قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سُورَةَ ق/18]
فِى هَذِهِ الآيَةِ بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ الإِنْسَانُ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا يَكْتُبُهُ مَلَكَانِ أَحَدُهُمَا رَقِيبٌ وَالآخَرُ عَتِيدٌ، وَالإِنْسَانُ الْعَاقِل يَنْبَغِى أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ شَرٌّ وَمِنْ هَذَا الشَّرِّ الْغِيبَةُ وَالْبُهْتَانُ وَالنَّمِيمَةُ وَهِىَ مِنْ مَعَاصِى اللِّسَانِ وَمِنَ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ.
ثَبَتَ أَنَّ أَحَدَ الصَّحَابَةِ خَاطَبَ لِسَانَهُ وَقَالَ يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءَادَمَ مِنْ لِسَانِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ.
(1) الْغِيبَةُ هِىَ ذِكْرُ الْمُسْلِم بِمَا فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُ فِى غَيْبَتِهِ فَلَوْ كَانَ شَخْصٌ مُسْلِمٌ قَصِيرَ الْقَامَةِ فَقَالَ عَنْهُ شَخْصٌ فِى غَيْبَتِهِ «فُلانٌ قَصِيرٌ» وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِى نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلا يَغْتَبْ بَّعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [سُورَةَ الْحُجُرَات/12].
(2) الْبُهْتَانُ هُوَ ذِكْرُ الْمُسْلِمِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَإِثْمُهُ أَشَدُّ مِنْ إِثْمِ الْغِيبَةِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطِبًا بَعْضَ الصَّحَابَةِ «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ» قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ أَفَرَأْيَتَ إِنْ كَانَ فِى أَخِى مَا أَقُولُ قَالَ «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، ومَنِ اسْتَمَعَ لِلْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَقَدْ وَقَعَ فِى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِى الأُذُنِ وَعَلَيْهِ النَّهْىُ عَنْ ذَلِكَ.
(3) النَّمِيمَةُ هِىَ نَقْلُ كَلامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ كَنَقْلِ الْكَلامِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ لِلإِفْسَادِ وَالْقَطِيعَةِ أَوِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم/11] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ، وَالْقَتَّاتُ هُوَ النَّمَّامُ أَىْ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ الأَوَّلِينَ بَلْ بَعْدَ أَنْ يَنَالَ الْعَذَابَ الَّذِى يَسْتَحِقُّ فِى نَارِ جَهَنَّمَ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ.
الكلام بخلاف الواقع
الْكَذِبُ مِنْ مَعَاصِى اللِّسَانِ وَهُوَ الإِخْبَارُ بِالشَّىْءِ عَلَى خِلافِ الْوَاقِعِ عَمْدًا أَىْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ خَبَرَهُ هَذَا عَلَى خِلافِ الْوَاقِعِ وَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْجِدِّ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْمَزْحِ فَقَدْ قَالَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَصْلُحُ الْكَذِبُ فِى جِدٍّ وَلا فِى هَزْلٍ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِيَّاكَ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَلا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْكَذِبِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْ مَعَاصِى اللِّسَانِ مِنْهَا الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
(1) الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ
الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ كَأَنْ يَحْلِفَ إِنْسَانٌ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِخِلافِ الْوَاقِعِ فَيَقُولَ «وَاللَّهِ فَعَلْتُ كَذَا» وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ يَقُولَ «وَاللَّهِ لَمْ أَفْعَلْ هَذَا الشَّىْءَ» وَهُوَ قَدْ فَعَلَهُ فَهَذَا مِنَ التَّهَاوُنِ فِى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى.
(2) شَهَادَةُ الزُّورِ
مَعْنَى الزُّورِ الْكَذِبُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ كَأَنْ يَشْهَدَ شَخْصٌ عِنْدَ الْقَاضِى أَنَّ فُلانًا سَرَقَ وَهُوَ يَكْذِبُ قَالَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللَّهِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ أَىْ شُبِّهَتْ بِالإِشْرَاكِ مِنْ عُظْمِ الذَّنْبِ النَّاتِجِ عَنْهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ فَاعِلَهَا يَخْرُجُ مِنْ دِينِ الإِسْلامِ وَلَكِنَّهُ مُذْنِبٌ ذَنْبًا كَبِيرًا.
(3) الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَهُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُّسْوَدَّةٌ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/60] وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ كَأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ «خَلَقَ اللَّهُ فِى جِهَةِ كَذَا جَبَلًا مِنْ ذَهَبٍ» وَهُوَ يَكُونُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَهُوَ خِلافُ الْوَاقِعِ مَعَ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُ. وَمِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ مَا يَكُونُ كُفْرًا كَمَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ سَاكِنٌ فِى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ أَوْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِى كُلِّ شَىْءٍ فَهَذَا كُفْرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ يَنْسُبُ إِلَى اللَّهِ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ فِى شَرْعِهِ أَوْ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ فِى شَرْعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ.
أَمَّا الْكَذِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَأَنْ يَنْسُبَ كَاذِبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامًا لَمْ يَقُلْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ كَذِبًا عَلَىَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
