ الْتَّصَرُّفَاتِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْء مِنْ قَوَاعِد كُلِّيَّاتٍ وَبَرَاهِيْنَ عَقْلِيَّاتٍ، حَتَّى إِنَّ مُعْظَمَ الْحُجَجِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَالْسُّنَّةِ تَصْرِيْحًا وَتَلْوِيْحًا، وَإِنَّمَا زَادَ الْعُلَمَاءُ وَجْه الاِسْتِنْبَاطِ وَكَيْفِيَّة الاِسْتِدْلَالِ وَهُوَ كَذَلِكَ))(13)…

وَقَالَ أَيْضًا فِي تَقْرِيرٍ نَفِيْس جِدًّا: ((وَفِي ظَنِّي أَنَّهُ مَا أُوْتِيَ مُنْكِر هَذَا الْعِلْـمِ [عِلْم الْكَلَامِ]، إِلَّا مِنْ جَهْلِهِ وَتَخُيُّلِهِ أَنَّ مَا يُذْكَرُ فِيْهِ مِنَ الْأَوْضَاعِ وَالاِصْطِلَاحَاتِ وَالْشُّبَهِ وَالْـمُعَارَضَاتِ، مَقْصُودَة لِذَوَاتِهَا بِالْتَّدْوِيْنِ وَالْتَّصْنِيْفِ وَالْتَّعَلُّمِ وَالْتَّعْلِيْمِ، فَحَكَمَ بِتَحْرِيْمِ ذَلِكَ، إِمَّا لِأَنَّهُ: بِدْعَة، وَإِمَّا لِـمَا فِيْهِ مِنَ الْأَبَاطِيْلِ وَالْشُّبَهِ الْـمُضِلَّاتِ، وَمَنْ فُتِحَتْ بَصِيْرَتهُ وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا يُذْكَرُ فِيْهِ مُحْدَثًا إِنَّـمَا قُصِدَ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْـمَطْلُوْب هُوَ الْحَقُّ، لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّ الْـمُوصِلَ إِلَى الْحَقِّ حَقٌّ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوصِلُ؟ كَانَ مِنَ الْسُّمنِيَّةِ الْـمُنْكِرِيْنَ أَدَاء الْنَّظَرِ إِلَى الْعِلْمِ!…

فَإِنْ قَالَ: لِـمَ تُذْكَرُ فِيْهِ الْشُّبَه الْبَاطِلَاتِ وَالْأَهْوَاء الْـمُضِلَّاتِ، وَهَلَّا اقْتُصِرَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ الْسَّلَفُ كَـمَا هُوَ دَأْبُ الْسَّلَفِ؟

قِيْلَ لَهُ: كَيْفَ يُعْرَفُ الْحَقُّ لِيُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَيُمَيَّزَ عَنِ الْبَاطِلِ إِذَا لَـمْ يُعْرَف الْبَاطِلِ؟، كَمَا قِيْلَ:

عَرَفْتُ الْشَّر لَا لِلْشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيْهِ *** وَمَنْ لَا يَعْرِفَ الْشَّر مِنَ الْنَّاسِ يَقَع فِيْهِ

أَمَّا الْسَّلَفُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْشُّبَهُ لَـمْ تَحُم بِسَاحَتِهِم، وَمَنْ تَـمَّ لَـمْ يَشْتَغِلُوا بِذِكْرِهَا وَرَدِّهَا، وَنَحْنُ نَقْطَع أَنَّهُ لَوْ تَعَرَّضَ لَهُم بِدْعِيٌّ أَوْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِم شُبْهَة لَأَبْطَلُوهَا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَاب أَبِي حَنِيْفَة، وَقَوْله: “أَنَّ الْسَّلَفَ لَـمْ تَظْهَر فِي زَمَانِهِم الْشُّبَه، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَنَا، فَإِنْ سَكَتْنَا عَنْهَا كُنَّا مُقِرِّيْنَ لَهَا”.

عَلَى أَنَّ مُعْظَم ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكَانُوا عُرْبًا يَفْهَمُونَ مَعَانِيهِ فَهْمًا وَافِيًا، وَكَانَ مَمْلُوءًا بِالْحُجَجِ وَالْرَّدّ عَلَى الْـمُبْطِلِيْنَ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَقَائِد الْـمُبْطِلِيْنَ، كَإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْتَّثْلِيْثِ وَغَيْرهمَا مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ وَأَبْطَلَهَا، وَفِي ذَلِكَ لِأَهْلِ الْكَلَامِ أَعْظَم حُجَّةٍ))(14)…

وَقَالَ أَيْضًا: ((فَإِنْ قِيْلَ: إِنَّ الْكَلَامَ وَالْـمَنْطِقَ مُبْتَدَعَانِ، وَكُلّ بِدْعَةٍ يَجِبُ اجْتِنَابهَا؟

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ تُجْتَنَب، إِذْ مِنْهَا مَا يُسْتَحْسَنُ؟!، وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ فِي غَيْرهمَا مِنَ الْعُلُومِ: كَالْحِسَابِ، وَالْطِّبِّ، وَالْتَّنْجِيْمِ، وَصِنَاعَتَيْ الْأُصُولِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْأَدَبِ، وَنَحْوهَا: مُبْتَدَعٌ؟!.

فَإِنْ قَيْلَ: إِنَّ الْسَّلَفَ كَانُوا يَحْسِبُونَ وَيُعَالِجُونَ وَيَجْتَهِدُونَ وَيُحدِّثُونَ، وَإِنَّمَا أُحْدِثَ فِي هَذِهِ الْصَّنَاعَاتِ: الْأَلْقَاب؟

قُلْنَا: وَكَذَلِكَ كَانُوا يُفَسِّرُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ وَيُعَلِّلُونَ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَنْطِقِ إِلَّا هَذَا…))(15)…

وَقَوْل الْعَلَّامَة الْيُوسِي: ((لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ تُجْتَنَب، إِذْ مِنْهَا مَا يُسْتَحْسَنُ)) مُفَسَّرٌ بِقَوْلِ الْإِمَام الْنَّوَوِي (ت:676هـ): ((قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْبِدْعَةُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: وَاجِبَةٌ، وَمَنْدُوبَةٌ، وَمُحَرَّمَةٌ، وَمَكْرُوهَةٌ، وَمُبَاحَةٌ، فَمِنَ الْوَاجِبَةِ: نَظْمُ أَدِلَّةِ الْـمُتَكَلِّمِيْنَ لِلْرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُبْتَدِعِينَ وَشِبْهُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَنْدُوبَةِ: تَصْنِيفُ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبِنَاءُ الْمَدَارِسِ وَالْرُّبُطِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمُبَاحِ: الْتَّبَسُّطُ فِي أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ ظَاهِرَانِ))(16)…

وَقَالَ الْإِمَامُ الْرَّازِي (ت:604هـ) فِي تَفْسِيْرِهِ: ((إِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ الْصَّحَابَةَ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَلْفَاظَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ فِي الْكَلَامِ، كَمَا أَنَّهُم لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَلْفَاظَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ فِي الْفِقْهِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ بِالْدَّلِيلِ، فَبِئْسَ مَا قُلْتُمْ، وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْسَّلَفِ عَلَى الْكَلَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ))(17)…

يُتْبَعُ بِإِذْنِ اللهِ…

________________

(1) الْـمَوْقِع الاِلِكْتْرُونِي لِلْوَهَّابِي عَلَى الْرَّابِط:

https://ferkous.com/home/?q=art-mois-126

(2) يُرَاجَع فِي بَيَانِ تَنَاقُضه فِي الْحُكْمِ عَلَى “عِلْم الْكَلَامِ”:

(3) رَاجِع: https://www.facebook.com/yacine.ben.rabie/posts/1986267844941175

(4) رَاجِع:

وَ:

(5) مَتْنُ الْعَقِيْدَةِ الْطَّحَاوِيَّةِ بَيَانُ عَقِيْدَةِ أَهْلِ الْسُّنَّةِ وَالْـجَمَاعَةِ لِلْإِمَامِ أَبِي جَعْفَر الْطَّحَاوِي الْحَنَفِي (ص:7)، دَارُ ابْن حَزْم لِلْطِّبَاعَةِ وَالْنَّشْرِ وَالْتَّوْزِيعِ: بَيْرُوت-لُبْنَان، الْطَّبْعَةُ الْأُوْلَى:1416هـ-1995م

(6) مَتْنُ الْعَقِيْدَةِ الْطَّحَاوِيَّةِ بَيَانُ عَقِيْدَةِ أَهْلِ الْسُّنَّةِ وَالْـجَمَاعَةِ (ص:15)

(7) مَتْنُ الْعَقِيْدَةِ الْطَّحَاوِيَّةِ بَيَانُ عَقِيْدَةِ أَهْلِ الْسُّنَّةِ وَالْـجَمَاعَةِ (ص:9-10)

(😎 الْذَّخِيرَة لِلْشِّهَاب الْقَرَافِي (13/243-244)، تَحْقِيق: الْدُّكْتُور مُحَمَّد حجِّي، دَارُ الْغَرْب الْإِسْلَامِي، الْطَّبْعَة الْأُوْلَى: 1994م

(9) الْـجَامِع لِأَحْكَامِ القُرْآن لِلإِمَام الهُمَام الـمُفَسِّر القُرْطُبِي (2/213-214)، اعْتَنَى بِهِ وَصَحَّحَه: الشَّيْخ هِشَام سَمِير البُخَارِي، دَار عَالَـم الكُتُب لِلنَّشْرِ وَالطِّبَاعَة وَالتَّوْزِيع-الرِّيَاض، الطَّبْعَة الثَّانِيَة: 1423هـ-2003م

(10) الْـجَامِع لِأَحْكَامِ القُرْآن لِلإِمَام الهُمَام الـمُفَسِّر القُرْطُبِي (6/386)

(11) الْـمَبَاحِثُ الْعَقْلِيَّةِ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْعَقِيْدَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ لِأَبِي الْحَسَن عَلِي بْن عَبْد الْرَّحْمَن الْيَفْرُنِي الْطَّنْجِي (1/360-363)، تَقْدِيْم وَتَحْقِيْق: د.جَمَال عَلَّال الْبختِي، مَطْبُوعَاتِ: الْرَّابِطَة الْـمُحَمَّدِيَّةِ لِلْعُلَمَاءِ بِالْـمَمْلَكَة الْـمَغْرِبِيَّة وَمَرْكَز أَبِي الْحَسَن الْأَشْعَرِي لِلْدِّرَاسَاتِ وَالْبُحُوثِ الْعَقَدِيَّةِ، طَبْعَة: 2017م

(12) حَوَاشِي الْيُوسِي عَلَى كُبْرَى الْسَّنُوسِي (1/276)، مَطْبَعَةُ الْفُرْقَانِ لِلْنَّشْرِ الْحَدِيثِ: الْدَّار الْبَيْضَاء، الْطَّبْعَةُ الْأُوْلَى: 2008م

(13) حَوَاشِي الْيُوسِي عَلَى كُبْرَى الْسَّنُوسِي (1/232)

(14) حَوَاشِي الْيُوسِي عَلَى كُبْرَى الْسَّنُوسِي (1/270-271)

(15) حَوَاشِي الْيُوسِي عَلَى كُبْرَى الْسَّنُوسِي (1/278)

(16) صَحِيح مُسْلم بِشَرْح [الإِمَام] النَّوَوِي (6/154-155)، الـمَطْبَعَة الـمِصْرِيَّة بِالأَزْهَرِ، الطَّبْعَة الأُوْلَى: 1349هـ-1930م

(17) الْتَّفْسِيْر الْكَبِيْر لِلْإِمَامِ الْرَّازِي (2/105)، دَارُ الْفِكْرِ لِلْطِّبَاعَةِ وَالْنَّشْرِ وَالْتَّوْزِيْعِ: بَيْرُوت-لُبْنَان، الْطَّبْعَةُ الْأُوْلَى: 1401هـ-1981م