- لغة تعريف المكان والجهة
- تعريف المكان عند اللغويين والفلاسفة وجمهور المتكلمين و المجسمة
- تعريف المتكلمين للمكان
- رد بعض شبه المجسمة حول المكان
- مقالات السلف في تنزيه الله عن الجهة والحد والمكان
- الأصول الفلسفية لدعوى المكان العدمي: الجزء الثالث
لغة تعريف المكان والجهة
Dec 25, 2008 | العقيدة الإسلامية | Last updated on Feb 25, 2024
عَرَّف المكان جمعٌ من اللغويين وأهل العلم، ونقتصر على ذكر البعض،
1- فقد قال اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (502هـ) ما نصه: “المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشىء” اهـ.
2ـ وقال اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزءابادي صاحب القاموس (817هـ) ما نصه: “المكان: الموضع، ج: أمكنة وأماكن” اهـ.
3 ـ وقال العلامة كمال الدين أحمد بن حسن البَياضي الحنفي (1098هـ) ما نصه: “المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم” اهـ.
4 ـ وقال الشيخ يوسف بن سعيد الصفتي المالكي (1193هـ) ما نصه: “قال أهل السُّنة: المكان هو الفراغ الذي يحُلُّ فيه الجسم” اهـ.
5 ـ وقال الحافظ المحدّث الفقيه اللغوي الحنفي السيد مرتضى الزبيدي (1205هـ) ما نصه: “المكان: الموضع الحاوي للشىء” اهـ
6 ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (1376هـ) ما نصه: “المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان” اهـ.
7 ـ وقال الشيخ المحدث اللغوي الفقيه العلامة الشيخ عبد الله بن محمد الهرري رحمه الله ما نصه: “المكان هو ما يأخذه الحجم من الفراغ” اهـ.
فهذا النقل عن اللغويين وأهل العلم لبيان معنى المكان دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى موجودٌ بلا مكان، وأن الله لا يسكن العرش ولا يسكن السماء، لأن القرءان نزل بلغة العرب كما قال الله عزّ وجلّ في القرءان الكريم: {بلسان عربيّ مبين} [سورة الشعراء/195] والنبي أعلم الناس بلغة العرب، فبطل بذلك تمسك المشبهة المجسمة بظواهر بعض الآيات والأحاديث المتشابهة التي ظاهرها يوهم أن لله مكانًا، فمثل هذه النصوص لا تُحمل على الظاهر باتفاق علماء السلف والخلف لاعتقادهم بأن الله تبارك وتعالى يستحيل عليه المكان كما هو ثابت بالقرءان والحديث والإجماع وكلام اللغويين وغيرهم.
وبعد هذا البيان يتبيَّن لك أن الله تعالى ليس في مكان من الأماكن العلوية والسفلية وإلا لكان المكان حاويًا لله تعالى، ومن كان المكانُ حاويًا له كان ذا مقدار وحجم، وهذا من صفات الأجسام والمخلوقين، واتصاف الله تعالى بصفة من صفات البشر محال على الله، وما أدى إلى المحال فهو محال، فثبت صحة معتقد أهل السُّنة الذين ينـزّهون اللهَ عن المكان والجهة.
أما موضوع الجهة فإن مجسمة هذا العصر يعمدون إلى التمويه على الناس فيقولون: “الله موجود في جهة ما وراء العالم”، فلبيان الحق من الباطل نبيّن معنى الجهة من أقوال العلماء من فقهاء ومحدثين ولغويين وغيرهم.
8 ـ قال اللغوي الشيخ محمد بن مكرّم الإفريقي المصري المعروف بابن منظور، كان عارفًا بالنحو واللغة والأدب (711هـ) ما نصه: “والجِهةُ والوِجْهةُ جميعًا: الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده” اه
9 ـ وقال الشيخ مصطفى بن محمد الرومي الحنفي المعروف بالكستلي (901هـ) ما نصه: “قد يطلق الجهة ويراد بها منتهى الإشارات الحِسيّة أو الحركات المستقيمة فيكون عبارة عن نهاية البُعد الذي هو المكان، ومعنى كون الجسم في جهة أنه متمكّن في مكان يلي تلك الجهة، وقد يُسمى المكان الذي يلي جهة ما باسمها كما يقال فوق الأرض وتحتها، فيكون الجهة عبارة عن نفس المكان باعتبار إضافة ما” اهـ.
10ـ وقال اللغويُّ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزءابادي (817هـ) ما نصه: “والجهة: الناحية، ج: جهات” انتهى باختصار.
11ـ وقال العلاّمة كمال الدين أحمد بن حسن المعروف بالبياضي، وكان وَلِيَ قضاء حلب (1098هـ) ما نصه: “والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسمانيّ، وكل ذلك مستحيل ـ أي على الله ـ” اهـ.
12ـ وقال الشيخ عبد الغني النابلسي (1143هـ) ما نصه: “والجهة عند المتكلمين هي نفس المكان باعتبار إضافة جسم ءاخر إليه” اهـ.
13ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي الشافعي (1376هـ) ما نصه: “واعلم أن بين المقدرات من الجواهر التي هي الأجسام فما دونها وبين المكان والجهة لزومًا بَيّنًا، وهو ما لا يحتاج عند العقلاء إلى دليل، فإن المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان لكن بقيد نسبته إلى جزء خاص من شىء ءاخر” اهـ.
14ـ وقال الشيخ العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري الشافعي الأشعري ما نصه: “وإذا لم يكن ـ الله ـ في مكان لم يكن في جهة، لا عُلْوٍ ولا سُفلٍ ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء” اهـ.
تعريف المكان عند اللغويين والفلاسفة وجمهور المتكلمين و المجسمة
يُعدّ مفهوم “المكان” من الموضوعات التي حظيت باهتمام واسع عند الفلاسفة و اللغويين والمتكلمين، لما له من ارتباط وثيق بمسائل عقدية ومفاهيم الوجود، والخلق، والتجسيم، والعلاقة بين الخالق والمخلوق.
1- دلالة النصوص الشرعية على ثبوت المكان
ورد في القرآن الكريم ما يثبت أن للمكان حقيقة خارجية، كما في قوله تعالى: “فَتَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ”، أي موضع بعيد، وهذا يدل على إمكانية وصف المكان وتحديده. وكذلك في قوله تعالى: “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ”، أي هيأناه له ليراه ويحدده.
2- تعريف المكان عند اللغويين
ورد في القاموس المحيط لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحت مادة: “م.ك.ن” أن المكان هو “الموضع”، وجمعه “أمكنة” و”أماكن” .
و قال اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502 هـ جريما نصه “المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشىء”. انتهـى
وقد ارتبطت بعض التعريفات اللغوية للمكان بمفهوم “الحيّز”، وهو الفراغ الذي يشغله الجسم، في خين ارتبطت بعض التعريفات الأخرى للمكان بالسطح الحاوي بمعنى أن الغرفة مثلا مكان لما في داخلها، وبهذه التعريفات يكون المكان شيئا موجودا في الخارج لارتباطه بمفهوم الوجود المادي.
3- تعريف المكان عند الفلاسفة
يزعم الفلاسفة المشائون كأرسطو (أرسطاطاليس) وأتباعه مثل أبي نصر الفارابي وأبي علي الحسين بن سينا، أن المكان او الحيز هو “السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي”. وبعبارة أخرى هو “سطح الجسم الحاوي المماس للسطح المحاط”. فالمكان عندهم كالحاوية، وهو شئ مادي موجود، و ليس مجرد فراغ بل هو سطح مرتبط بوجود الجسم ذاته.
وأما أفلاطون والحكماء الإشراقيون الذين يزعمون أنهم اكتسبوا العلم بإشراق الباطن بالرياضات، فالمكان عندهم عبارة عن شئ موجود غير مادي – أي جسم لطيف – قائم بذاته. وسموه بُعدا مفطورا بالفاء للفطرة على معرفته بالبداهة. كما هو مذكور في شرح السّيد على المواقف.
وهذا الادعاء ردّه السعد في شرح المقاصد بأنه لو كان كذا لاحتاج لمحل يحل فيه ويتسلسل.
4- تعريف المكان عند جمهور المتكلمين
https://www.facebook.com/share/p/18N2XY7nD7/
5- تعريف المكان عند المجسمة
راجع المقالات التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1587LDmZgY/
6- بيان اختلاف تعريف المكان بين المتكلمين والفلاسفة ذكره الكثير من متأخري الأشعرية
أ- قال التفتازاني في شرحه على العقائد النسفية ما نصه: ” (ولا يتمكن فى مكان) لان التمكن عبارة عن نفوذ بعد فی بعد آخر متوهم او متحقق يسمونه المكان “. انتهى
وهذا معناه أن التمكن هو نفوذ بعد متحقق سواء كان جسما أو جوهرا في بعد متوهم – أي أن العقل توهم وجوده قبل نفاذ الجسم فيه، فإذا نفذ فيه تحقق وجوده عندئذ – أو متحقق عند الفلاسفة القائلين بالسطح
ب- قال الكستلي في حاشيته على شرح العقائد للتفتازاني ما نصه: ( قوله فى بعد آخر متوهم ) كما ذهب اليه المتكلمونَ او متحقق على ما اختاره افلاطون ( قوله و البعد عبارة عن امتداد ) موهوم عند المتكلمين محقق عند الفلاسفة، قائم بالجسم البتة عند المشائين او قائم بنفسه ايضا عند القائلين بان المكان عبارة عن بعد موجود مجرد. فمنهم من أحال خلوه عن الشاغل ومنهم من جوز ذلك وهم القائلون بوجود الخلاء “. انتهى
ج- قال البيجوري في حاشيته على جوهرة التوحيد: ” والمراد بالمكان، الفراغ الموهوم على رأي المتكلمين، والمحقق في راي الحكماء، ومعنى كونه موهوماً عند المتكلمين أنه يُتوهم أنه أمر وجودي وليس كذلك، بل هو أمر عدمي. وقيل معنى كونه موهوما أنه يتوهم أنه فراغ وليس كذلك، بل هو مملوء بالهواء فليس فراغا محققا”. انتهى
وكلام البيجوري هو في تعريف ماهية المكان، والا فهو لا ينفي كونه موجودا في الخارج بل هو واجب للجسم، حيث قال: والواجب قسمان، ضروري كتحيز الجرم أي أخذه قدرا من الحيز، وهو المكان، فإنه مادام الجرم موجودا، يجب أن يتحيز، فهو واجب مقيد بدوام الجرم”. انتهى
7- تنبيهات هامة:
– أولا : من زعم أن لله مكاناً أزلياً غير مخلوق كالخلاء أو الهواء، فقد جعل لله شريكاً في الأزل، وهذا شرك وكفر صريح، ولو ادّعى أن ذلك المكان ليس من هذا العالم.
– ثانيا: قالَ الإِمامُ ابنُ حَبَّانٍ في كَلامِهِ على حَديثِ: “أَيْنَ كانَ رَبُّنا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ؟ قالَ: في عَمَاءٍ، ما فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَما تَحْتَهُ هَوَاءٌ”، “قالَ أبو حاتمٍ رضيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: وَهِمَ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ مِنْ حَيْثُ “في غَمَامِ”، إِنَّما هُوَ “في عَمَاءِ” يُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الخَلْقَ لا يَعْرِفُونَ خَالِقَهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ، إِذْ كانَ لا زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ، وَمَنْ لا يُعْرَفُ لَهُ زَمَانٌ، وَلَا مَكَانٌ، وَلَا شَيْءٌ مَعَهُ، لِأَنَّهُ خَالِقُهَا، كانَ مَعْرِفَةُ الخَلْقِ إِيَّاهُ، كَأَنَّهُ كانَ في عَمَاءٍ عَنْ عِلْمِ الخَلْقِ، لا أَنَّ اللَّهَ كانَ في عَمَاءِ، إِذْ هذا الوَصْفُ شَبيِهٌ بأوصافِ المَخلوقين”. انتهى
راجع كتاب الإحسانُ في تقريبِ صَحِيحِ ابنِ حَبَّانِ
– ثالثا: أثر شريك في ” الإسراء و المعراج ” المروي في صحيح البخاري : “فَعَلاَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ، فَقَالَ وَهْوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا….”.
فلا يوجد في الرواية تصريح بإضافة المكان إلى الله، والا فالضمير في قوله: “وهو مكانه” عائد إلى الرسول صلى الله عليه و سلم أي: وهو في مكانه الذي أوحى الله إليه فيه قبل نزوله إلى موسى
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: “وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى”. انتهى
– رابعا: لا معارضة بين قول الله تعالى: الرحمان على العرش استوى ، وبين قول أهل السنة والسلف الصالح أن الله موجود بلا مكان، فإثبات علو الله عز وجل لا يستلزم تحيزاً كما يتوهم الحشوية، فالعلو في الشريعة ثابت، ولكن من غير أن يُفهم بمقاييس المخلوقين أو بحدود المكان المخلوق.
والا فإن المجسمة لا يفهمون من لفظ الاستواء الا الجلوس والقعود والاستقرار والاستلقاء، ومن العلو الا التخيز فوق العرش.

تعريف المتكلمين للمكان
ذهب جمهور المتكلمين إلى اعتبار أن المكان هو فراغ أو خلاء متوهم لا يقوم بذاته استقلالا. و الفراغ عندهم هو أمر عدمي لا وجود له إلا في الذهن. فإذا قام المكان بعين من الأعيان فوجوده عندها متحقق وليس مجرد أمر ذهني.
قال الشريف الجرجاني في التعريفات: الحيز: عند المتكلمين هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شيء ممتد، كالجسم، أو غير ممتد، كالجوهر الفرد.
وقال المناوي في التوقيف على مهمات التعاريف: المكان: عند الحكماء: السطح الباطن من الجسم الحاوي للمماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي. وعند المتكلمين: الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم وينفذ فيه أبعاده. انتهى
وقال عصام الدين المولوي في كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: الحيّز والمكان واحد عند من جعل المكان السطح أو البعد المجرّد المحقّق، وكذا عند المتكلّمين. إلّا أنّه بمعنى البعد المتوهم. انتهى
وعليه فأصل المكان عند المتكلمين هو الحيز الخالي من الشاغل -أي الجسم- . ففي هذه الحالة المكان هو مجرد وهم، ولا يعدو أن يكون “عدماً محضاً” أو وجودا ذهنيا، من غير أن يكون موجودا في الخارج.
وبالتالي، فإن القول بوجود “فراغ” مستقل يُعد في نظرهم وهماً لا واقع له.
ثم إن حصل وامتلأ المكان بجوهر أو بجسم، فهو في تلك الحالة ليس خاليًا عن الشاغل. فلا يعتبر المكان في تلك الحالة مجرد فراغ أو وهم، بل هو موجود في الواقع حقيقة، سواء كان بين جسمين يتلامسان أو بين جسمين لا يتلامسان، مثل الهواء يملأ الفضاء بينهما.
وهذا قول إمام الحرمين في الشامل – راجع الصور المرفقة-
وقد استغنى بعض المتكلمين عن ذكر عبارة “الفراغ المتوهم” في تعريف المكان لأجل كونه تارة متوهما، وكونه تارة وجوديا،
كالبَياضي الحنفي، في إشارات المرام في علم الكلام، حيث قال عن المكان هو “الفراغ الذي يشغله الجسم”. انتهى
وقال الشيخ يوسف بن سعيد الصفتي المالكي ما نصه: ” قال أهل السُّنة المكان هو الفراغ الذي يحُلُّ فيه الجسم”. انتهى
وقال الشيخ الدسوقي في شرحه على أم البراهين عند تعريف الحيّز بأنه: ” ما شغل الجسم قدر ذاته من الفراغ”










رد بعض شبه المجسمة حول المكان
مذهب المجسّمة أن الله في مكان دون مكان ، أي هو في العلو الحسي، لا أن المكان يحيط به عز وجل، لأن الله لا يحيط به شيء من مخلوقاته. ، وهذا المعتقد الفاسد يُفضي إلى القول بأن الله عز وجل جسم متحيز قطعا، وإن أنكروا لوازم قولهم.
وقد ناقش المتكلمون هذا الإشكال من خلال الاستدلال العقلي والنقلي، مؤكدين أن المكان لا يمكن أن يُنسب إلى الله، لأنه من لوازم الأجسام الحادثة. وهذا ما كان عليه سلف الأمة.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1FeAQDRNMo/
فاذا قال المجسم: إذا كان العرش في مكان، فالمكان الذي حوى العرش أين مكانه؟ يريد التسلسل، فالجواب القاطع له أن المكان عرض لازم يقوم بالجسم ولا يفتقر إلى أعراض أخرى. فالمكان هنا ليس شيئاً قائماً بذاته، بل هو من أعراض العرش، و هذا العرض ليس بحاجة إلى مكانٍ آخر بعد قيامه بالعرش ولا إلى غيره من الأعراض، فلا يلزم التسلسل.
وإذا قال المجسم أيضا: قولكم أن الله موجود بلا مكان أي أن الله موجود بلا فراغ متوهم، أي أن وجوده ذهني وهذا انكار لوجود الله.
وجواب ذلك أن المكان له معنيان:
الأول: المكان هو الجرم الذي استقر عليه جرم آخر.
ومعنى قول أهل السنة أن الله موجود بلا مكان معناه أنه موجود ليس كالموجودات، فليس هو جسما ولا يحتاج لجسم آخر حتى يستقر عليه.
الثاني: المكان هو العرض الذي قام بجسم. و معنى قول أهل السنة أن الله موجود بلا مكان، هو أنه ليس جرما تقوم به الأعراض الحادثة.
و على القول بأن المكان هو الحيز المتوهم، فمعنى ذلك عند أهل السنة أنه متوهم إذا خلى من جرم، وأما إذا شغله جرم فهو وجودي قطعا. وبما أن الله ليس جسما فمعنى قول المسلمين: الله موجود بلا مكان، أي لا مناسبة بينه وبين الفراغ المتوهم أو الخلاء او العدم أو حتى الأمكنة الوجودية.
فالعرش له مكان وهو العلو على سائر الخلق، وهذا أمر ثابت في الشرع، فهو مكان وجودي، وليس مجرد أمر ذهني. والا فانكار مكان العرش وهو العلو، تكذيب للشرع.
وزعم شيخ المجسمة ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية أن الحيز/ المكان هو أمر عدمي في الخارج و الواقع، و لا وجود له في غير الذهن، ونسب ذلك للجمهور بزعمه. ثم أتى بقول ما سبقه به أحد من العالمين وهو قوله أن الله في مكان عدمي غير مخلوق.
وهذا محض افتراء، فالجمهور فصّلوا و قالوا أن المكان هو أمر عدمي إذا لم يقم بجسم فيمكن توهمه في الذهن أو تقديره فقط من غير أن يكون موجودا في الخارج، و أما إذا قام بجسم فهو موجود في الواقع، حقيقة. وهذا قول الفخر الرازي في المطالب العالية و إمام الحرمين في الشامل.
وقد رد محققو الأشاعرة وغيرهم من أهل السنّة على هذا التصور، مؤكدين أن المكان لازم للأجسام المخلوقة، وأنه لا ينفك عنها من حيث الوجود، مما يجعله عرضاً مخلوقاً، وليس مجرد اصطلاح ذهني.
ويُستدل على هذا المعنى بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولا شيء معه”، وهو نصّ صريح في إثبات أن الله كان موجودًا في الأزل من غير وجود جواهر و لا أعراض، وبالتالي من غير وجود مكان لأن المكان كما أسلفنا هو عرض و أيضا شىء من الأشياء.
وأما على أصول المجسمة فإن الله في الأزل كان في مكان وبالتالي فهو جسم لأن المكان من لوازم الأجسام.
ولا معنى لقول ابن تيمية أيضا أن الله في مكان عدمي.
قال الفخر الرازي أيضا في مفاتيح الغيب عند تفسيره لسورة الأعراف: ” العدم نفي محض ، وعدم صرف ، وما كان كذلك امتنع كونه ظرفا لغيره وجهة لغيره”. انتهى
وكلام ابن تيمية مآله أيضا القول بأن الله نفسه معدوم والعياذ بالله، فكيف يصح القول بأن العدم ظرف لشىء موجود؟
و كيف يصح القول بوجود مكان عدمي فوق العرش ؟
هذا تناقض، إذ لا يصح وجود ما هو عدمي.
وزيادة على ذلك فإنه يوجد فوق العرش – الذي يزعم ابن تيمية أنه المكان العدمي- كتاب خلقه الله كُتب فيه: ان رحمتي سبقت غضبي. وهذا يدل أن فوق العرش مكان.
العجيب أن ابن تيمية نفسه صرح في تفسيره لسورة الأعلى بأن العرش ليس محلا ولا ظرفا لله عز وجل حيث قال: “والسلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا ” إنه فوق العرش وإنه في السماء فوق كل شيء ” لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاء سبحانه وتعالى عن ذلك بل هو فوق كل شيء وهو مستغن عن كل شيء وكل شيء مفتقر إليه . وهو عال على كل شيء وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته . وكل مخلوق مفتقر إليه وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق “. انتهى


مقالات السلف في تنزيه الله عن الجهة والحد والمكان
1- روى اللالكائي في كتابه شرح السنة في الجزء 3 صحيفة 441 عن أم سلمة رضي الله عنها – توفيت سنة 62 هجري – أنها قالت: ” الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول و الاقرار به إيمان و الجحود به كفر” انتهى
ومرادها بقولها “غير مجهول” أنه معلوم وروده في القرآن بدليل رواية أخرى عند اللالكائي و هي: ” الاستواء مذكور” أي مذكور في القرآن، و قول أم سلمة : ” و الكيف غير معقول، معناه أن الاستواء بمعنى الهيئة كالجلوس لا يُعقل في حق الله أي لا يقبله العقل لكونه من صفات الخلق لأن الجلوس لا يصح إلا من ذي أعضاء كالألية و الركبة تعالى الله عن ذلك، ووصف الله بالجلوس كفر و لو بزيادة “لا كجلوسنا”
وهذا اللفظ مروي أيضا عن الإمام مالك، رواه عنه الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات بسند صحيح.
فالاستواء الذي يقتضي الكيف، كالجلوس والقعود والتغير لا يعقله الانسان، لان الخالق لا يوصف به.
2- قال أبو حنيفة المتوفى سنة 150 هجري في «الوصية» : «وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجًا لَمَا قَدرَ على إيجاد العالم وتدبيره وحفظه كالمخلوقين، ولو كان في مكان محتاجًا للجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله». انتهى
راجع نسبة الكتاب لأبي حنيفة:
https://www.facebook.com/share/p/nSuZkbQDgfz6gMXd/
وقال في «الفقه الأبسط» «كان الله ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أينٌ ولا خلقٌ ولا شىء وهو خالق كل شىء». انتهى
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/xhzxDdGDJ8BbYiiP/
3 – أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ المتوفى سنة 182 هجري، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 هجري
نقل الطحاوي في عقيدته المشهورة بين المسلمين و التي أولها : “هذا ذِكرُ بيانِ عقيدةِ أهلِ السنّةِ والجماعةِ على مذهبِ فُقهاءِ المِلّةِ: أبي حنيفةَ النعمانِ ابنِ ثابتٍ الكوفيّ، وأبي يوسفَ يعقوبَ بنِ إبراهيمَ الأنصاريّ، وأبي عبدِ الله محمدِ ابنِ الحسنِ الشيْبانيّ، رِضوانُ اللهِ عليهم أجمعينَ، وما يعتقدونَ من أصولِ الدينِ، ويَدينون بهِ لربِّ العالمين” ثم قال: “تعالى – أي الله- عن الحدود و الغايات و الأركان و الأعضاء و الأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات” . انتهى
وأبو يوسف، قال عنه ابن معين: “ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ، ولا أصح رواية من أبي يوسف”. وروى عباس، عن ابن معين أنه قال: “أبو يوسف صاحب حديث، صاحب سنة”.
وقال النسائي في طبقات الحنفية: ” وأبو يوسف ثقة”. انتهى
4- نقل أبو العباس المبرد المتوفى سنة 285 هجري قول الإمام على أن الله لا يتحيز في مكان.
https://www.facebook.com/share/p/g6WinEaoXdyKGfcQ/
5- قال ابن جرير الطبري المُتوفى سنة 310 هـجري في تاريخه تحت فصل:” القول في الدلالة على أن الله عز و جل القديم الأول قبل شيء وأنه هو المحدث كل شيء بقدرته تعالى ذكره” ما نصه : “فمن الدلالة على ذلك أنه لا شىء في العالم مشاهَد إلا جسم أو قائم بجسم، وأنه لا جسم إلا مفترِق أو مجتمع، وأنه لا مفترِق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله،ولا مجتمع منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق،وأنه متى عدِمَ أحدهما عدم الآخر معه، وأنه إذا اجتمع الجزءان منه بعد الافتراق، فمعلوم أن اجتماعهما حادث فيهما بعد أن لم يكن،وأن الافتراق إذا حدث فيهما بعد الاجتماع فمعلوم أن الافتراق فيهما حادث بعد أن لم يكن وإذا كان الأمر فيما في العالم من شىء كذلك، وكان حكم ما لم يُشاهد وما هو من جنس ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخلُ من الحدث لا شك أنه محدَث بتأليف مؤلِّف – بكسر اللام المشددة – له إن كان مجتمعًا، وتفريق مفرِّق – بكسرالراء المشددة- له إن كان مفترِقًا؛ وكان معلومًا بذلك أن جامع ذلك إن كان مجتمعًا، ومفرّقه إن كان مفترقًا مَن لا يشبهه ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات الذي لا يشبهه شىء،وهو على كل شىء قدير. فبيِّنٌ بما وصفنا أن بارىء الأشياء ومحدِثها كان قبل كل شىء – أي وقبل الزمان والمكان وغيرهما من المخلوقات- وأن الليل و النهار و الزمان و الساعات محدثات, و أن محدثها الذي يدبرها و يصرفها قبلها, إذ كان من المحال أن يكون شئ يُحدث شيئا إلا و مُحدثه قبله, وأن في قوله تعالى ذكره: ” أفلا ينظرون إلى الابل كيف خُلقت -17- وإلى السماء كيف رُفعت- 18- وإلى الجبال كيف نصبت- 19 -و إلى الأرض كيف سُطحت- 20 – الغاشية- لأبلغ الحجج و أدل الدلائل لمن فكر بعقل و اعتبر بفهم على قدم بارئها وحدوث كل ما جانسها و أن لها خالقا لا يشبهها”. انتهى
وقال: ” فتبين إذا أن القديم بارىء الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شيء وهو الكائن بعد كل شيء والأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء وأنه كان ولا وقت ولا زمان ولا ليل ولا نهار ولا ظلمة ولا نور إلا نور وجهه الكريم ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا نجوم وأن كل شيء سواه محدث مدبر مصنوع انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا معين ولا ظهير سبحانه من قادر قاهر “. انتهى
وقال أيضا:”لا تحيط به الأوهام، ولا تحويه الأقطار، ولا تدركه الأبصار” انتهى
فقوله لا تحويه الأقطار نص صريح في نفي المكان و الجهة عن الله عز و جل.
6-قال أبو عوانة الاسفراييني في مقدمة مسنده: ” وَسَمِعتُ بعض أصحابنا يَذكُر هذا التحميد، فقال: «الحمد لله الذي ابتدأ الخلق بنعمائه، وتغمَّدهم بحُسْن بلائه، فوقف كل امري منهم في صباه على طلب ما يحتاجُ إليهِ مِن غذائه، وسَخَّر له مَنْ يكلوه إلى وقت استغنائهِ، ثم احتجَّ عَلى مَن بلغ منهم بآلائه وأعذر إليهم بأنبيائه، فشرح صدر من أحَبَّ هُداه من أوليائه وطبعَ على قلبِ مَن لم يُرِدْ إرشاده من أعدائه، الذي لم يزل بصفاته وأسمائه، الذي لا يشتمل عليه ،زمان ولا يحيط به مكان ثم خلق الأماكن والأزمان”. انتهى
7- قال اللغوي أبو اسحاق إبراهيم بن محمد الزجاج السري الحنبلي المتوفى سنة 311 هجري – من تلاميذ الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل- ، في تفسير أسماء الله الحسنى ما نصه: ” العلي: هو فعيل في معنى فاعل، فالله تعالى عال على خلقه وهو عليٌّ عليهم بقدرته، ولا يجب أن يذهب بالعلو ارتفاع مكاني، إذ قد بينا أن ذلك لا يجوز في صفاته تقدست، ولا يجوز أن يكون على أن يتصور بذهن، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا” انتهة.
وقال أيضا : “والله تعالى عال على كل شىء، وليس المراد بالعلو: ارتفاع المحلِّ، لأن الله تعالى يجل عن المحل والمكان، وإنما العلو علو الشأن وارتفاع السلطان ” انتهى
8- ابن عبد ربه القرطبي الكتوفى سنة 328 هجري
https://www.facebook.com/share/p/1FEFnH8rVa/
9- قال ابن حبان المتوفى سنة 354 هجري في كتابه الثقات ما نصه: “الحمد لله الذي ليس له حد محدود فيحتوى، ولا له أجل معدود فيفنى، ولا يحيط به جوامع المكان ولا يشتمل عليه تواتر الزمان”. انتهى
و قال رحمه الله في صحيحه: “صِفَاتُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلا لا تُكَيَّفُ ، وَلا تُقَاسُ إِلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ”. انتهى
وقال عن الله: ” وهم في هذه اللفظة حماد بن سلمة من حيث ” في غمام ” إنما هو ” في عماء ” ، يريد به أن الخلق لا يعرفون خالقهم من حيث هم ، إذ كان ولا زمان ولا مكان ، ومن لم يعرف له زمان ، ولا مكان ولا شيء معه ، لأنه خالقها ، كان معرفة الخلق إياه كأنه كان في عماء عن علم الخلق ، لا أن الله كان في عماء إذ هذا الوصف شبيه بأوصاف المخلوقين .” انتهى
ومجمل اعتقاد السلف ان العلو الحسي والتحيز والمكان والجلوس منفي عن الله. قال ابن كثير في تفسيره عند قول الله تعالى: “ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ” ما نصه: “فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شئ من خلقه و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ”. انتهى
فانظر لقوله: ” من غير تكييف” وقوله “والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله”، معناه أن السلف كانوا ينفون الكيف والظاهر المتبادر عن الله، جملة وتفصيلا.
ثم إن نفي المكان عن الله، وما اشتهر بين أهل السنة من قولهم: “كان ولا مكان ، ولم يتغير عما كان” لم ينكرها قبل ابن تيمية الا اثنين:
– هشام بن الحكم الرافضي لتجسيمه.
قال الصفدي في الوافي بالوفيات: ” رئيس الهشامية هشام بن الحكم الكوفي الرافضي رئيس الطائفة الهشامية كان خزازا وكان ضالا ومشبها: وقال كان الله ولا مكان ثم تحرك فحدث مكانه”. انتهى
– أبو العلاء المعري لإلحاده. وقد أورد له الذهبي بعض أشعاره الإلحادية منها قوله :
قلتم لنا خالق قديم … صدقتم هكذا نقول
زعمتموه بلا زمان … ولا مكان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء … معناه ليست لكم عقول
فسلف المجسمة في انكار تنزيه الله عن المكان هم الرافضة والملاحدة.
وحتى عبدُ الغني المقدسي زعيم المجسمة، كان قد أقر بنفي المكان عن الله، لكنه نسب له التغير، فقد قال سبط ابن الجوزي في ترجمته: فصار الحافظ يقعد بعد العصر، فذكر عقيدته على الكرسي، فاتفق محيي الدين بن زكي الدين، والخطيب الدولعي وجماعة من الدماشقة… فقالوا: هذا قد أضل الناس، ويقول بالتشبيه. فعقدوا له مجلسا، وأحضروه، فناظرهم، فأخذوا عليه مواضع؛ منها قوله: كان الله ولا مكان، وليس هو اليوم على ما كان. ومنها: ولا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة النزول. ومنها: مسألة الصوت والحرف. فقالوا له: إذا لم يكن على ما كان، فقد أثبت له المكان، وإذا لم تنزهه تنزيها ينفي حقيقة النزول فقد أجزت عليه الانتقال. وأما الحرف والصوت، فإنه لم يصح عن إمامك الذي تنتمي إليه فيه شيء، وإنما المنقول عنه أنه كلام الله لا غير. وارتفعت الأصوات، فقال له صارم الدين: كل هؤلاء على ضلالة وأنت على الحق؟ ! فقال: نعم. فأمر الأسارى، فنزلوا إلى جامع دمشق، فكسروا منبر الحافظ”. انتهى
وهذا نقله أيضا الذهبي في سيره وتاريخه.
فعبد الغني سلّم بالقول: “كان الله ولا مكان”، ولم يسلم بالقول “وهو الآن على ما عليه كان”، لأنه حمل حديثَ النزول على ظاهره وهو الانتقال من مكان عال إلى سُفل، فجعل معبوده يتغير من حال إلى حال.
لكن عبد الغني المقدسي لم يخض في خلو الله من العرش وقت النزول كما خاض فيه ابن تيمية، بل هو بدع من تكلم في ذلك، فقد قال عبد الرزاق البدر في تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي ما نصه: “ثم قال الحافظ عبد الغني”ـ رحمه الله ـ: ” ومن قال يخلو العرش عند النزول أو لا يخلو، فقد أتى بقول مبتدع ورأي مخترع ” يشير المصنف ـ رحمه الله ـ إلى مسألة تتعلق بنزول الله عز وجل إلى سماء الدنيا، وهي: حينما ينزل هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ ” والأقوال التي ذكرت في هذه المسألة ثلاثة، لخصها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:”منهم من ينكر أن يقال: يخلو أو لا يخلو، كما يقول ذلك الحافظ عبد الغني وغيره. ومنهم من يقول: بل يخلو منه العرش، وقد صنف عبد الرحمن بن منده مصنفا في الإنكار على من قال: لا يخلو منه العرش … والقول الثالث، وهو الصواب، وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أنه لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه، مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه”. انتهى
فعلم بذلك ان عبد الغني المقدسي مخالف لابن تيمية في هذه المسألة.
وحاصل ما تقدم أن عبارة “كان ولا مكان ، ولم يتغير عما كان” ، عبارة مشهورة بين العلماء سواء كانوا مفسرين أم محدثين أم فقهاء أم من غيرهم، وسواء كانوا أشاعرة أم غير أشاعرة حتى ممن يرتضيهم ابن تيمية كالسجزي وابن موهب والعمراني وغيرهم.
بل ان ابن تيمية نفسه نقل في ثنايا ردِّه على الإمام الفخر الرازي في تلبيس الجهمية: “وقال الإمامُ أحمد: إذا أردت أن تَعلَم أنَّ الجهميَّ كاذبٌ على الله حين زعمَ أنَّ اللهَ في كلِّ مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقُل: ألَيس الله كان ولا شيء معه؟ فيقول: نعم…”. انتهى
وفي مواضع أخرى نقل الحرانيُّ عن إمامه أحمد بن حنبل أنه قال: ” أليس الله كان ولا شيء معه؟”. انتهى
الأصول الفلسفية لدعوى المكان العدمي: الجزء الثالث
إشكالية المكان العدمي في العقيدة الحشوية
يزعم بعض المنتسبين إلى التجسيم وجود نوعٍ من الأمكنة يسمّى “الحيز العدمي”. وهو ليس شيئًا موجودًا، بل “عدم ممتدّ”، أي خلاء خالٍ من المادة. ثم يبنون على هذا التصوّر المبتدع القول بأن الله تعالى فوق العالم في “مكان عدمي” لا يندرج تحت المخلوقات، لينفصلوا بذلك عن القول بأن الله تعالى في مكان موجود مخلوق.
وهذا التصوّر من حيث البناء المنطقي والعقلي والشرعي باطل، لأن الامتداد خاصّ بالوجود لا بالعدم. فالممتدّ هو ما كان ذا طول وعرض وعمق، وهذه كلّها صفات وجودية لا يتّصف بها العدم، لأن العدم لا شيء، واللاشيء لا يُعقل أن يحمل صفات الموجودات.
إذن، القول بــ“عدمٍ ممتدّ” جمعٌ بين النقيضين، وهو من قبيل قول القائل: “جسم بلا حجم لكنه عظيم الحجم”.
فهو تركيب لغوي يُظَنّ أنه مفهوم، لكنه في الحقيقة محال منطقيًا، لأن تصور “الامتداد” يستلزم تصور “الوجود”، ولا يمكن فرض امتداد لشيء لا وجود له أصلًا.
ثم إن كل ممتدّ مركّب من أبعاد، وكل ما له أبعاد فهو حادث.
فإن سلّم الحشوي بأن “العدم ممتدّ”، فقد جعله جسمًا ذا أبعاد، أي شيئًا موجودًا، وبالتالي يصبح “المكان العدمي” عنده مخلوقًا محدودًا، وهو بالضبط ما كان يحاول نفيه.
فالمحاولة إذن تناقض ذاتها، ولا تنتج إلا مزيدًا من الإلزام بالتجسيم.
وأما محاولة بعضهم تفسير “العدم الممتدّ” بأنه خلاء، فهذا خلط بيّن بين مفهومين متضادين:
– العدم: لا وجود له أصلًا، ولا يُتصوّر فيه امتداد، ولا يُنسب إليه فوق أو تحت.
– الخلاء: مكان موجود، حقيقي، مخلوق، لكنّه خالٍ من الأجسام.
فالخلاء يتصف بالوجود ، والعدم لا وجود، وبالتالي فجعْل العدم خلاء أو الخلاء عدمًا مغالطة مفهومية، لأنهما لا يشتركان في أي خاصية بنيوية تسمح بتوحيدهما في مفهوم واحد.
وأما محاولة بعضهم الآخر تفسير “المكان العدمي” بأنه العَمَاء، فهو باطل، لأن العماء في لغة العرب، سحاب كثيف مظلم.، وهو شيء موجود ، وليس عدمًا. وتسوية الشيء بالعدم خطأ عقلي ولغوي.
فلما كان العَمَاء “سحابًا” أو “ضبابًا لطيفًا”، فهذا جسم له حجم وامتداد. والجسم الحادث مخلوق. فإذا جعلوا الله في “عماء”، فقد جعلوا الله في مخلوق. وهذا عندهم كفر. فكيف ينسبونه لله؟
وزيادة على ذلك فإن العَمَاء شيء مرئي أو متخيّل. والعدم لا يُرى ولا يُتخيَّل. فخلطهما تناقض بيّن.
وزيادة على كل ما تقدم، فإن الإضافة لا تصح إلا بين موجودين.
فلا يقال: “فوق العدم”، أو “إلى جانب العدم”، أو “في العدم”، لأن هذه التراكيب تفترض طرفًا يمكن الإشارة إليه، بينما العدم لا يقبل الإشارة .
وعليه فقول القائل: “الله فوق العدم” مجرد سفسطة، ولا يختلف منطقيًا عن قول آخر: “الله فوق اللاشيء”، وهو كلام لا معنى له، ولا يفيد في نفي الحدّ أو الجهة، بل يزيد الطرح إشكالًا.
بل إن هذا الاصطلاح مجرد مصطلح فلسفي روّج له ابن رشد الحفيد، وهو تركيب وُضع لأجل التخلص من لازم القول بالتجسيم، فمحاولة اختراع “مكان ليس بمكان” هي في حقيقتها محاولة لإخفاء التجسيم بعبارات متلونة.
فمن يثبت لله تعالى جهة فوق، ثم يقول إن هذه الجهة ليست مخلوقة ولا موجودة بل هي “عدمية ممتدة”، لم ينفِ المكان عن الله، بل أثبت له مكانًا لكنه سمّاه عدمًا.
والنتيجة واحدة:
إثبات التحيّز والحدّ والجهة لله تعالى، وهو قول مخالف لصريح الكتاب، وأصول التنزيه.
