الأصول الفلسفية لدعوى المكان العدمي: الجزء الأول
قال محمود قاسم في تحقيقه لكتاب مناهج الأدلة لابن رشد الحفيد ما نصه: ” فما السبب في هذا الاضطراب الذي نلمسه عند ابن رشد، أي ما الذي يدعوه إلى إثبات الجهة بعد أن نفى الجسمية عن الله سبحانه؟ يزعم الفيلسوف أنه يريد التوفيق هنا بين العقيدة الإسلامية وفلسفة أرسطو ؛ فإن هذا الأخير ينكر وجود خلاء خارج العالم، ويقول إن الله يوجد في هذا الاتجاه، أى على حافة العالم وهو ليس بجسم . فالجهة إذن لاتتنافى في ظنه مع عدم الجسمية . وقد أحس الفليسوف القرطبي أن حجته واهنة واهية ، فأراد لها أن تبدو بمظهر القوة ، وذلك بأن يفرق بين الجهة والمكان. لكنه لم يكن أكثر توفيقاً في هذا الأمر أيضاً. فهو يقول إن الله يوجد في اتجاه السماء ولكنه لا يشغل مكاناً معيناً . وهذه سفسطة . فإذا قيل له كيف يمكن أن نتصور أن إلها غير جسمي يوجد في جهة معينة لم يجد جواباً إلا أن يعترف بوجود نوع من التناقض، وبأنه يجب أن ننهى العامة عن البحث في أمر الجهة . وقد خُيّل إليه أن العلماء لا يجدون مشقة في تصور موجود غير جسمي في جهة معينة، والحق أن المشقة بالغة، على عكس ما توهم ؛ إذ سوف يكون الإله محدوداً . هذا إلى أن التفرقة بين الجهة والمكان غير مجدية. انتهى
مما تقدم يظهر جليا ان أبا الوليد بن رشد الحفيد حاول أن يبرهن على وجود الجهة بالنسبة إلى الله تعالى وذلك بالتوفيق بين الآيات القرآنية وبين فلسفة أرسطو. فبدأ أولًا بالتفرقة بين الجهة والمكان حتى يستطيع تجنب الشبهة التي آثارتها المعتزلة وهي: إذا كان الله غير جسم فكيف يمكن أن يكون في جهة معينة؟ فقال تبعاً لنظرية أرسطو إنه لا وجود لفراغ أو مكان خارج الفلك الأقصى، إذ لو كان هناك مكان خارج هذا الفلك لوجب أن يوجد مكان ثانٍ يحيط بهذا المكان وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له. فإذا ثبت أنه لا وجود للمكان خارج العالم ترتب على ذلك أن الله الذي يوجد في هذا الاتجاه ليس جسما لأنه لا يحل في مكان. فالقول بأن الله يوجد في هذا الاتجاه لا يتضمن الاعتراف بجسميته؛ بل ذلك دليل على عدم جسميته.
وهكذا يتبين أن ابن رشد حاول جهده التقريب بين ظاهر النصوص القرآنية، وبين فلسفة أرسطو. ففي رأيه -كما في رأي ارسطو لا يمكن أن توجد صلة مادية بين الله وبين السطح الخارجي للفلك الأقصى.
وقد توسع ليون جوتييه في تفسير أوجه الشبه بين الفيلسوفين في كتابه الذي خصصه لدراسة نظرية ابن رشد في التوفيق بين الدين والفلسفة، و أكد أنهما يذهبان للقول بأن وراء العالم لا يوجد مكان، لأن المكان والزمان إنما يصدقان على الأجسام. وهذا هو السبب في أن الجهة التي يوجد بها الله لا توصف بأنها مكان بزعمهما.
وهذه العقيدة الفاسدة اقتبسها ابن تيمية من أسلافه الفلاسفة، حيث بنى معتقده على تصورٌ للذات الإلهي يقوم على إثبات الجهة والحيّز، وجعل الإله فوق العرش، خارج العالم، مباينًا له بحدّ. وقد شاعت هذه التصوّرات في بين المنتسبين زورا إلى السلفية، كهذا المدعو محمد خليل هراس، وتولّد عنها استخدام مصطلحات مستحدثة مثل: المكان العدمي، والمكان غير المخلوق، وهي مفاهيم لا تستند إلى أساسٍ شرعي أو لغوي أو عقلي معتبر، بل تُفضي، وفق مقتضياتها، إلى تصوّرٍ يتعارض مع أصول التوحيد ومع القواعد العقلية المقرّرة.
العجيب أن هراس لا ينفي أن ابن تيمية تأثر بابن رشد في مسألة المكان العدمي، كما في كتابه باعث النهضة الاسلامية.
وبعض المتبنين لهذه الاتجاهات يعتمدون على نصوص غير ثابتة، كالرواية المنسوبة إلى أبي رزين، ليُثبتوا وجود “مكان” كان تحت الله في الأزل، أو ليقرّروا أن الله كان في “عماء”.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1BoXr9jPo6/
كما يذهب بعضهم إلى اعتبار هذا “العماء” أو “الخلاء” مكانًا أزليًا غير مخلوق، ولا خالق، ولا داخلًا في العالم، مما يستلزم إثبات موجودٍ ثالث لا يندرج تحت ثنائية الخالق والمخلوق.
وامتدادًا لذلك، ظهر بين بعضهم تقسيم مبتدع للموجودات يضيف قسماً ثالثًا يزعم وجود كيانات ليست خالقة ولا مخلوقة، مثل “المكان العدمي”، و”زمان الله”، و”القرآن غير المخلوق الموجود خارج العالم” بحسب بعض تصوّراتهم.
وهذه المفاهيم تعكس بقوة التأثيرات الفلسفية الأرسطية، أكثر من كونها مستندة إلى نصوص قطعية أو منهج سلفي منضبط.




الأصول الفلسفية لدعوى المكان العدمي: الجزء الثاني
اثبات أن فوق العرش مكان
قال ابن تيمية في منهاجه: وكذلك الكلام في لفظ الجهة، فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم، فإذا أريد الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة، وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر. فمن قال: الباري في جهة، وأراد بالجهة أمرا موجودا، فكل ما سواه مخلوق له. ومن قال إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ، وإن أراد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم، وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب، وليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات، وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي فالعدم لا شيء. انتهى.
ومعنى كلام ابن تيمية أن كلمة “الجهة” ليست دائمًا بمعنى واحد؛ بل قد يُراد بها أمر موجود بالفعل، وقد يُراد بها أمر غير موجود، أي عدمي.. وعلى حسب المعنى المقصود، يختلف الحكم في العقيدة.
فالجهة، بمعنى الأمر الموجود، فهو مثل: الفلك الأعلى، أو أي جسم موجود في الكون.
فمن قال إن الله في “جهة” وهو يقصد مكانًا موجودًا، فقد أخطأ، لأن الله ليس داخل شيء من مخلوقاته.
وأما الجهة، بمعنى الأمر العدمي غير الموجود، فهو ما يُسمّى عنده”فوق العالم” وهذا بزعمه ليس مكانًا موجودًا مستقلًّا، بل هو وصف عدمي بمعنى: ليس فوق العالم شيء مخلوق.
فإذا قصد المتكلم هذا المعنى، فهذا معناه”إن الله فوق العالم”، وهذا عنده قول صحيح، لأن الله ليس فوقه أي مخلوق، وليس هو
داخل أي مكان.فبحسب ابن تيمية، فالجهة بمعنى “ما فوق العالم” ليست شيئًا موجودًا، بل هي مجرد تعبير عن عدم وجود شيء فوق العالم، وليس وصفًا لمكان يحتوي الله.، ولهذا قال: “العدم لا شيء” أي أن الجهة بهذا المعنى ليست مكانًا ولا وجودًا مستقلًا.
وهذا الذي يدعيه ابن تيمية هو كلام من كيسه أخذهمن ابن رشد الحفيد والذي اقتبسه بدوره من ارسطو
وبحسب التصور الأرسطي فكل ما وقع خارج الفلك الأقصى فهو مجرد، غير مادي ولا محسوس، وبالتالي من كان بجهة العلو خارج العالم فهو عنده ليس بجسم ولا جسماني ولا مادي ولا زماني ولا مكاني.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1Bcnq76n9j/
فكلام ابن تيمية في المجمل قول لا دليل عليه، لأنه لا يمتنع عقلاً ولا شرعًا أن يكون فوق العرش مكان. والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله “لمّا قضى اللهُ الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي”. وفي رواية في صحيح البخاري: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى ” ويحذّركم الله نفسه” بلفظ “وهو وَضْعٌ عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي”، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري :”وضع: بفتح فسكون، أي موضوع، ووقع كذلك في “الجمع” للحُمَيْدِي بلفظ “موضوع” وهي رواية الإسماعيلي” انتهـى
وفي رواية في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، ورد الحديث بلفظ “وهو مرفوع فوق العرش” انتهـى
فلولا أن فوق العرش مكانًا لم يقل النبي عن ذلك الكتاب: فهو موضوع عنده فوق العرش. وأما تأويل البعض لكلمة فوق العرش بأن معناها دون العرش واحتجاجهم بأن فوق تأتي لغة بمعنى دون فهو مردود برواية ابن حبان لهذا الحديث بلفظ “وهو مرفوع فوق العرش”، فبطل هذا التأويل لأن كلمة مرفوع تبطل ذلك إبطالاً صريحًا، ويُرد أيضًا برواية البخاري بلفظ “وهو وَضْعٌ عنده على العرش”. ويقال لهم: التأويل للنص لا يجوز إلا لضرورة اقتضاء الدليل العقلي لذلك أو اقتضاء الدليل النقليّ الثابت كما قرر ذلك الأصولييون، فقالوا: تأويل النص لغير ذلك عبث والنص يصان عن العبث.
وأما معنى “عنده” المذكور في الحديث فهو للتشريف كما في قوله تعالى: ” في مقعد صدق عند مليك مقتدر” – سورة القمر: 55-، وقد أثبت اللغويون أن “عند” تأتي لغير الحيّز والمكان، فكلمة “عند” في هذا الحديث لتشريف ذلك المكان الذي فيه الكتاب.
وقال الحافظ المحدّث ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي المتوفى سنة 826هـجري في طرح التثريب ما نصه : ” وقوله ـ أي النبي ـ “فهو عنده فوق العرش” لا بد من تأويل ظاهر لفظة “عنده” لأن معناها حضرة الشىء والله تعالى منزه عن الاستقرار والتحيّز والجهة، فالعنديّة ليست من حضرة المكان بل من حضرة الشرف أي وضع ذلك الكتاب في محل معظّم عنده” انتهـى
فيتلخص مما تقدم أنّ القول بوجود كتابٍ فوق العرش ــ وهو جسم ذو حجم يشغل حيزًا من الفراغ ــ يستلزم، إثبات وجود «مكان» فوق العرش؛ إذ إنّ الحيّز الذي يشغله الجسم يُطلق عليه اسم المكان. والله منزه عن التحيز في المكان أكان ذلك في ما تحت العرش أو فيما فوق العرش، فعلم بذلك أن معنى قولنا الله فوق العرش، هي فوقية مكانة وقهر واستعلاء.


الأصول الفلسفية لدعوى المكان العدمي: الجزء الثالث
إشكالية المكان العدمي في العقيدة الحشوية
يزعم بعض المنتسبين إلى التجسيم وجود نوعٍ من الأمكنة يسمّى “الحيز العدمي”. وهو ليس شيئًا موجودًا، بل “عدم ممتدّ”، أي خلاء خالٍ من المادة. ثم يبنون على هذا التصوّر المبتدع القول بأن الله تعالى فوق العالم في “مكان عدمي” لا يندرج تحت المخلوقات، لينفصلوا بذلك عن القول بأن الله تعالى في مكان موجود مخلوق.
وهذا التصوّر من حيث البناء المنطقي والعقلي والشرعي باطل، لأن الامتداد خاصّ بالوجود لا بالعدم. فالممتدّ هو ما كان ذا طول وعرض وعمق، وهذه كلّها صفات وجودية لا يتّصف بها العدم، لأن العدم لا شيء، واللاشيء لا يُعقل أن يحمل صفات الموجودات.
إذن، القول بــ“عدمٍ ممتدّ” جمعٌ بين النقيضين، وهو من قبيل قول القائل: “جسم بلا حجم لكنه عظيم الحجم”.
فهو تركيب لغوي يُظَنّ أنه مفهوم، لكنه في الحقيقة محال منطقيًا، لأن تصور “الامتداد” يستلزم تصور “الوجود”، ولا يمكن فرض امتداد لشيء لا وجود له أصلًا.
ثم إن كل ممتدّ مركّب من أبعاد، وكل ما له أبعاد فهو حادث.
فإن سلّم الحشوي بأن “العدم ممتدّ”، فقد جعله جسمًا ذا أبعاد، أي شيئًا موجودًا، وبالتالي يصبح “المكان العدمي” عنده مخلوقًا محدودًا، وهو بالضبط ما كان يحاول نفيه.
فالمحاولة إذن تناقض ذاتها، ولا تنتج إلا مزيدًا من الإلزام بالتجسيم.
وأما محاولة بعضهم تفسير “العدم الممتدّ” بأنه خلاء، فهذا خلط بيّن بين مفهومين متضادين:
– العدم: لا وجود له أصلًا، ولا يُتصوّر فيه امتداد، ولا يُنسب إليه فوق أو تحت.
– الخلاء: مكان موجود، حقيقي، مخلوق، لكنّه خالٍ من الأجسام.
فالخلاء يتصف بالوجود ، والعدم لا وجود، وبالتالي فجعْل العدم خلاء أو الخلاء عدمًا مغالطة مفهومية، لأنهما لا يشتركان في أي خاصية بنيوية تسمح بتوحيدهما في مفهوم واحد.
وأما محاولة بعضهم الآخر تفسير “المكان العدمي” بأنه العَمَاء، فهو باطل، لأن العماء في لغة العرب، سحاب كثيف مظلم.، وهو شيء موجود ، وليس عدمًا. وتسوية الشيء بالعدم خطأ عقلي ولغوي.
فلما كان العَمَاء “سحابًا” أو “ضبابًا لطيفًا”، فهذا جسم له حجم وامتداد. والجسم الحادث مخلوق. فإذا جعلوا الله في “عماء”، فقد جعلوا الله في مخلوق. وهذا عندهم كفر. فكيف ينسبونه لله؟
وزيادة على ذلك فإن العَمَاء شيء مرئي أو متخيّل. والعدم لا يُرى ولا يُتخيَّل. فخلطهما تناقض بيّن.
وزيادة على كل ما تقدم، فإن الإضافة لا تصح إلا بين موجودين.
فلا يقال: “فوق العدم”، أو “إلى جانب العدم”، أو “في العدم”، لأن هذه التراكيب تفترض طرفًا يمكن الإشارة إليه، بينما العدم لا يقبل الإشارة .
وعليه فقول القائل: “الله فوق العدم” مجرد سفسطة، ولا يختلف منطقيًا عن قول آخر: “الله فوق اللاشيء”، وهو كلام لا معنى له، ولا يفيد في نفي الحدّ أو الجهة، بل يزيد الطرح إشكالًا.
بل إن هذا الاصطلاح مجرد مصطلح فلسفي روّج له ابن رشد الحفيد، وهو تركيب وُضع لأجل التخلص من لازم القول بالتجسيم، فمحاولة اختراع “مكان ليس بمكان” هي في حقيقتها محاولة لإخفاء التجسيم بعبارات متلونة.
فمن يثبت لله تعالى جهة فوق، ثم يقول إن هذه الجهة ليست مخلوقة ولا موجودة بل هي “عدمية ممتدة”، لم ينفِ المكان عن الله، بل أثبت له مكانًا لكنه سمّاه عدمًا.
والنتيجة واحدة:
إثبات التحيّز والحدّ والجهة لله تعالى، وهو قول مخالف لصريح الكتاب، وأصول التنزيه.
