الحكاية الكاملة
الجَهَلَة المُتصولحة.. وفتنة تضليل جُمهور عُلماء الأُمَّة
في جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء عليهمُ السَّلام
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة لو كانوا يُريدون تبرئة الأنبياء ممَّا يقدح بنُبُوَّاتهم لَمَا تركوا مَن نسب إلى الأنبياء الكُفر والكبائر والخسائس وتفرَّغوا للطَّعن بمَن أخذ بقول جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بصُدور صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء؛ فهذا يكشف سوء ما انطوت عليهم قُلوب أهل الفتنة.
2
وذلك أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون بالإجماع مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة؛ أمَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها: فالجُمهور على جواز وقوعه مِن الأنبياء، فلماذا يطعن أهل الفتنة بمَن أخذ بقول الجُمهور ويتركون الرَّدَّ على من نسب إلى الأنبياء ما لا يجوز في حقهم بالإجماع!؟
3
مرَّت سنوات ثلاثة لم يكُفَّ أهل الفتنة فيها عن تضليل وتكفير وتفسيق وتبديع مَن أخذ بقَول الجُمهور أو نَقَلَه لطَلَبَة العلم مع أنَّهُم رأَوا مئات النُّصوص مِن أقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ هذا ممَّا يجوز على الأنبياء فلا يُزري بهم ولا يقدح في نُبُوَّاتهم ولا يحُطُّ مراتبهم.
4
وقد اختلف كلام أهل الفتنة في كُلِّ فصل مِن فُصول هذه الفتنة حتَّى انكشف تناقُضُهُم لكُلِّ مُتابع مُنصف، فمِن تقرير تفصيل ما إلى إنكاره؛ ومِن إنكار تفصيل ما إلى تقريره! إضافة إلى ما ابتدع بعضُهُم -في هذه المسألة وما تعلَّق بها- مِن آراء وأقوال لم يُسبق إليها مِن قبل.
5
وقد اعترف بعضُهُم أنَّ بعض العُلماء أخذوا بظاهر الآيات الَّتي جاء فيها إضافة الذَّنب إلى الأنبياء؛ ثُمَّ -في فصل آخر- ادَّعى هُو نفسُه الإجماع على تأويل لفظ الذَّنب في الآيات المذكورة! فلمَّا واجهه البعض بكلامه القديم فكَّر كيف يتهرَّب ممَّا ألزموه به ويا ليت الجاهل ما فكَّر!
6
فقد ادَّعَى الجاهل ما معناه أنَّ حمل لفظ الذَّنب على ظاهره وترك تأويله -في الآيات الَّتي جاء فيها إضافة الذَّنب إلى الأنبياء- لا يقتضي حمل الذَّنب على الحقيقيِّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه! وهذه بدعة لا أظُنُّه سُبِق إليها فهي مُخالِفة لعُلوم الشَّرع واللُّغة ومُخالِفة للفهم السَّليم.
7
ولهذا الجاهل بدعة أُخرَى لم يُسبق إليها كذلك؛ فقد كان زعم أنَّ المعصية لها ثلاثة إطلاقات: الأوَّل حقيقيٌّ؛ والثَّاني مجازيٌّ؛ وافترَى نوعًا ثالثًا ثُمَّ زعم أنَّه ليس حقيقيًّا ولا مجازيًّا! كلام أشبه بكلام المجانين حتَّى إنَّ إخوانه مِن أهل الفتنة لم يجرُؤوا على تقليده في هذه المقالة لشدَّة سخافتها.
8
وكان أهل الفتنة في ابتداء الأمر يعترفون أنَّ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها جائزة في حقِّ الأنبياء على قَول الجمهور؛ ثُمَّ أنكروا قولَهُم القديم وافترَوا إجماعًا مكذوبًا يقول بأنَّ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها مُمتنعة عن الأنبياء بعد الوحي (بالإجماع)! فهذا مثال على اضطرابهم في المسألة.
9
وأهل الفتنة يُنكرون ما سبق أن قالوه؛ بدليل أنَّهُم بقُوا مُدَّة طويلة يقولون: (الجواز شيء والوُقوع حقيقةً شيء آخَر) فكانوا لا يُنكرون جواز صغائر لا خسَّة فيها على الأنبياء وإنَّما افترَوا إجماعًا مكذوبًا على عدم وُقوعها منهُم حقيقة! فلماذا بدَّلوا وصاروا يُنكرون الجواز بعد أنْ كانوا يُقرِّرونه!؟
10
وأنا أُجيب على السُّؤال؛ فلقد بقينا زمانًا طويلًا نقول لأهل الفتنة إنَّ الخلاف في مسألة العصمة وقع في تفسير آيات ورد فيها إضافة الذَّنب إلى الأنبياء؛ وللتَّقريب فإنَّ العُلماء لم يختلفوا هل أكل آدم عليه السَّلام مِن الشَّجرة بل اختلفوا في تقرير نوع هذا الذَّنب الَّذي أخبر عنه القُرآن الكريم.
11
فلمَّا فهم أهل الفتنة كلامنا -بعد شُهور كثيرة مِن ترديده وتكراره- انتبهوا أنَّ تمييزهم بين الجواز وبين الوُقوع لا معنَى له وتأكَّدوا أنَّ كلامهُم يكشف لكُلِّ أحد أنَّهُم مِن الجَهَلَة على التَّحقيق وأنَّ أفهامهُمُ السَّقيمة لم تُسعفْهُم في فهم كلامنا إلَّا بعد مُرور زمان طويل فلهذا اضطربوا فغيَّروا وبدَّلوا.
12
وعجز أهل الفتنة خلال كُلِّ تلك الفُصول عن الرَّدِّ على أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها لو كَثُرت وتكرَّرت: تلتحق بالكبائر كما نصَّ القاضي عياض؛ وهذا يُثبت كونها حقيقيَّة لأنَّه لا خلاف بين أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ السَّهو وترك الأَوْلى والنِّسيان مهما كَثُر ذلك وتكرَّر لا يلتحق بالكبائر.
13
وعجز الجَهَلَة عن ردِّ قَول الماتُريديِّ: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى وكلام الماتُريديِّ صريح في أنَّ هذا الذَّنب حقيقيٌّ لأنَّ فيه عذاب في الآخرة لمَن لم يغفر الله له.
14
بل أنكر واحد مِن أهل الفتنة وُجود صغائر لا خسَّة فيها! وسكت له البقيَّة منهُم! وهذه بدعة أُخرَى جديدة جرَّهُم إليها خبث نواياهُم في الطَّعن بالعالِم العامل مولانا الشَّيخ عبدالله الهرريِّ الحبشيِّ رحمه الله ولا يُوافقُهم في هذا سُنِّيٌّ أبدًا سواء كان أخذ بقول الجُمهور أو بقول الأقلِّ مِن العلماء.
15
ثُم قرأ بعض أهل الفتنة كلامَ مُلَّا عليٍّ القاري وهُو المُحدِّث والفقيه الحنفيُّ المشهور فوصفه بالغبيِّ واستعاذ بالله منه واحتمل عنده أنَّه كافر! والجاهل لم ينتبه أنَّه يقرأ كلام مُلَّا عليٍّ القاري بل توهَّم أنَّه كلام واحد منَّا نحن المُكافحين لأهل الفتنة بسبب كون كلامنا وكلام العُلماء واحدًا.
16
وكان هذا الطَّعن بمُلَّا عليٍّ القاري صريحًا لأنَّ الجاهل إنَّما قرأ كلام مُلَّا عليٍّ القاري ثُمَّ سبَّه وشتمه وطعن بدينه ولذلك استشعر أهل الفتنة الحرج مِن فضيحة أخيهم فدفعوا بثرثارهم صاحب البِدَع العجيبة الَّتي أخبرتُ عنها في بداية المقال ليُحاول التَّغطية على فضيحة أخيه المفتون.
17
فقام هذا الثَّرثار المذكور أخيرًا بعمل فيديو جمع فيه بين العمد والسَّهو في فعل واحد! فيصير عنده والعياذ بالله يُحمَل لفظُ الذَّنب على الظَّاهر ومصروفًا عن الظَّاهر في آنٍ معًا! وهذه بدعة عجيبة أُخرَى مِن بِدَعِه الكثيرة الَّتي لم يُسبَق إليها لأنَّه ما فهم الفرق بين العمد وبين السَّهو.
18
وقد علَّمناه مِن قبلُ أنَّ الصَّغيرة إذَا حُمِلَت على السَّهو كان اللَّفظ مصروفًا عن ظاهره، أمَّا لو حُمِلَتِ الصَّغيرة على العمد فلا يُصرف اللَّفظ عن ظاهره بل يُحمَل على الحقيقة؛ أمَّا الجمع بين الحمل على السَّهو وعلى العمد معًا في آنٍ واحد: فمثل هذا لا يصدُر إلَّا عن جاهل بكُلِّ علم.
19
ففي [حاشية الكستليِّ على شرح السَّعد التَّفتازانيِّ على [متن العقائد] للنَّسفيِّ: <أو المُراد الصَّغيرة سهوًا أو عمدًا أو ما كان منه قبل النُّبوَّة، والآية على الوجه الأوَّل مصروفة عن ظاهرها بخلاف الوُجوه الأُخَر إذ ليس فيها إخراجها عن ظاهرها بالكلمة فتدبَّر وقِس عليها نظائرها> انتهى.
20
وكلام الكستليِّ -القاضي والفقيه الحنفيٌّ ت/901هـ- واضح في جواز وُقوع الصَّغيرة سهوًا أو عمدًا بعد النُّبُوَّة وليس قبلَها وحسب، وفي كلامه بيانُ ما سبق أنْ قُلناه مِن أنَّ لفظ الذَّنب يُصرف عن ظاهره إنْ حُمل وُقوعُه على السَّهو؛ ولا يُصرف عن ظاهره أبدًا إنْ حُمل وُقوعُه على العمد.
21
وفي هذا قطع دابر ذلك الثَّرثار الَّذي تجرَّأ على تضليل الأئمَّة الأكابر؛ ثُمَّ كُلَّما تكلَّم زاد خطؤُه في الدِّين والشَّرع، فهذا الجاهل عندما أراد التَّهويل على العامَّة لتنفيرهم مِن الأخذ بقَول الجُمهور استعمل عبارات حرَّف بها قَول الجُمهور ودسَّ في معناه ما ليس منه وأنا بإذن الله أفضحُه وأُبَيِّن الحقَّ.
22
فقد زعم ثرثار أهل الفتنة أنَّنا نقلنا عن الجُمهور القول باقتحام الأنبياء للمعاصي! وكَذَبَ الخائن لأنَّ الاقتحام هُو رمي النَّفس في الشَّيء بلا رويَّة وهذا ضدُّ ما نقلناه عن الجُمهور: قال الجمهور إنَّ الأنبياء لا يُصرُّون على الصَّغيرة إنْ وقعت منهُم بل يُقلعون عنها فورًا قبل أن يُقتدى بهم فيها.
23
وهكذا شأن الجَهَلَة يتكلَّمون في دين الله بألفاظ لا يفهمون معناها ولا عجبَ فهُم أعوان إبليس وإبليس يرضَى بفعلهم هذا والعياذ بالله. فقد افترَوا مرَّة أنَّنا نقلنا عن الجُمهور القول بتلبُّس الأنبياء للمعاصي! وكذبوا كذلك لأنَّ التَّلبُّس ضدُّ قَول الجُمهور: يرجعون عنها فورًا ولا يُصرُّون عليها.
24
وقد رأيتُ كيف حاول أهل الفتنة الانتصار لابن حزم الَّذي لا تخفَى حالُه على طَلَبَة العلم بل قال فيه العُلماء: إنَّه <نسب إلى دين الله ما ليس فيه> إلخ.. مع ذلك لم يستحِ أهل الفتنة مِن الجهر بمُوافقته وكأنَّهُ العالم الحُجَّة ولم يدر الجَهَلَة أنَّهُم يحتجُّون بشخص طعن به العُلماء قديمًا وحديثًا.
25
والموضع الَّذي وافق أهل الفتنة فيه ابنَ حزم كان في طعنه بالإمام ابن فورك لقوله بوُقوع صغائر عمدًا مِن الأنبياء! وقد كان أهل الفتنة قرأوا اسم ابن حزم في بعض مُؤلَّفات شيخنا الهرريِّ ولم يفطُنوا أنَّه يستدلُّ به عند مَن يُقدِّسُه وليس عند مَن يطعن به كما فعل الجَهَلَة المُتصولحة!
26
فلمَّا انكشف جهلُهُم واستشعروا الفضيحة ثانيةً؛ عمد ثرثار أهل الفتنة إلى اشتراط أوصاف في المعصية الحقيقيَّة ما أنزل الله بها مِن سُلطان فزعم أنَّ المعصية الحقيقيَّة تقتضي نيَّة العصيان! وأنْ يكون قلب فاعلها خالٍ عن الخوف مِن الله تعالى بالكُلِّيَّة وهذه شروط ابتدعها مِن لدنه.
27
وابتدع ثرثار أهل الفتنة شُروطًا أُخرَى كثيرة؛ غايتُه منها أنَّ مَن فعل صغيرة لا خسَّة فيها: يكون خسيسًا! وأنَّ مَن فعل صغيرة لا دناءة فيها يكون دنيئًا! وأنَّ مَن فعل صغيرة لا تُزري بفاعلها يكون مُحتَقَرًا! وأنَّ مَن فعل صغيرة لا تُسقط المُروءة يكون ساقطَ المروءة! وهذا تناقُض شديد.
28
والرَّدُّ عليه في كُلِّ ذلك أثبته الجُمهور فقالوا: صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة. وقالوا: لا تُزري بالأنبياء ولا تقدح بمناصبهم ولا تحُطُّ مِن درجاتهم ولا تُسقط مُروءاتهم. وقالوا إنَّها غير مُنفِّرة وإنَّ الأنبياء إنْ وقعوا في صغيرة يُقلعون عنها ولا يُصرُّون عليها. فلا يخدعْكُمُ الثَّرثار بكثرة الكلام.
29
ومن بدع أهل الفتنة في هذه المسألة تكفيرُهُم لكُلِّ مَن قال: (آدم عصَى) في غير معرض تلاوة القُرآن الكريم لأنَّهُم قرأوا كلامًا لفقيه مالكيٍّ لم يفهموا محلَّه وأنَّه محمول على مَن قالَها مُريدًا السَّبَّ والشَّتم وأمَّا مَن قالها لغير ذلك فلا يكفُر البتَّة كما بيَّن الفُقهاء المالكيَّة ذلك بأنفسهم.
30
قال الشَّيخ مُحمَّد علِّيش: <قَالَ البُرْزُلِيُّ: فَتَمْثِيلُ النُّحَاةِ لِلَمْ وَلَمَّا بِقَوْلِهِمْ: “وَلَمَّا عَصَى آدَم رَبَّهُ وَلَمْ يَنْدَمْ” كُفِّرَ. وَكُفْرُهُ أُخْرَوِيٌّ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى نَصِّ القُرْآنِ وَلَمْ يَنْدَمْ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي القَدْحِ> انتهى فانظُر كيف أنَّه لم يجعل علَّة الوُقوع في الكُفر أنَّه قال: (آدم عصَى) ولكن لأنَّه قدح بالنَّبيِّ فقال: ولم يتُب!
31
وكذلك مِن أشهر تناقُضات أهل الفتنة -في مسألة عصمة الأنبياء- زعمُهُم أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يوسُف قَول مُعتبَر! مع أنَّ القُرآن أثبت في حقِّهم أنَّهُم كَذَبُوا وفعلوا الخسائس؛ ولمَّا نبَّهناهُم إلى هذه السَّقطة وقُلنا لهُم هذا منكُم طعن بمقام النُّبُوَّة أخذتهُم العزَّة بالإثم وتكبَّروا عن قَبول النُّصح.
32
وهكذا يُغيِّر أهل الفتنة الكلام في كُلِّ مرَّة فيضطربون بعد قراءة جُملة جديدة في كتاب ليس لهُم إليه سَنَد وهُم قاصرون عن فهم كلام العُلماء فيتناقضون تناقُض الصِّبية في الخُصومة؛ ولو كانوا طُلَّاب حقٍّ لَمَا تمسَّكوا بعبارات مِن الكُتُب لم يفهمُوها ولَمَا ردُّوا مئات أقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.
33
وقد رأيتُ ثرثار أهل الفتنة يُضلِّل مَن أخذ بقول الجُمهور ويصفُه بأنَّه ضالٌّ مُضِلٌّ -والعياذ بالله ممَّا يفتريه على الشَّرع- ثُمَّ يتباكَى أمام مَن يُخاطبُهُم فيشكو أنَّ (خصومه) يشتمونه ويُكفِّرونه! يعني يسمح التِّمساح الماكر لنفسه بتضليل جُمهور العُلماء ويتباكَى ليُخادع النَّاس.. إنَّ كيده لعظيم!
34
وكُنَّا نقلنا لأهل الفتنة مِن أقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ما يكفي لحسم الجَدَل في المسألة مِن أوَّل يوم وأنَّهُم بتضليل جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة العصمة: فقد وافقوا الشِّيعة الرَّوافض في ذلك والعياذ بالله، ونختم هذا المقال بنقل بعض أقوال أهل السُّنَّة والجماعة في المسألة:
35
قال الأبياريُّ المالكيُّ فِي [التَّحقيق والبيان فِي شرح البُرهان فِي أصول الفقه] ما نصُّه: <وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الصَّغَائِرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُقُوعِهَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ) فَهُوَ كَذَلِكَ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةُ وَاسْتَدَلَّ عَلَىْ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهى.
36
قال الإمام الشَّافعيَّ رضي الله عنه في كتابه [الأُمِّ]: <ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَىْ نَبِيِّهِ أَنْ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ يَعْنِي وَاللهُ أَعْلَمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَبْلَ الوَحْيِ وَمَا تَأَخَّرَ أَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُذْنِبُ. يُعْلِمُ اللهُ مَا يَفْعَلُ بِهِ مِنْ رِضَاهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَسَيِّدُ الخَلَائِقِ> انتهى.
37
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: <وَأَمَّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجوزيِّ فِي [مناقب أحمد] ومثله فِي [طبقات الحنابلة] وهو دليل أنَّ ذنب آدم عنده كان حقيقيًّا لأنَّ المُعتزلة لم يُكفِّروا بترك الأَولى.
38
وقال الإمام المُجتهد الطَّبريُّ المُفسِّر المشهور كذلك في تفسير {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}: <وَسَلْ رَبَّكَ غُفْرَانَ سَالِفِ ذُنُوبِكَ وَحَادِثِهَا> انتهى وقال في تفسير {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}: <فَيَغْفِرَ لَكَ بِفِعَالِكَ ذَلِكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ فَتْحِهِ لَكَ مَا فَتَحَ وَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَ فَتْحِهِ لَكَ ذَلِكَ مَا شَكَرْتَهُ وَاسْتَغْفَرْتَهُ> انتهى.
39
وقال رحمه الله: <وَلَوْ كَانَ القَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ عَلَى غَيْرِ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ وَلَا لِاسْتِغْفَارِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بَعْدَهَا مَعْنًى يُعْقَلُ. إِذِ الِاسْتِغْفَارُ مَعْنَاهُ: طَلَبُ العَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُنُوبٌ تُغْفَرُ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ غُفْرَانَهَا مَعْنًى. لِأَنَّهُ مِنَ المُحَالِ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبًا لَمْ أَعْمَلْهُ> انتهى.
40
قال الإمام الأشعريُّ رضي الله عنه في [المُجرَّد]: <إِنَّ أَنْوَاعَ هَذِهِ الأَلْطَافِ إِذَا تَوالَتْ وَفَعَلَهَا اللهُ بِالمُكَلَّفِ وَلَمْ تَتَخَلَّلْهَا كَبِيرَةٌ قِيْلَ لِمَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ إِنَّهُ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا. وَذَلِكَ كَأَحْوَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ..> إلخ..
41
وقال في [المُجرَّد]: <ثُمَّ حُكِيَ عَنْهُ فِي بَابِ ذُنُوبِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ مِنْهُمْ مَعَاصٍ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمَّونَ بِهَا؛ وَلَا يُقَالُ لَهُمْ عُصَاةٌ) وَلَيْسَ مَذْهَبَهُ بَلْ هَذَا مَذْهَبُ المُرْجِئَةُ. وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ عَاصٍ لوُجُودِ مَعْصِيَتِهِ فَإِذَا تَابَ زَالَ عَنْهُ الإِثْمُ بِزَوَالِ مَعْنَاهُ> انتهى.
42
وقال -أي الإمام الأشعريُّ- فِي [المُجرَّد] عن النَّبيِّ مِن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ما نصُّه: <كَمَا لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لِأَجْلِ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ صَغِيرَةٌ> انتهى.
43
وقال الإمام الماتُريديُّ رضي الله عنه في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة]: <وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَتَكَلَّفَ حِفْظَ ذُنُوبِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَذِكْرهَا> إلى قوله: <وَذَنْبُهُمْ تَرْكُ الأَفْضَلِ دُونَ مُبَاشَرَةِ القَبِيحِ فِي نَفْسِهِ> انتهى.
44
45
وقال الإمام الماتُريديُّ فِي [كتاب التَّوحيد]: <ثُمَّ الَّذِي يَنْقُضُ قَوْلَ الخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالصَّغَائِرِ مَا بُلِيَ بِهَا الأَنْبِيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ> انتهى وهو دليل أنَّ ذنوب الأنبياء حقيقيَّة على قول الجُمهور لأنَّ الخوارج لم يُكفِّروا بترك الأَولى والذُّنوب المجازيَّة.
46
وقال الإمام الماتُريديُّ فِي [شرح الفقه الأكبر]: <ثُمَّ الإِنْسُ وَالجِنُّ غَيْرُ مَعْصُومِينَ إِلَّا الرُّسُلَ وَالأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنِ الكَبَائِرِ فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْهَا لَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الكَذِبِ؛ وَالكَاذِبُ لَا يَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ وَغَيْرُ مَعْصُومِينَ عَنِ الصَّغَائِرِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُمْ مَقَامَ الشَّفَاعَةِ فَلَوْ عُصِمُوا عَنِ الصَّغَائِرِ لَوَقَعَ الضَّعْفُ فِي مَقَامِ الشَّفَاعَةِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُبْتَلَ بِبَلِيَّةٍ لَمْ يَرِقَّ عَلَى المُبْتَلَى فَهَذَا هُوَ الحِكْمَةُ فِي زَوَالِ العِصْمَةِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ فِي الصَّغَائِرِ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا لَمْ يَلْفِظِ الصَّغَائِرَ وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهَا الزَّلَلَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَتَيْنِ فِي الحَقِيقَةِ> انتهى.
47
وقال الكلاباذي فِي [التَّعرُّف لمذهب أهل التَّصوُّف] ما نصُّه: <وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ لَا يجْرِي عَلَيْهِ كَبِيرَةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَلَا صَغِيرَةٌ عِنْدَ بَعضِهم> انتهى.
48
وقال أيضًا: <وكُلُّ مَن أثبتَها زللًا وخطايَا فَإِنَّهُم جَعَلوها صغائرَ مقرُونةً بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى مُخبِرًا عَن صَفيِّهِ آدمَ وَزَوجتِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {رَبَّنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا} الآيَة؛ وَقَولُه: {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى} وَفِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَظنَّ دَاوُد أَنَّما فتنَّاه فَاسْتَغْفر ربَّه وخرَّ رَاكِعًا وأناب}> انتهى.
49
وقال أبو إسحاق الثَّعلبيُّ ما نصُّه: <الإماميَّةُ لا تُجوِّزُ الصَّغائرَ على النَّبيِّ ولا على الإمامِ؛ والآيةُ تردُّ عليهِمْ> انتهى. نقله المُفسِّر ابن عطيَّة الأندلسيُّ كما فِي [المُحرَّر الوجيز فِي تفسير الكتاب العزيز].
50
وقال ابن بَطَّال -مِن كبار الفُقهاء المالكيَّة فِي زمانه- فِي [شرحه على البُخارِيِّ]: <وقالَ أهلُ السُّنَّةِ: جائزٌ وقوعُ الصَّغائرِ مِنَ الأنبياءِ. واحتجُّوا بقولِهِ تعالَى مُخاطبًا لرسولِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضافَ إليهِ الذَّنْبَ> انتهى. وقال: <وفي كتابِ اللهِ تعالَى مِن ذِكرِ خطايَا الأنبياءِ ما لا خفاءَ بِهِ وقد تقدَّم الاحتجاجُ فِي هذه المسألة فِي كتابِ الدُّعاءِ فِي بابِ قولِ النَّبيِّ: (اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت) ما لم أذكُرْهُ ها هُنا> انتهى.
51
وقال ما نصُّه: <فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخْبِرُ لَنَا بِذَلِكَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِأَنْ يَدْخُلَ مَعَ أُمَّتِهِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ السَّهْوِ وَالخَطَإِ. وَإِنَّمَا يَقَعُ اسْتِغْفَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ الجَائِزَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ الَّتِي سَأَلَ اللَّهُ غُفْرَانَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ: (اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ)> انتهى.
52
وقال المُتولِّي -شيخ الشَّافعيَّة- فِي [الغُنية] ما نصُّه: <وأمَّا الصَّغائرُ فاختلفُوا فِي جوازِها عليهمْ..> انتهى. وقال ما نصُّه: <ومنهمْ مَن جوَّزها وعليه يدلُّ قَصَصُ الأنبياءِ وهوَ ظاهرٌ فِي القرآنِ> انتهى.
53
وقال إمام الحرمَين عبد الملك الجُوينيُّ فِي [الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة فِي أُصول الاعتقاد]: <ولم يقُمْ عندي دليلٌ على نفيِها ولا على إثباتِها إذِ القواطعُ نُصوصٌ أو إجماعٌ ولا إجماعَ إذِ العُلماءُ مُختلِفونَ فِي تجويزِ الصَّغائرِ على الأنبياءِ والنُّصوصُ الَّتي تَثبتُ أُصولُها قطعًا ولا يَقبلُ فحواها التَّأويلَ غيرُ مَوجودةٍ فإنْ قِيلَ إذَا كانتِ المسألةُ مظنونةٌ فمَا الأغلبُ على الظَّنِّ عندَكم؟ قُلنا: الأغلبُ على الظَّنِّ عندَنا جوازُها وقد شَهِدَتْ أقاصيصُ الأنبياءِ فِي آيٍ مِنْ كتابِ اللهِ تعالَى على ذلكَ. فاللهُ أعلمُ بالصَّوابِ> انتهى.
54
وقال الإمام الغزاليُّ فِي [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <لا يُتوصَّلُ إلى ذلكَ إلَّا بذكرِ مُقدِّمةٍ فِي عصمةِ الأنبياءِ عنِ المعاصِي وهيَ مُنقسمةٌ إلى الصَّغائرِ والكبائرِ وقد تقرَّرَ بمسلَكِ النَّقلِ كونُهم معصومِينَ عنِ الكبائرِ وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهى.
55
وقال المازريُّ فِي [إيضاح المحصول مِن بُرهان الأُصول]: <فبَيْنَ أئمَّتِنا اختلافٌ فِي وُقوعِ الصَّغائرِ فمنهُم مَن منعَها ومنهُم مَنْ أجازَها. وجنحَ المُجيزونَ لها إلى أنْ وَرَدَتْ فِي الشَّرعِ أخبارٌ تُشيرُ إلى أنَّها قد وَقَعَتْ مِنَ الأنبياءِ كقولِهِ تعالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وتأوَّلَ الآخَرونَ على أنَّ المُرادَ بِهِ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ ممَّا أحدثَهُ قبلَ النُّبوَّة أو على أنَّ المُراد بهذا الخطاب أُمَّته صلَّى الله عليه وسلَّم وهكذا يتأوَّلون ما استُدِلَّ به مِن الآيات المُشيرة إلى هذا كقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ} والمغفرة تقتضي ذنبًا. وقوله تعالى فِي يونس: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقوله فِي آدم: {وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} فقالوا هذا كان قبل نبوَّة آدم ألَا تراه يقول: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} فأشار إلى أنَّ الاجتباء كان بعد المعصية وكذلك يسلكون فِي جميع الظَّواهر والآيِ طرُق التَّأويل> انتهى.
56
وقال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهى.
57
وقال رحمه الله: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ. وَلَا فِي صَغِيرَةٍ أَدَّتْ إِلَى إِزَالَةِ الحِشْمَةِ وَأَسْقَطَتِ المُرُوءَةَ وَأَوْجَبَتِ الإِزْرَاءَ وَالخَسَاسَةَ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْصَمُ عَنْهُ الأَنْبِيَاءُ إِجْمَاعًا> انتهى.
58
وقال رحمه الله: <مَنْ جَوَّزَ الصَّغَائِرَ؛ وَمَنْ نَفَاهَا عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ..> انتهى.
59
وقال أبو زكريا النَّوويُّ فِي [شرح مُسلم] فيما نقله عن القاضي عياض ما نصُّه: <وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطُّ مَنْزِلَتَهُ وَتُسْقِطُ مُرُوءَتَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنْهُمْ فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتُهُمْ ظَوَاهِرُ القُرْآنِ وَالأَخْبَارِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتنَا إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ كَعِصْمَتِهِمْ مِنَ الكَبَائِرِ وَأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَجِلُّ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا وَعَنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَمْدًا> انتهى.
60
وقال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.
نهاية المقال.
Jul 3, 2021, 12:38 AM
