جواز الصَّغيرة على الأنبياء عند التَّفتازانيُّ و الماتُريديُّ

أهل الفتنة يطعنون بمقام النُّبُوَّة

ويتَّهمون أهل السُّنَّة والجماعة بذلك زُورًا وبُهتانًا

مقال نشر عند روي روي

الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على نبيه المصطفى.

1

وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة يُجوِّزون الكذب على الأنبياء قبل النُّبُوَّة وهذا منهُم ضلال وخرق للإجماع وطعن بمقام النُّبُوَّة فأهل الفتنة هُمُ الطَّاعنون بالأنبياء والعياذ بالله تعالَى وأمَّا أهل السُّنَّة والجماعة فمُجمِعون على عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام مِن الكُفر والكبائر والكذب قبل النُّبُوَّة وبعدها.

2

جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة لا يُجوِّزون على الأنبياء إلَّا الصَّغيرة الحقيقيَّة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة ولهُم في ذلك قُيود أُخرَى كقولهم: يتوبون منها فورًا قبل أنْ يقتدي بهم فيها أحد، ويقولون إنَّ هذه الصَّغيرة غير مُنفِّرة عنِ الاتِّباع وغير مُزرية بالأنبياء وغير قادحة في مناصبهم العليَّة.

3

فمَن الَّذي قدح بالأنبياء وطعن بمقام النُّبُوَّة: جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة الَّذين جوَّزوا على الأنبياء الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة ولا تُنفِّر عنِ الاتِّباع ولا تقدح بمناصب الأنبياء! أم الَّذي جوَّز على الأنبياء قبل الوحي الكذب والرَّذائل هُو الَّذي قدح بالأنبياء والعياذ بالله تعالَى!؟

4

يقول العُلماء إنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة: لا تقدح بالنُّبُوَّات، ولا تُنفِّر عنِ الاتِّباع، وأهل الفتنة يُكَذِّبُون العُلماء في هذا فيُقال لأهل الفتنة: كيف تزعُمون أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها تقدح بالنُّبُوَّة ومع ذلك تُجوِّزون على الأنبياء أنْ يصدُر منهُمُ الكذب والرَّذائل قبل الوحي!

5

يقول أهل الفتنة: (نحن لا نعتقد تجويز الكذب على الأنبياء قبل الوحي) ولكنَّهُم يُخفُون على النَّاس أنَّهُم يُصحِّحون القول بنُبُوَّة إخوة يوسُف الَّذين أثبت الله في القُرآن أنَّهم كذبوا على أبيهم نبيَّ الله يعقوب وأنَّهُم أرادوا قتل نبيِّ الله يوسُف وأنَّهُم آذَوه وباعوه على صُورة العبد المملوك.

6

نعم إخوة يوسُف تابوا وحَسُن إسلامُهُم بعد ذلك؛ هذا شيء والنُّبُوَّة شيء آخَرُ فقد وقع الإجماع على أنَّ مَن وقع في الكذب لا يصير نبيًّا؛ فإنْ وجدنا في الكُتُب ما يُخالف إجماع المُسلمين لا نُوافقُه بل يجب علينا إنكار كُلِّ قول فيه خرق لإجماع عُلماء المُسلمين ولو وُجِد في ألف كتاب.

7

أمسِ؛ نقلنا قول أبي العبَّاس المغربيِّ المالكيِّ المُتوفَّى 1128 للهجرة في [شرح المقاصد] في أنَّ تعمُّد الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها: (ليس ممَّا يُنَفِّر عنِ الاتِّباع ولا ممَّا يُوجب عقوبة الأنبياء)، فكذَّبه أهل الفتنة وزعموا أنَّها تُنفِّر عن الاتِّباع وأنَّها تُوجب عُقوبة الأنبياء والعياذ بالله!

8

والعُلماء الَّذين جوَّزوا على الأنبياء صغيرة لا خسَّة فيها لا يقولون إنَّ الله تعالَى يُعذِّب الأنبياء إنْ صدرت منهُم صغائرُ لا خسَّة فيها بل يقولون إنَّه تعالَى يغفرُها لهُم ويعفو عنهُم لأنَّهُم يتوبون فورًا ولأنَّ الله يغفر الصَّغائر لمَن تجنَّب الكبائر ولأنَّه تعالَى يعفو عن المُستغفرين.

9

ولهذا قال الماتُريديُّ في [تأويلات أهل السُّنَّة] [ج/10]: <وقال تعالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ولو لم يكُن لله تعالَى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر أحدًا، لم يكُن له على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ موضعُ الامتنان بما غفر له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر> انتهَى.

10

وكان الماتُريديُّ قال قبل أسطُر: <وفي قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} دلالة أنَّ لله تعالَى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر؛ لأنَّ رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مع مَن سبقه مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام قد عُصموا عن ارتكاب الكبائر؛ فلا يجوز أنْ يرتكبوا الكبائر فيهلِكوا لأجلها؛ فثبت أنَّهُم لو أُهلِكوا لأُهلِكوا بالصَّغائر، فلو لم يكُن لله تعالَى أنْ يُعذِّب أهل الصَّغائر، لصار هُو بإهلاكه إيَّاه بمَن معه جائرًا ظالمًا، وجلَّ اللَّه تعالَى عن الوصف بالجَور> انتهَى.

11

وكان التَّفتازانيُّ رحمه الله بيَّن قول الجُمهور فقال: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.

12

ولكنَّه رحمه الله اختار الأخذ بالقول الثَّاني عند أهل السُّنَّة والجماعة فقال: <والمذهب عندنا منع الكبائر بعد البعثة مُطلَقًا والصَّغائرِ عمدًا لا سهوًا لكن لا يُصرُّون ولا يقرُّون بل يُنبَّهُون فينتبهون؛ وذهب إمام الحرمين منَّا وأبو هاشم مِن المُعتزلة إلى تجويز الصَّغائر عمدًا> إلخ..

13

وهذان النَّقلان عن التَّفتازانيِّ أراد أهل الفتنة الاستدلال بهما ضدَّ ما نقلنا نحن عن الجُمهور؛ فخذلتهُم عُقولُهُمُ بعد أنْ تبيَّن أنَّ ما ينقُلُه التَّفتازانيُّ ينصُر ما ننقله نحن ويُعدم شُبهة أهل الفتنة الَّذين يدَّعون (الإجماع المكذوب) على عصمة الأنبياء مِن تعمُّد الصَّغائر بعد البعثة.

14

ففي النَّقل الأوَّل يُثبت التَّفتازانيُّ أنَّ مذهب الجُمهور عدم العصمة مِن تعمُّد الصَّغائر -الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة- وفي النَّقل الثَّاني يُثبت أنَّ إمام الحرَمين الجوينيَّ يقول بعدم العصمة مِن تعمُّد الصَّغائر بعد البعثة.. والجُوينيُّ مِن أكابر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة الأشاعرة.

15

وهذه ليست أوَّل مرَّة يستدلُّ فيها أهل الفتنة بما يُعدم تُرَّهاتهم وقد لا تكون الأخيرة فيا لخيبة أُولئك الضَّالين كيف لا يفهمون كلمات صريحة في دلالتها على المُراد؛ وأكثرُ مِن ذلك فإنَّنا نقطعُهُم بالحُجَّة والبُرهان ومع ذلك لا يتراجع السَّاقطون أمام النَّاس مهما كانت أخطاؤُهُم جليَّة!

16

فقد قرأ بعضُهم قول التَّفتازانيِّ في [شرح المقاصد]: <وبالجُملة فمسألة جواز الصَّغيرة عمدًا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها؛ لا نفيًا ولا اثباتًا> انتهَى فافترَى جاهل أهل الفتنة وزعم أنَّ كلمة (الاجتهاد) في قول التَّفتازانيِّ  ترجع إلى فعل النَّبيِّ لا إلى اختلاف العُلماء!

17

وهذا خطأ لا يقع فيه إلَّا جَهَلَة مُتصولحة لا يُحسنون قراءة ولا كتابة؛ ومع ذلك فقد نقلنا لهُم ما يدحض شُبُهاتهم مِن أقوال العُلماء الَّذين شرحوا كلام التَّفتازانيِّ وعُلماء آخرين قالوا ما يُؤيِّد كلامه في أنَّ المسألة خلافيَّة لا إجماع فيها (تجدون النُّقول مرسومة في ذيل هذا المقال).

18

فحيث أراد أهل الفتنة الهرب مِن ثُبوت كون مسألة (عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها) مسألة خلافيَّة؛ وقعوا في غلط قبيح بشع شنيع فنسبوا إلى الأنبياء الخطأ في الاجتهاد في الأُمور الشَّرعيَّة ولهذا يقع عندهُمُ الأنبياء في معاص صغيرة نتيجة خطئهم في الاجتهاد والعياذ بالله!

19

وهذا مِن أهل الفتنة زيغ وضلال معناه أنَّ النَّبيَّ قد يُخطئ فيما يُبلِّغُنا إيَّاه عن ربِّنا تعالَى وأنَّ النَّبيَّ قد يفهم أحكام الدِّين عن الوحي فهمًا مغلوطًا والعياذ بالله مِن الضَّلال! فهذا ما توصَّل إليه أهل الفتنة بتحريفهم مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة فعليهم مِن الله ما يستحقُّون.

20

فصار أهل الفتنة يُجوِّزون الكذب على الأنبياء قبل النُّبُوَّة ويُجوِّزون عليهمُ بعد النُّبُوَّة الخطأ في الاجتهاد وهذا يُثبت أنَّ أهل الفتنة لا يُعظِّمون الأنبياء لأنَّ تجويز الكذب عليهم يُناقض المُعجزة ويقدح بمناصبهم ونسبة الخطإ في الشَّرع إلى الأنبياء يُنافي الثِّقة بهم ولذلك هُو ضلال.

21

وأختم هذا المقال ببعض النُّقول الَّتي تُثبت أنَّ التفتازانيَّ إنَّما أراد أنَّ المسألة في معرض الاجتهاد أي اجتهاد المُجتهدين ولهذا اختلفت فيها آراؤُهُم:

22

قال التفتازاني في [شرح المقاصد؛ له]: <وبالجملة فمسألة جواز الصغيرة عمدا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها؛ لا نفيًا ولا اثباتًا> انتهَى.

23

وفي [شرح المقاصد] لأبي العبَّاس أحمد بن مُحمَّد بن مُحمَّد بن يعقوب المغربيِّ المالكيِّ المُتوفَّى 1128 للهجرة قال: <فمسألة جواز عمد الصَّغيرة على الأنبياء؛ لمَّا كانت ليست ممَّا يُنَفِّر عنِ الاتِّباع ولا ممَّا يُوجب عقوبة الأنبياء ولا قاطع بنفيها عنهُم ولا مصحِّح لثُبوتها: كانت كما قال في الشَّرح: مُعَرَّضة للاجتهاد فاختلفت فيها الآراء؛ والله الهادي بمَنِّه> انتهَى.

24

وفي حاشية الفاروقي على [شرح المقاصد] قال: <قولُه: (فمسألة جواز الصَّغيرة إلخ..) يعني أنَّ مسألة جواز صُدور الصَّغيرة عمدًا عنهُم بعد البعثة مُختلف فيها لا قاطع في جوازها ولا في امتناعها> إلخ..

25

وقال إمام الحرمَين عبد الملك الجُوينيُّ في [الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة فِي أُصول الاعتقاد]: <ولم يقُمْ عندي دليلٌ على نفيِها ولا على إثباتِها إذِ القواطعُ نُصوصٌ أو إجماعٌ ولا إجماعَ إذِ العُلماءُ مُختلِفونَ فِي تجويزِ الصَّغائرِ على الأنبياءِ> انتهَى.

26

وقال الشَّريف الجُرجانيُّ في [شرح المواقف]: <(وتعمُّدهُمُ الصَّغائرَ لا قاطعَ فيهِ نفيًا) كما نبَّهَ عليهِ بقولِهِ سابقًا؛ وأنتَ تعلمُ أنَّ دلالتَها في محلِّ النِّزاعِ وهي عصمتُهُم عنِ الكبيرةِ سهوًا والصَّغيرة عمدًا ليست بالقويَّةِ> إلى آخر كلامه.

27

وقال الشَّيخ مُحمَّد الطَّاهر بن عاشور في [تحقيقات وأنظار]: <قال إمام الحرمَين فِي [الإرشاد]: (وأمَّا الذُّنوب المعدودة مِن الصَّغائر فلم يقُم عندي قاطع سمعيٌّ على نفيها) أي: عدمِ وُقوعِها (ولا على إثباتها) أي: جوازِ وُقوعِها> إلخ..

28

وهذا المقال الَّذي لا طاقة لأهل الفتنة بردِّه لن يكون كافيًا لمنعهم مِن الافتراء وتحريف مذاهب الفُقهاء فقد جاء في الحديث الشَّريف: <إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأُولَى: إذَا لم تستحِ فَاصْنَعْ ما شئتَ> انتهَى وأهل الفتنة لا يستحون من الفضائح مهما كثُرت فوق رُؤوسهم ولكن يكفيهم ذُلًّا وهوانًا أنَّهُم صغار في عُيوننا وصغار في عُيون أنفُسهم.

نعي الحاجة كاملة إبراهيم بلقيس رحمها الله

بسم الله الرَّحمَن الرَّحِيم

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ

ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً

فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي

بمزيد مِن الرِّضَى بقضاء الله وقدره

ننعي إليكُم

الحاجة كاملة إبراهيم بلقيس رحمها الله

جاء في الحديث: <ما الميِّت في قبره إلَّا شبه الغريق المُتغوِّث ينتظر دعوة مِن أب أو أُمٍّ أو أخ أو صديق ثقة أو ولد صالح فإذا لحقه ذلك كانت أحبَّ إليه مِن الدُّنيا وما فيها وإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُدخِل على أهل القُبور مِن دُعاء أهل الدُّور أمثال الجبال وإنَّ هديَّة الأحياء للأموات الاستغفار لهُم> رواه البَيهقيُّ في [شُعب الإيمان].

فلا تبخلوا بالدُّعاء والاستغفار لها وقراءة القُرآن عن رُوحها.

إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

Jan 09, 2022 6:19:10am

قصيدة في الإسراء والمعراج

مَوْلَانَا لِلْأَقْصَى أَسْرَى ~ بِحَبِيبِ اللهِ أَبِي الزَّهْرَا

فَأَضَاءَ ظَلَامُ الشَّامِ بِهِ ~ وَتَلَالَا الْقُدْسُ بِهِ دَهْرَا

هُوَ خَيْرُ الْخَلْقِ مُحَمَّدُنَا ~ فِي هَذِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى

بِالرُّسْلِ إِمَامًا قَدْ صَلَّى ~ فَاجْهَرْ بِمَحَبَّتِهِ جَهْرَا

لِسَمَاءٍ سَابِعَةٍ وَافَى ~ وَرَأَى جِبْرِيلَ رَأَى السِّدْرَا

وَجِنَانَ الْخُلْدِ تَخَوَّضَهَا ~ هُوَ أَعْلَى النَّاسِ بِهَا قَدْرَا

يَا رَبِّ فَصَلِّ عَلَى الْهَادِي ~ مَنْ كَانَ لَنَا فِيهِ الْبُشْرَى

يَا رَبِّ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا ~ وَانْفَعْنَا فِي هَذِي الذِّكْرَى Jan 09, 2022 6:58:08am